محمد بن داود الظاهري

أبو بكر محمد بن داود بن علي بن خلف الأصبهاني المعروف بالظاهري؛ كان فقيها أديبا شاعرا ظريفا، وكان يناظر أبا العباس ابن سريج - وقد سبق خبره معه في ترجمته - ولما توفي أبوه في التاريخ المذكور في ترجمة جلس ولده أبو بكر المذكور في حلقته، وكان على مذهب والده، فاستصغروه، فدسوا أليه رجلا وقالوا له: سله عن حد السكر، فأتاه الرجل فسأله عن السكر: ما هو؟ ومتى يكون الإنسان سكران. فقال: إذا عزبت عنه الهموم، وباح بسره المكتوم؛ فاستحسن ذلك منه، وعلم موضعه من العلم، وصنف في عنفوان شبابه كتابه الذي سماه الزهرة وهو مجموع أدب فيه بكل غريبة ونادرة وشعر رائق.

واجتمع يوما هو وأبو العباس ابن سريج في مجلس الوزير ابن الجراح فتناظرا في الإيلاء، فقال ابن سريج: أنت بقولك من كثرت لحظاته دامت حسراته أبصر منك في الإيلاء، فقال له أبو بكر: لئن قلت ذلك فإني أقول:

أنزه في روض المحاسن مقلتـي

 

وأمنع نفسي أن تنال مـحـرمـا

وأحمل من ثقل الهوى مالـو أنـه

 

يصب على الصخر الأصم تهدما

وينطق طرفي عن مترجم خاطري

 

فلولا اختلاسي رده لتـكـلـمـا

رأيت الهوى دعوى من الناس كلهم

 

فما إن أرى حبا صحيحا مسلمـا

 

فقل له ابن سريج: وبم تفتخر علي ولو شئت أنا لقلت:

ومساهر بالغنج من لحظاتـه

 

قد بت أمنعه لذيذ سـنـاتـه

ضنا بحسن حديثه وعتـابـه

 

وأكرر اللحظات في وجناته

حتى إذا ما الصبح لاح عموده

 

ولي بخاتم ربـه وبـراتـه

 

فال أبو بكر: يحفظ الوزير عليه ذلك حتى يقيم شاهدي عدل انه ولي بخاتم ربه، فقال أبو العباس ابن سريج: يلزمني في ذلك ما يلزمك في قولك:

أنزه في روض المحاسن مقلتي

 

وأمنع نفسي أن تنال محرمـا

فضحك الوزير وقال: لقد جمعتما ظرفا ولطفا وفهما وعلما.

 

ورأيت في بعض المجاميع هذه الأبيات منسوبة إليه:

لكل امرئ ضـيف يسـر بـقـربـه

 

وما لي سوى الأحزان والهم من ضيف

له مقلة ترمي الـقـلـوب بـأسـهـم

 

أشد من الضرب المدارك بالـسـيف

يقول خليلي: كيف صبرك بـعـدنـا؟

 

فقلت: وهل صبر فاسأل عـن كـيف

 

وحكى أبو بكر عبد الله بن أبي الدنيا أنه حضر مجلس محمد المذكور قال: فجاءه رجل فوقف عليه ورفع له رقعة، فأخذها وتأملها طويلا وظن تلامذته أنها مسألة، ثم قلبها وكتب على ظهرها وردها إلى صاحبها، فنظرنا فإذا الرجل علي بن العباس المعروف بابن الرومي الشاعر المشهور، وإذا في الرقعة:

يا ابن داود يا فقـيه الـعـراق

 

أفتنا فـي قـواتـل الأحـداق

هل عليهن في الجروح قصاص

 

أم مباح لهـا دم الـعـشـاق

 

وإذا الجواب:

كيف يفتنكم قتيل صـريع

 

بسهام الفراق والإشتياق

وقتيل التلاق أحسن حـالا

 

عند داود من قتيل الفراق

وكان عالما في الفقه وله تصانيف عديدة: منها كتاب الوصول إلى معرفة الأصول وكتاب الإنذار وكتاب الإعذار وكتاب الإنتصار على محمد ابن جرير وعبد الله بن شرشي وعيسى بن إبراهيم الضرير وغير ذلك.

وتوفي يوم الاثنين تاسع شهر رمضان سنة سبع وتسعين ومائتين وعمره اثنان وأربعون سنة، وقيل كانت وفاته سنة ست وتسعين، والأول أصح وفي يوم وفاته توفي يوسف بن يعقوب القاضي، رحمهما الله تعالى.

ويحكى أنه لما بلغت وفاته ابن سريج كان يكتب شيئا فألقى الكراسة من يده وقال: مات من كنت أحث نفسي وأجهدها على الاشتغال لمناظرته ومقاومته.