أبو العيناء

أبو عبد الله محمد بن القاسم بن خلاد بن ياسر بن سليمان، الهاشمي بالولاء، الضرير، مولى أبي جعفر المنصور، المعروف بأبي العيناء صاحب النوادروالشعر والأدب؛أصله من اليمامة ومولده بالأهواز ومنشؤه بالبصرة، وبها طلب الحديث وكسب الأدب، وسمع من أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد الأنصاري والعتبي وغيرهم، وكان من أحفظ الناس وأفصحهم لسانا، وكان من ظرفاء العالم،وفيه من اللسن وسرعة الجواب والذكاء ما لم يكن أحد من نظرائه، وله أخبار حسان وأشعار ملاح مع أبي علي الضرير.

وحضر يوما مجلس بعض الوزراء، فتفاوضوا حديث البرامكة وكرمهم وما كانوا عليه من الجود، فقال الوزير لأبي العيناء - وكان قد بالغ في وصفهم وما كانوا عليه من البذل والإفضال-: قد أكثرت من ذكرهم ووصفك إياهم، وإنما هذا تصنيف الوراقين، وكذب المؤلفين. فقال له أبو العيناء: فلم لا يكذب الوراقون عليك أيها الوزير؟ فسكت الوزير،وعجب الحاضرون من إقدامه عليه.

وشكا إلى عبيد الله بن سليمان بن وهب الوزير سوء الحال، فقال له: أليس قد كتبنا إلى إبراهيم في أمرك؟ قال: نعم، قد كتبت إلى رجل قد قصر من همته طول الفقر، وذل الأسر، ومعاناة الدهر، فاخفق سعيي وخابت طلبتي، فقال عبيدالله: أنت اخترته، فقال: وما علي أيها الوزير في ذلك وقد اختار موسى قومه سبعين رجلا فما كان فيهم رشيد، واختار النبي صلى الله عليه وسلم، عبد الله بن سعد بن أبي سرح كاتبافرجع إلى المشركين مرتدا، واختار علي بن أبي طالب رضي الله عنه أبا موسى الأشعري حاكما له فحكم عليه.

وإنما قال ذل الأسر لأن إبراهيم المذكور كان قد أسره علي بن محمد صاحب الزنج بالبصرة وسجنه فنقب السجن وهرب.

ودخل على أبي الصقر إسماعيل بن بلبل الوزير يوما فقال له ما الذي أخرك عنا يا أبا العيناء؟ فقال: سرق حماري، فقال: وكيف سرق؟ قال: لم أكن مع اللص فأخبرك، قال: فهلا أتيتنا على غيره، قال: قعد بي عن الشراء قلة يساري وكرهت ذلة المكاري، ومنة العواري. وخاصم علويا فقال:له العلوي:تخاصمني وأنت تقول كل يوم: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، فقال:لكني أقول: الطيبين الطاهرين، ولست منهم. ووقف عليه رجل من العامة فلما أحس به قال: من هذا؟ قال: رجل من بني آدم، فقال ابو العيناء: مرحبا بك أطال الله بقاءك، ماكنت أظن هذا النسل إلا قد انقطع.وصار يوما إلى باب صاعد بن مخلد فاستأذن عليه، فقيل هو مشغول بالصلاة، فقال: لكل جديدة لذة، وكان صاعد قبل الوزارة نصرانيا. ومر بباب عبد الله ابن منصور وهو مريض وقد صلح، فقال لغلامه: كيف خبره؟ فقال: كما تحبن فقال: ما لي لا أسمع الصراخ عليه؟ ودعا سائلا ليعيشه فلم يدع شيئا إلا أكله، فقال: يا هذا دعوتك رحمة فتركتني رحمة. ولقيه بعض أصحابه في السحر،فجعل يتعجب من بكورة، فقال أبو العيناء: أراك تشركني في الفعل،وتفردني بالتعجب. وذكر له أن المتوكل قال: لولا أنه ضرير لنادمناه، فقال: إن أعفاني من رؤية الأهلة وقراءة نقوش الفصوص فأنا أصلح للمنادمة. وقيل له: إلى متى تمدح وتهجو؟ فقال: ما دام المحسن محسنا والمسيء مسيئا، بل أعوذ بالله أن أكون كالعقرب التي تلسب النبي والذمي.

وذكر الزمخشري في كتابربيع الأبرار في باب الظلم قال أبو العيناء فقلت: قد تضافروا علي وصاروا يدا واحدة، فقال: "يد الله فوق أيديهم" - الفتح:10 - قلت: فإن لهم مكرا، قال: "ولايحيق المكر السيء إلا بأهله" - فاطر:43 - قلت هم كثير، قال: "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين" - البقرة:249-.

وكان بينه وبين ابن مكرم مداعبات، فسمع ابن مكرم رجلا يقول: من ذهب بصره قلت حيلته، فقال: ما أغفلك عن أبي العيناء! ذهب بصره فعظمت حيلته.وقد ألم أبو علي البصير إلى هذا المعنى يشير به إلى أبي العيناء، فقال:

 

قد كنت خفت يد الزمـا

 

ن عليك أن ذهب البصر

لم أدر أنك بالـعـمـى

 

تغنى ويفتقر الـبـشـر

 

وسمع ابن مكرم أبا العيناء يقول في بعض دعائه:يارب سائلك، فقال يا ابن الفاعلة، ومن لست سائله. وقال له ابن مكرم يوما يعرض به: كم عدد المكدين بالبصرة؟ فقال له: مثل عدد البغائين ببغداد.


ودخل على ابن ثوابة عقيب كلام جرى بينه وبين أبي الصقر أربى ابن ثوابة عليه فيه، فقال له: بلغني ماجرى بينك وبين أبي الصقر، وما منعه من استقصاء الجواب إلا أنه لم يجد عزا فيضيعه، ولا مجدا فينقصه، وبعد فإنه عاف لحمك أن يأكل، وسهك دمك أن يسفكه، فقال ابن ثوابة: وما أنت والدخول بيني وبين هؤلاء يامكدي؟ فقال: لاتنكر على ابن ثمانين قد ذهب بصره وجفاه سلطانه أن يعول على إخوانه فيأخذ من أموالهم، ولكن أشد من هذا من يستنزل الماء من أصلاب الرجال فيستفرغه في جوفه، فيقطع أنسابهم ويعظم أوزارهم، فقال ابن ثوابة: ماتساب اثنان إلا غلب ألأمهما، فقال أبو العيناء: وبها غلبت أبا الصقر بالأمس، فأسكته.


ودخل على المتوكل في قصره المعروف بالجعفري سنة ست وأربعين ومائتين فقال له: ما تقول في دارنا هذه؟ فقال: إن الناس بنوا الدور في الدنيا وأنت بنيت الدنيا في دارك، فاستحسن كلامه، ثم قال: كيف شربك للخمر؟ قال: أعجز عن قليله وأفتضح عنده كثيره، فقال له: دع هذا عنك ونادمنا، فقال: أنا رجل مكفوف، وكل من في مجلسك يخدمك، وأنا أحتاج أن أخدم ولست آمن من أن تنظر إلي بعين راض، وقلبك علي غضبان، أو بعين غضبان وقلبك راض، ومتى لم أميز بين هذين هلكت، فأختار العافية على التعرض للبلاء، فقال: بلغنا عنك بذاء في لسانك، فقال: ياأمير المؤمنين، قد مدح الله تعالى وذم، فقال "نعم العبد إنه أواب" - ص:44 - وقال عز وجل "هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم" - القلم:11-وقال الشاعر:

 

إذا أنا بالمعروف لم أثن صادقا

 

ولم أشتم النكس اللئيم المذممـا

ففيم عرفت الخير والشر باسمه

 

وشق لي الله المسامع والفمـا

 قال:فمن أين أنت، قال: من البصرة، قال: فما تقول فيها؟ قال ماؤها أجاج وحرها عذاب، وتطيب في الوقت الذي تطيب فيه جهنم.

ولما سلم نجاح بن سلمة إلى موسى بن عبد الله الأصبهاني ليستأدي ما عليه من الأموال عاقبه فتلف في مطالبته، وذلك في يوم الاثنين لثمان بقين من ذي القعدة سنة خمس وأربعين ومائتين، وفي تلك الليلة بلغ المعتز بالله ابن المتوكل الخبر، فاجتمع بعض الرؤساء بأبي العيناء، فقال له: ما عندك من خبر نجاح ابن سلمة؟ فقال أبو العيناء "فوكزه موسى فقضى عليه" - القصص:15 - فبلغت كلمته موسى فلقيه في الطريق فتهدده، فقال له أبو العيناء "أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس" - القصص:19-.

وكتب إلى بعض الرؤساء وقد وعده بشيء فلم ينجزه: ثقتي بك تمنعني من استبطائك، وعلمي بشغلك يدعوني إلى إذكارك، ولست آمن، مع استحكام ثقتي بطولك والمعرفة بعلو همتك، اخترام الأجل، فإن الآجال آفات الآمال، فسح الله في أجلك، وبلغك منتهى أملك، والسلام.

وأحواله ونوادره كثيرة.

وروي عنه أنه قال: كنت يوما جالسا عند أبي الحكم إذ أتاه رجل فقال له: وعدتني وعدا فإن رأيت أن تنجزه، فقال: ما أذكره، فقال: إن لم تذكره فلأن من تعده مثلي كثير، وأنا لا أنساه، لأن من أسأله مثلك قليل، فقال: أحسنت لله أبوك، وقضى حاجته.

وكانت ولادته سنة إحدى وتسعين ومائة بالأهواز - كما تقدم، ونشأ بالبصرة وكف بصره وقد بلغ أربعين سنة.

وكان جده الأكبر لقي علي بن أبي طالب فأعياه في المخاطبة معه فدعا عليه بالعمى له ولولده، فكل من عمي من ولد جدأبي العيناء في فهو صحيح النسب فيهم، هكذا قاله أبو سعيد الطلحي. وخرج من البصرة وهو بصير وقدم سر من رأى فاعتلت عيناه فعمي وسكن بغداد مدة وعاد إلى البصرة، وتوفي بها في جمادى الآخرة سنة ثلاث وثمانين، وقيل اثنتين وثمانين ومائتين. وقال ابنه جعفر: توفي أبي لعشر ليال خلون من جمادى الأولى، ومولده سنة تسعين ومائة، والله أعلم، رحمه الله تعالى. ولقب بأبي العيناء لأنه قال لأبي زيد الأنصاري: كيف تصغر عينا؟ فقال: عيينا ياأبا العيناء، فبقي عليه.

وعيناء: بفتح العين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح النون وبعدها ألف ممدودة.

وخلاد: بفتح الخاء المعجمة وتشديد اللام ألف.

وقد تقدم الكلام على اليمامة والأهواز فأغنى عن الإعادة.