أبو بكر الصولي

أبو بكر محمد بن يحيى بن عبد الله بن العباس بن محمد بن وصول تكين الكاتب، المعروف بالصولي الشطرنجي؛ كان أحد الأدباء الفضلاء المشاهير، روى عن أبي داود السجستاني وأبي العباس ثعلب وأبي العباس المبرد وغيرهم، وروى عنه أبو الحسن الدار قطني الحافظ، وأبو عبيد الله المرزباني المذكور قبله وغيرهما. ونادم الراضي، وكان أولا يعلمه ثم نادم المقتدر، ونادم قبله المكتفي.

وله التصانيف المشهورة منها كتاب الوزراء وكتاب الورقة وكتاب أدب الكاتب وكتاب الأنواع وكتاب أخبار أبي تمام وكتاب أخبار القرامطة وكتاب الغرر وكتاب أخبار أبي عمرو بن العلاء وكتاب العبادة وكتاب أخبار ابن هرمة وكتاب أخبار السيد الحميري وكتاب أخبار إسحاق بن إبراهيم، وجمع أخبار جماعة من الشعراء، ورتبه على حروف المعجم، وكلهم من الشعراء المحدثين، وغير ذلك.

وكان ينادم الخلفاء، وكان أغلب فنونه أخبار الناس، وله رواية واسعة ومحفوظات كثيرة، وكان حسن الاعتقاد جميل الطريقة مقبول القول، وكان أوحد وقته في لعب الشطرنج، لم يكن في عصره مثله في معرفته.والناس إلى الآن يضربون به المثل في ذلك فيقولون لمن يبالغون في حسن لعبه فلان يلعب الشطرنج مثل الصولي.

ورأيت خلقا كثيرا يعتقدون أن الصولي المذكور هو الذي وضع الشطرنج، وهو غلط، فإن الذي وضعه صصه بن داهر الهندي، واسم الملك الذي وضعه له شهرام، بكسر الشين المعجمة.

وكان أردشير ابن بابك أول ملوك الفرس الأخيرة قد وضع النرد، ولذلك قيل له النردشير لأنهم نسبوه إلى واضعه المذكور، وجعله مثالا للدنيا وأهلها، فرتب الرقعة اثني عشر بيتا بعدد شهور السنة، وجعل القطع ثلاثين قطعة بعدد أيام كل شهر، وجعل الفصوص مثل القدر وتقلبه بأهل الدنيا. وبالجملة فالكلام في هذا يطول ويخرج عما نحن بصدده؛ فافتخرت الفرس بوضع النرد وكان ملك الهند يومئذ بلهيت، فوضع له صصه المذكور الشطرنج، فقضت حكماء ذلك العصر بترجيحه على النرد لأمور يطول شرحها.

ويقال إن صصه لما وضع الشطرنج وعرضه على الملك شهرام المذكور أعجبه وفرح به كثيرا، وأمر أن يكون في بيوت الديانة، ورآه أفضل ما علم لأنه آلة للحرب وعز للدين والدنيا وأساس لكل عدل، وأظهر الشكر والسرور على ما أنعم عليه في ملكه منه، وقال لصصه: اقترح علي ما تشتهي، فقال له: اقترحت أن تضع حبة قمح في البيت الأول، ولاتزال تضعها حتى تنتهي إلى آخرها، فمهما بلغ تعطيني، فاستصغر الملك ذلك، وأنكر عليه كونه قابله بالنزر اليسير، وكان قد أضمر له شيئا كثيرا، فقال: ما أريد إلاهذا، فراده فيه وهو مصر عليه فأجابه إلى مطلوبه وتقدم له به، فلما قل لأرباب الديوان حسبوه فقالوا ما عندنا قمح يفي بهذا ولا بما يقاربه، فلما قيل للملك استنكر هذه المقالة، وأحضر أرباب الديوان وسألهم فقالوا له: لو جمع كل قمح في الدنيا ما بلغ هذا القدر، فطالبهم بإقامة البرهان على ذلك، فقعدوا وحسبوه، فظهر له صدق ذلك، فقال الملك لصصه: أنت في اقتراحك ما اقترحت أعجب حالا من وضعك الشطرنج.

وطريق هذا التضعيف ان يضع الحاسب في البيت الأول حبة وفي الثاني حبتين وفي الثالث أربع حبات وفي الرابع ثماني حبات،وهكذا إلى آخره، كلما انتقل إلى بيت ضاعف ما قبله وأثبته فيه. ولقد كان في نفسي من هذه المبالغة شيء حتى اجتمع بي بعض حساب الإسكندرية، وذكر لي طريقا تبين لي صحة ماذكروه، وأحضر لي ورقة بصورة ذلك، وهو أنه ضاعف الأعداد إلى البيت السادس عشر فأثبت فيه اثنين وثلاثين ألفا وسبعمائة وثمانيا وستين حبة، وقال: نجعل هذه الجملة مقدار قدح، وقد اعتبرتها فكانت كذلك، والعهدة عليه في هذا النقل، ثم ضاعف القدح في البيت السابع عشر، وهكذا حتى بلغ ويبة في البيت العشرين ثم انتقل إلى الويبات، ومنها إلى الأرادب، ولم يزل يضاعفها حتى انتهى في بيت الأربعين إلى مائة ألف إردب أربعة وسبعين ألف إردب وسبعمائة واثنين وستين إردبا وثلثين، فقال تجعل هذه الجملة في شونه فإن الشونة لايكون فيها أكثر من هذا، ثم ضاعف الشون إلى بيت الخمسين فكانت الجملة ألفا وأربعا وعشرين شونة، فقال: تجعل هذه في مدينة، فإن المدينة لايكون فيها أكثر من هذه الشون، وأي مدينة يكون فيها هذه الجملة من الشون؟ ثم ضاعف المدن حتى انتهى في البيت الرابع والستين-وهو آخر أبيات رقعة الشطرنج - إلى ستة عشر ألف وثلثمائة وأربع وثمانين مدينة، وقال: تعلم أنه ليس في الدنيا مدن أكثر من هذا العدد، فإن دور كرة الأرض معلوم بطريق الهندسة، وهو ثمانية آلاف فرسخ، بحيث لووضعنا طرف حبل على أي موضع كان من الأرض وأدرنا الحبل على كرة الأرض حتى انتهينا بالطرف الآخر إلى ذلك الموضع من الأرض والتقى الطرفان فإذا مسحنا ذلك الحبل كان طوله أربعة وعشرين ألف ميل، وهي ثمانية آلاف فرسخ، وهو قطعي لاشك فيه، ولولا خوف التطويل والخروج عن المقصود لبينت ذلك - وسأذكره إن شاء الله تعالى في ترجمة بني موسى - وتعلم ما في الأرض من المعمور وهو مقدار ربع الكرة بطريق التقريب.

وقد انتشر الكلام وخرجنا عن المقصود، لكنه ماخلا عن فائدة، فإن هذه الطريقة غريبة، فأحببت إثباتها ليقف عليها من يستنكر ما قالوه في تضعيف رقعة الشطرنج ويعلم أن ذلك حق، وأن هذه الطريقة سهلة الاطلاع على حقيقة ما ذكروه.

ولنرجع إلى حديث الصولي: حكى المسعودي في كتاب مروج الذهب أن الإمام الراضي بالله أتى في بعض منتزهاته بستانا مونقا رائقا، فقال لمن حضره ممن كان أتى ندمائه: هل رأيتم منظرا أحسن من هذا؟ فكل أثنى، وذهب فيه إلى مدحه ووصف محاسنه، وأنها لايفي بها شيء من زهرات الدنيا، فقال الراضي لعب الصولي بالشطرنج أحسن من هذا، ومن كل ما تصفون.

ثم قال المسعودي:وقد ذكر أن الصولي في بدء دخوله على الإمام المكتفي، وقد كان ذكر له تخرجه في اللعب بالشطرنج، وكان الماوردي اللاعب متقدما عنده، متمكنا من قلبه معجبا به للعبه، فلما لعبا جميعا بحضرة المكتفي حمل المكتفي حسن رأيه في الماوردي وتقدم الحرمة في الألفة على نصرته وتشجيعه وتنبيهه حتى أدهش ذلك الصولي في أول وهلة، فلما اتصل اللعب بينهما وجمع له الصولي متانته وقصد قصده غلبه غلبا لايكاد يرد عليه شيئا، وتبين حسن لعب الصولي للمكتفي، فعدل عن هواه ونصرة الماوردي، وقال له: عاد ماء وردك بولا.

وأخبارالصولي ونوادره كثيرة، وما جراياته أكثر من أن تحصى. ومع فضائله والاتفاق على تفننه في العلوم وخلاعته وظرافته ما خلا من منتقص هجاه هجوا لطيفا، وهو أبو سعيد العقيلي، فإنه رأى له بيتا مملوءا كتبا قد صفها وجلودها مختلفة الألوان، وكان يقول: هذه كلها سماعي، وإذا احتاج إلى معاودة شيء منها قال: ياغلام هات الكتاب الفلاني، فقال أبو سعيد المذكور هذه الأبيات:

إنما الصولي شيخ

 

أعلم الناس خزانه

إن سالناه بعـلـم

 

طلبا منه إبـانـه

قال ياغلمان هاتوا

 

رزمة العلم فلانه

وتوفي الصولي المذكور سنة خمس - وقيل ست - وثلاثين وثلثمائة باللبصرة مستترا، لأنه روى خبرا في حق علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فطلبته الخاصة والعامة لتقتله فلم تقدر عليه، وكان قد أخرج من بغداد لإضاقه لحقته.

وقد سبق الكلام على الصولي في ترجمة إبراهيم بن العباس الصولي، وهو عم والدأبي بكر المذكور، فليطلب هناك.

 وصصه: بصادين مهملتين الأولى منهما مكسورة والثانية مشددة مفتوحة وفي الآخر هاء ساكنة.

وداهر: بدال مهملة وبعد الألف هاء مكسورة ثم راء.

وأردشير: بفتح الهمزة وسكون الراء وفتح الدال المهملة وكسر الشين المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها وفي آخرها راء؛ هكذا قاله الحافظ الدار قطنيوقال غير الدار قطني: هذا لفظ عجمي، وتفسيره بالعربي دقيق وحليب، فأرد: دقيق، وشير:حليب، وقيل دقيق وحلاوة، وقيل إنه بالزاي لا بالراء، والله أعلم وهو الذي أباد ملوك الطوائف، ومهد الملك لنفسه، واستولى على الممالك، وهو جد ملوك الفرس الذين آخرهم يزدجر، وكان انقراض ملكهم في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه اثنتين وثلاثين من الهجرة، وأخبارهم مشهورة وهؤلاء غير ملوك الفرس الأوائل الذين آخرهم دار بن دارا الذي قتله الإسكندر، ورتب في البلاد ملوك الطوائف وسماهم بذلك لأن كل ملك يحكم على طائفة مخصوصة، بعد أن كانت الممالك لرجل واحد، وكان أردشير من ملوك الطوائف، ثم استقل بالجميع كالعادة الأولى، وكانت مدة مملكة ملوك الطوائف أربعمائة سنة، ومدة مملكة ملوك الفرس الأواخر أربعمائة سنة ويزدجر: بفتح الياء المثناة من تحتها وسكون الزاي وفتح الدال المهملة وكسر الجيم وسكون الراء وفي الآخر دال مهملة.

وأما بلهيت ملك الهند فلا أتحقق ضبطه، غير أني وجدته مضبوطا بخط الناسخ، وقد فتح الباء الموحدة وسكن اللام وفتح الهاء وسكن الياء المثناة من تحتها وبعدها تاء مثناة من فوقها، والله أعلم بصحة ذلك من سقمه.