الطرطوشي

أبو بكر محمد بن الوليد بن محمد بن خلف بن سليمان بن أيوب القرشي الفهري الأندلسي الطرطوشي الفقيه المالكي الزاهد، المعروف بابن أبي رندقة؛ صحب أبا الوليد الباجي - المقدم ذكره - بمدينة سرقسطة، وأخذ عنه مسائل الخلاف وسمع منه، وأجاز له،وقرأ الفرائض والحساب بوطنه، وقرأ الأدب على أبي محمد ابن حزم-المقدم ذكره-بمدينة إشبيلية، ورحل إلى المشرق سنة ست وسبعين وأربعمائة وحج ودخل بغداد والبصرة، وتفقه على أبي بكر محمد بن أحمد الشاشي المعروف بالمستظهري الفقيه الشافعي - وقد تقدم ذكره - وعلى أبي أحمد الجرجاني، وسكن الشام مدة ودرس بها.

وكان إماما عالما كامل زاهدا ورعا دينا متواضعا متقشفا متقلالا من الدنيا راضيا منها باليسير، وكان يقول: إذا عرض لك أمران دنيا وأمر أخرى فبادر بأمر الأخرى يحصل لك أمر الدنيا والأخرى، وكان كثيرا ما ينشد:

إن لله عبـادا فـطـنـا

 

طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا

فكروا فيها فلما علمـوا

 

أنها ليست لحي وطنـا

جعلوها لجة واتـخـذوا

 

صالح الأعمال فيها سفنا

 

ولما دخل على الأفضل شاهنشاه ابن امير الجيوش - المقدم ذكره في حرف الشين - بسط مئزرا كان معه وجلس عليه، وكان إلى جانب الأفضل رجل نصراني فوعظ الأفضل حتى بكى، وأنشد:

ياذا الذي طاعته قـربة

 

وحقه مفترض واجـب

إن الذي شرفت من أجله

 

يزعم هذا أنـه كـاذب

 

وأشار إلى النصراني، فأقام الأفضل من موضعه. وكان الأفضل قد أنزل الشيخ في مسجد شقيق الملك بالقرب من الرصد وكان يكرهه، فلما طال مقامه به ضجر وقال لخادمه: إلى متى نصبر؟ اجمع لي المباح، فجمع له فأكله ثلاثة أيام، فلما كان عند صلاة المغرب قال لخادمه: رميته الساعة، فلما كان من الغد ركب الأفضل فقتل، وولي بعده المأمون بن البطائحي، فأكرم الشيخ إكراما كثيرا، وصنف له كتاب سراج الهدى وهو حسن في بابه.


وله من التصانيف سراج الملوك وكتاب بر الوالدين وكتاب الفتن وغير ذلك، وله طريقة في الخلاف. ورأيت أشعارا منسوبة عليه: فمن ذلك وقد ذكرها الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري في الترجمة التي جمعها للطرطوشي المذكور، وهي:

إذا كنت في حاجة مرسلا

 

وأنت بإنجازها مـغـرم

فأرسل بأكـمـه خـلابة

 

به صمم أغطش أبـكـم

ودع عنك كل رسول سوى

 

رسول يقال له الدرهـم

 

وقد سبق في ترجمة أبي الحسين أحمد بن فارس اللغوي بيتان يشتملان على أكثر ألفاظ هذه الإبيات، وهما:

إذا كنت في حاجة مرسلا

 

وأنت بها كلف مـغـرم

فأرسل حكيما ولا توصه

 

وذاك الحكيم هو الدرهم

 

وقال الطرشوشي المذكور: كنت ليلة نائما في بيت المقدس، فبننا أنا في جنح الليل غذ سمعت صوتا حزينا ينشد:

أخوف ونوم؟ إن ذا لعـجـب

 

ثكلتك من قلب فأنت كـذوب

أما وجلال الله لو كنت صادقـا

 

لما كان للاغماض منك نصيب

قال: فأيقظ النوام وابكى العيون.

وكانت ولادة الطرشوشي المذكور سنة إحدى وخمسين وأربعمائة تقريبا.

وتوفي ثلث الليل الأخير من ليلة السبت لأربع بقين من جمادى الأولى سنة عشرين وخمسمائة بثغر الإسكندرية، وصلى عليه ولده محمد، ودفن في مقبرة وعلة قريبا من البرج الجديد قبلي الباب الأخضر، رحمه الله تعالى؛ وذكر ابن بشكوال في كتاب الصلة أنه توفي في شعبان من السنة المذكورة. قلت: هكذا وجدت تاريخ وفاة هذا الشيخ في مواضع كثيرة، ثم ظفرت بدمشق في أوائل سنة ثمانين وستمائة بمشيخة جمعت لشيخنا القاضي بهاء الدين يوسف المعروف بابن شداد - المذكور في حرف الياء - ذكر فيها شيوخه الذين سمع عليهم ثم ذكر بعدهم الشيوخ الذين أجازوه فذكر في جملتهم الشيخ أبا بكر الطرشوشي المذكور؛ ولاخلاف أن ابن شداد مولده في سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، فكيف يجيزه الطرطوشي ووفاته في سنة عشرين وخمسمائة؟ فقد توفي قبل مولد ابن شداد بتسع عشرة سنة، وكان يمكن أن يقال: ربما وقع الغلط من الذي جمع المشيخة، لكن هذه النسخة التي رأيتها قرئت عليه، وكتب خطه عليها بالسماء فما بقي الغلط منسوبا إلى جامع المشيخة، بل يحتاج هذا إلى التحقيق من جهة أخرى وقد نبهت عليه ليكتشف عن ذلك من يقف عليه، ولا ينسبني إلى الغلط في ذلك، والله أعلم بالصواب.

والطرطوشي: بضم الطاءين المهملتين بينهما راء ساكنة وبعدها واو ساكنة ثم شين معجمة، هذه النسبة إلى طرطوشة، وهي مدينة في آخر بلاد المسلمين بالأندلس على ساحل البحر وهي شرق الأندلس.

ورندقة: بفتح الراء وسكون النون وفتح الدال المهملة والقاف، وهي لفظة فرنجية، سألت بعض الفرنج عنها فقال: معناها رد تعال. وقد تقدم الكلام علىوعلة في ترجمة الحافظ أبيطاهر أحمد بن محمد السلفي رحمه الله تعالى.