الحاتمي

أبو علي محمد بن الحسن بن المظفر، الكاتب اللغوي البغدادي المعروف بالحاتم؛ أحد الأعلام المشاهير المطلعين المكثرين، أخذ الأدب عن أبي عمر الزاهد غلام ثعلب - وقد تقدم ذكره - وروى عنه أخبارا وأملاها في مجالس الأدب، وروى عن غيره أيضا، وأخذ عنه جماعة من النبلاء:منهم القاضي أبو القاسم التنوخي - المقدم ذكره - وغيره، وله الرسالة الحاتمية التي شرح فيها ما جرى ينه وبين أبي الطيب المتنبي من إظهار سرقاته وإبانة عيوب شعره، ولقد دلت على غزارة مادته وتوفر اطلاعه.

وحكى في أول الرسالة السبب الحامل له على ذلك فقال: لما ورد أحمد بن الحسين المتنبي مدينة السلام منصرفا عن مصر ومتعرضا للوزير أبي محمد المهلبي، بالتخييم عليه والمقام لديه، التحف رداء الكبر وأذال ذيول التيه، ونأى بجانبه استكبارا وثنى عطفيه جبرية وازورارا، فكان لايلاقي أحد إلا أعرض عنه تيها وزخرف القول عليه تمويها، تخيل عجبا إليه أن الأدب مقصور عليه، وأن الشعر بحر لم يرد نمير مائة غيره وروض لم يرد نواره سواه، فهو يجني جناه ويقطف قطوفه دون من تعاطاه، وكل مجر في الخلاء يسر ولكل نبأ مستقر، فغبر جاريا على هذه الوتيرة مدة مديدة أجررته رسن البغي فيها، فظل يمرح في تيهه حتى إذا تخيل أنه السابق الذي لايجارى في مضمار ولا يساوي عذاره بعذار، وأنه رب الكلام ومقتض عذارى الألفاظ، ومالك زق الفصاحة نثرا ونظما وقريع دهره الذي لايقارع فضلا وعلما، وثقلت وطأته على كثير مما وسم نفسه بميسم الأدب، وأنبط من مائه أعذب مشرب، فطأطأ بعض رأسه وخفض بعض جناحه وطامن على التسليم له طرفه، وساء معز الدولة أحمد بن بويه - المقدم ذكره - وقد صورت حاله، أن يرد حضرته مهي دار الخلافة ومستقر العز وبيضة الملك رجل صدر عن حضرة سيف الدولة بن حمدان - وقد تقدم ذكره أيضا - وكان عدوا مباينا لمعز الدولة، فلا يلقى أحدا بمملكته يساويه في صناعته، وهو ذو النفس الأبية والعزيمة الكسروية، والهمة التي لو همت بالدهر لما تصرفت بالأحرار صروفه ودارت عليهم دوائره، وتخيل الوزير المهلبين رجما بالغيب، أن أحدا لايستطيع مساجلته ولا يرى نفسه كفؤا له ولا يضطلع بأعبائه فضلا عن التعلق بشيء من معانيه، وللرؤساء مذاهب في تعظيم من يعظمونه وتفخيم من يفخمونه وتكرمة من يراعونه ويكرمونه، وربما حالت بهم الحال وأوشكوا عن هذه الخليقة الانتقال، وتلك صورة الوزير المهلبي في عودة عن رأيه هذا فيه،ولم ولم يكن هناك مزية يتميز بها أبو الطيب عن الهجين الجذع من أبناء الأدب فضلا عن العتيق القارح إلا الشعر، ولعمري إن أفنانه كانت فيه رطبة ومجانية عذبة، فنهدت له متتبعا عواره ومقلما أظفاره ومذيعا أسراره، وناشرا مطاويه ومنتقدا من نظمه ما تسمح فيه،ومتحنيا أن تجمعنا دار يشار إلى ربها فأجري أنا وهو في مضمار يعرف به السابق من المسبوق واللاحق من المقصر عن اللحوق، وكنت إذ ذاك ذا سحاب مدراروزند في كل فضيلة وار، وطبع يناسب صفو العقار إذا وشيت بالحباب ووشت بها سرائر الأكواب، هذا وغدير الصبا صاف ورداؤه ضاف، وديباجة العيش غضة وأرواحه معتلة وغمائمة منهلة، وللشبيبة شره وللاقبال من الدهر غرة، والخيل تجري في يوم الرهان بإقبال أربابها لابعروقها ونصابها، ولكل امرئ حظ من مواتاه زمانه، يقضى في ظله أرب ويدرك مطلب ويتوسع مراد ومذهب، حتى إذا عدت عن اجتماعنا عواد من الأيام قصدت مستقره وتحتي بغلة سفواء تنظر عن عيني باز وتتشوف بمثل قادمتي نسر، وهي مركب رائع، وكأنني كوكب وقاد من تحته غمامة يقتادها زمام الجنوب، وبين يدي عدة من الغلمان الروقة مماليك وأحرار يتهافتون تهافت فريد الدر عن أسلاكه. ولم أورد هذا متبجحا ولا متكثرا بذكره، بل ذكرته لأن أبا الطيب شاهد جميعه في الحال، ولم ترعه روعته ولا استعطفه زبرجه، ولا زادته تلك الجملة الجميلة التي ملأت أتهمه طرفه وقلبه إلا عجبا بنفسه وإعراضا عني بوجهه، وكان قد أقام هناك سوقا عند أغيلمة لم ترضهم العلماء ولاعركتهم رحى النظراء، ولا أنضوا أفكار في مدرسة الأدب، ولا فرقوا بين حلو الكلام ومره وسهله ووعره، وإنما غاية أحدهم مطالعة شعر أبي تمام وتعاطي الكلام على نبذ من معانيه، وعلى ما تعلقت الرواة مما يجوز فيه، فألفيت هناك فتية تأخذ عنه شيئا من شعره.

فحين أوذن بحضوري واستؤذن عليه لدخولي، نهض من مجلسه مسرعا ووارى شخصه عني مستخفيا، وأعجلته نازلا عن البغلة وهو يراني لانتهائي بها إلى حيث أخذها طرفة، ودخلت فأعظمت الجماعة قدري وأجلستني في مجلسه وإذا تحته أخلاق عباءة قد ألحت عليها الحوادث رسوم دائرة وأسلاك متناثرة، فلم يكن إلا ريثما جلست، فنهضت، فوفيته حق السلام غير مشاح له في القيام، لأنه إنما اعتمد بنهوضه عن الموضع ألا ينهض إلي، والغرض كان في لقائه غير ذلك، وحين لقيته تمثلت بقول الشاعر:

 

وفي الممشى إليك علي عار

 

ولكن الهوى منع القـرارا

 

فتمثل بقوله الآخر:

يشقى رجال ويشقى آخرون بهـم

 

ويسعد اللـه أقـوامـا بـأقـوام

وليس رزق الفتى من فضل حيلته

 

لكن جدود وأرزاق بـأقـسـام

كالصيد يحرمه الرامي المجيد وقد

 

يرمي فيحرزه من ليس بالرامي

 

وإذا به لابس سبعة أقبية كل قباء منها لون، وكنا في وغرة القيظ وجمرة الصيف وفي يوم تكاد ودائع الهامات تسيل فيه، فجلست مستوفزا وجلس متحفزا، وأعرض عني لاهيا وأعرضت عنه ساهيا، أؤنب نفسي في قصده وأستخف رأيها في تكلف ملاقاته، فغبر هنية ثانيا عطفه لايعيرني طرفة، وأقبل على تلك الزعنفة التي بين يديه، وكل يومي إليه ويوحي بلحظة ويشير إلى مكاني بيديه، ويوقظه من سنته وجهله، ويأبى إلا ازورارا ونفارا وعتوا واستكبارا، ثم رأى أن يثني جانبه إلي ويقبل بعض الإقبال علي، فأقسمت بالوفاء والكرم، فأنهما من محاسن القسم، إلا أنه لم يزد على أن قال: أيش خبرك، فقلت: بخير أنا لولا ما جنيته على نفسي من قصدك ووسمت به قدري من ميسم الذل بزيارتك وجشمت رأيي من السعي إلى مثلك، ممن لم تهذبه تجربة ولا أدبته بصيرة. ثم تحدرت عليه تحدر السيل إلى قرارة الوادي وقلت له: أبن لي مم تيهك وخيلاؤك وعجبك وكبرياؤك؟ وما الذي يوجب ما أنت عليه من الذهاب بنفسك والرمي بهمتك إلى حيث يقصر عنه باعك ولا تطول إليه ذراعك؟ هل ها هنا نسب انتسب إلى المجد بهظ أو شرف علقت بأذياله؟ أو سلطان تسلطت بعزة أو علم تقع الاشارة إليك به؟ إنك لو قدرت نفسك بقدرها أو وزنتها بميزانها ولم يذهب بك التيه مذهبا لما عدوت أن تكون شاعرا مكتسبا، فامتقع لونه وغص بريقه، وجعل يلين في الاعتذار ويرغب في الصفح والاغتفار، ويكرر الأيمان أنه لم يثبتني، ولا اعتمد التقصير بي، فقلت: ياهذا إن قصدك شريف في نسبه تجاهلت نسبه، أو عظيم في أدبه صغرت أدبه، أو متقدم عند سلطانه خفضت منزلته، فهل المجد تراث لك دون غيرك؟ كلا والله، لكنك مددت الكبر سترا على نقصك وضربته رواقا حائلا دون مباحثتك، فعاود الاعتذار فقلت: لا عذر لك مع الاصرار. وأخذت الجماعة في الرغبة إلي في مياسرته وقبول عذره، واستعمال الأناة التي تستعملها الحزمة عند الحفيظة، وأنا على شاكلة واحدة في تقريعه وتوبيخه وذم خليقته، وهو يؤكد القسم أنه لم يعرفني معرفة ينتهز معها الفرصة في قضاء حقي، فأقول: ألم أستأذن عليك باسمي ونسبي؟ أما كان في هذه الجماعة من كان يعرفني لو كنت جهلتني؟ وهب أن كذلك، ألم تر شارتي؟ أما شممت عطر نشري؟ ألم أتميز في نفسك عن غيري؟ وهو في أثناء ما أخاطبه وقد ملأت سمعه تأنيبا وتفنيدا يقول: خفض عليك، اكفف من غربك، اردد من سورتك، استأن فإن الأناة من شيم مثلك، فأصحب حينئذ جانبي له ولانت عريكتي في يده، واستحيت من تجاوز الغاية التي انتهيت إليها في معاتبته، وذلك بعد أن رضته رياضة الصعب من الإبل، وأقبل علي معظما وتوسع في تفريطي مفخما، وأقسم أنه ينازع منذ ورد العراق ملاقاتي ويعد نفسه بالاجتماع معي ويسوفها التعلق بأسباب مودتي.

 

فحين استوفى القول في هذا المعنى استأذن عليه فتى من فتيان الطالبين الكوفيين، فأذن له، فإذا حدث مرهف تميل به نشوة الصبا، فتكلم فأعرب عن نفسه، فإذا لفظ رخيم ولسان حلو وأخلاق فكهة وجواب حاضر وثغر باسم، في أناة الكهول، ووقار المشايخ، فأعجبني ما شاهدته من شمائله وملكني ما تبينته من فضله، فجاراه أبياتا.


ومن هاهنا كان افتتاح الكلام بينهما في إظهار سرقاته ومعايب شعره؛ وقد طال الكلام لكنه لزم بعضه بعضا فما أمكن قطعه. وهذه الرسالة تشتمل على فوائد جمة، فإن كان كما ذكر أنه أبان له جميعها في ذلك المجلس فما هذا إلا اطلاع عظيم، وقد سماهاالموضحة وهي كبيرة تدخل في اثنتي عشرة كراسة شهدت لصاحبها بالفضل الباهر، مع سرعة الاستحضار وإقامة الشاهد. وله كتابحلية المحاضرة يدخل في مجلدين، وفيه أدب كثير أيضا.


وتوفي الحاتمي المذكور يوم الأربعاء لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثمانين وثلثمائة، رحمه الله تعالى.


وذكر الحاتمي أنه اعتل فتأخر عن مجلس شيخه أبي عمر الزاهد المذكور في أول هذه الترجمة، فسأل عنه، فقيل له: إنه مريض، فجاءه يعوده، فوجده قد خرج إلى الحمام، فكتب على بابه بإسفيداج:

 

وأعجب شيء سمعنا به

 

عليل يعاد فلا يوجـد

والحاتمي: بفتح الحاء المهملة وبعد الألف تاء مثناة من فوقها مكسورة وبعدها ميم، هذه النسبة إلى بعض أجداده اسمه حاتم.