ابن قريعة

القاضي لأبو بكر محمد بن عبد الرحمن، المعروف بابن قريعة البغدادي؛ كان قاضي السندية وغيرها من أعمال بغداد، ولاه أبو السائب عتبة بن عبيد الله القاضي، وكان من إحدى عجائب الدنيا في سرعة البديهة بالجواب عن جميع ما يسأل عنه في أفصح لفظ وأملح سجع، وكان مختصا بحضرة الوزير أبي محمد المهلبي - المقدم ذكره - منقطعا إليه، وله مسائل وأجوبة مدونة في كتاب مشهور بأيدي الناس، وكان رؤساء ذلك العصر وفضلاؤه يداعبونه ويكتبون إليه المسائل الغريبة المضحكة، فيكتب الجواب من غير توقف ولا تلبث مطابقا لما سألوه، وكان الوزير المذكور يغري به جماعة يضعون له من الأسئلة الهزلية على معان شتى من النوادر الطنزية ليجيب عنها بتلك الأجوبة، فمن ذلك ما كتب إليه العباس بن المعلى الكاتب: مايقول القاضي، وفقه الله تعالى، في يهودي زنى بنصرانية فولدت ولدا جسمه للبشر ووجهه للبقر، وقد قبض عليهما، فما يرى القاضي فيهما؟ فكتب جوابه بديها: هذا من أعدل الشهود على الملاعين اليهود، بأنهم أشربوا حب العجل في صدورهم حتى خرج من أيورهم، وأرى أن يناط برأس اليهودي رأس العجل، ويصلب على عنق النصرانية الساق مع الرجل، ويسحبا على الأرض، وينادى عليهما ظلمات بعضها فوق بعض، والسلام.

ولما قدم الصاحب بن عباد-المقدم ذكره - إلى بغداد حضر مجلس الوزير المهلبي المقدم ذكره أيضا، وكان في المجلس القاضي أبو بكر المذكور، فرأى من ظرفه وسرعة أجوبته مع لطافتها ماعظم منه تعجبه، وكتب الصاحب إلى أبي الفضل ابن العميد كتابا يقول فيه: وكان في المجلس شيخ خفيف الروح يعرف بالقاضي ابن قريعة، جاراني في مسائل خستها تمنع من ذكرها، إلا أني استظرفت من كلامه، وقد سأله كهل يتطلب بحضرة الوزير أبي محمد عن حد القفا، فقال: ما اشتمل عليه جربانك، ومازحك فيه إخوانك، وأدبك فيه سلطانك، وباسطك فيه غلمانك، فهذه حدود اربعة.

قلت: وجربان الثوب: بضم الجيم والراء وتشديد الباء الموحدة وبعدها ألف ثم نون، وهي العريضة التي فوق القب، وهي التي تستر القفا،والجربان لفظ فارسي معرب.

وجميع مسائله على هذا الأسلوب، ولولا خوف الإطالة لذكرت جملة منها، وقد سرد أبو بكر محمدبن شرف القيرواني الشاعر المشهور في كتابه الذي سماهأبكار الأفكار عدة مسائل وجواباتها من هذه المسائل.

وتوفي القاضي أبو بكر المذكور يوم السبت لعشر بقين من جمادى الآخرة، سنة سبع وستين وثلثمائة ببغداد، وعمره خمس وستون سنة، رحمه الله تعالى.

وقريعة: بضم القاف وفتح الراء وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها عين مهملة، وهولقب جده، كذا حكاه السمعاني.

والسندية: بكسر السين المهملة وسكون النون وكسر الدال المهملة وتشديد الياء المثناة وبعدها هاء ساكنة، وهي قرية على نهر عيس بين بغداد والأنبار، وينسب إليها ليحصل الفرق بين هذه النسبة والنسبة إلى بلاد السند المجاور لبلاد الهند.