ابن المعلم الشاعر

أبو الغنائم محمد بن علي بن فارس بن عبد الله بن الحسين بن القاسم، المعروف بابن المعلم الواسطي الهرئي، الملقب نجم الدين، الشاعر المشهور؛ كان شاعراً رقيق الشعر لطيف حاشية الطبع، يكاد شعره يذوب من رقته، وهو أحد من سار شعره وانتشر ذكره ونبه بالشعر قدره وحسن به حاله وأمره وطال في نظم القريض عمره وساعده على قوله زمانه ودهره، وأكثر القول في الغزل والمدح وفنون المقاصد، وكان سهل الألفاظ صحيح المعاني يغلب على شعره وصف الشوق والحب وذكر الصبابة والغرام، فعلق بالقلوب ولطف مكانه عند أكثر الناس ومالوا إليه وحفظوه وتداولوه بينهم واستشهد به الوعاظ واستحلاه السامعون.

سمعت جماعة من مشايخ البطائح يقولون: ما سبب لطافة شعر ابن المعلم إلا أنه كان إذا نظم قصيدة حفظها الفقراء المنتسبون إلى الشيخ أحمد بن الرفاعي - المقدم ذكره في حرف الهمزة - وغنوا بها في سماعهم وطابوا عليها، فعادت عليه بركة أنفاسهم، ورأيتهم يعتقدون ذلك اعتقاداً لا شك عندهم فيه، وبالجملة فشعره يشبه النوح، ولا يسمعه من عنده أدنى هوى إلا فتنه وهاج غرامه.

وكان بين ابن المعلم المذكور وبين ابن التعاويذي المذكور قبله تنافس، وهجاه ابن التعاويذي بأبيات جميلة أجاد فيها ولا حاجة إلى ذكرها.
ولابن المعلم قصيدة طويلة أولها:

ردوا علي شوارد الأظـعـان

 

ما الدار إن لم تغن من أوطاني

 

منها:

ولكم بذاك الجزع من متمنـع

 

هزأت معاطفه بغصن البـان

أبدى تلونـه بـأول مـوعـدٍ

 

فمن الوفي لنا بوعد ثـانـي

فمتى اللقاء ودونه من قومـه

 

أبناء معركةٍ وأسد طـعـان

نقلوا الرماح وما أظن أكفهـم

 

خلقت لغير ذوابل الـمـران

وتقلدوا بيض السيوف فما ترى

 

في الحي غير مهندٍ وسنـان

ولئن صددت فمن مراقبة العدا

 

ما الصد عن ملل ولا سلوان

يا ساكني نعمان أين زمانـنـا

 

بطويلعٍ يا ساكني نـعـمـان

 

وله من أخرى:

كم قلت إياك الـعـقـيق فـإنـه

 

ضريت جآذره بـصـيد أسـوده

وأردت صيد مها الحجاز فلم يسـا

 

عدك القضاء فرحت بعض صيوده

 

وله من أخرى:

أجيراننا إن الدموع التـي جـرت

 

رخاصاً على أيدي النوى لغوالي

أقيموا على الوادي ولو عمر ساعة

 

كلوث إزار أو كحـل عـقـال

فكم ثم لي من وقفة لو شريتـهـا

 

بنفسي لم أغب فكيف بـمـالـي

 

وله من أخرى:

كيف يخفي سر الهوى المستهام

 

هي حزوى وما الخيام الخـيام

ولئن كانت الخيام ومـا الـنـا

 

س بها الناس، فالغرام الغرام

 

وله من أخرى:

قسماً بما ضمت عليه شفاهـهـم

 

من قرقف في لؤلؤٍ مـكـنـون

إن شارف الحادي العذيب لأقضين

 

نحبي ومن لي أن تبر يمـينـي

لو لم يكن آثار ليلـى والـهـوى

 

بتلاعه ما رحت كالمـجـنـون

 

وكان سبب عمل هذه القصيدة أن ابن المعلم المذكور والأبله وابن التعاويذي المذكورين قبله لما وقفوا على قصيدة صردر- المقدم ذكره في حرف العين - التي أولها:

أكذا يجارى ود كل قرين

 

أم هذه شيم الظباء العين

 

وهي من نخب القصائد "وسأذكرها في ترجمة عميد الملك محمد إن شاء الله تعالى" أعجبتهم، فعمل ابن المعلم من وزنها هذه القصيدة وعمل ابن التعاويذي من وزنها قصيدة أبدع فيها، وأرسلها إلى السلطان صلاح الدين الأيوبي، رحمه الله تعالى، وهو بالشام يمدحه بها، وأولها:

إن كان دينك في الصبابة ديني

 

فقف المطي برملتي يبـرين

 

وعمل الأبله قصيدة أخرى، وأحسن الكل قصيدة ابن التعاويذي.


وحكي عن ابن المعلم المذكور أنه قال: كنت ببغداد، فاجتزت يوماً بالموضع الذي يجلس فيه أبو الفرج ابن الجوزي للوعظ، فرأيت الخلق مزدحمين، فسألت بعضهم عن سبب الزحام فقال: هذا ابن الجوزي الواعظ جالس، ولم أكن علمت بجلوسه، فزاحمت وتقدمت حتى شاهدته وسمعت كلامه وهو يعظ حتى قال مستشهداً على بعض إشاراته: ولقد أحسن ابن المعلم حيث يقول:

يزداد في مسمعي تكرار ذكركم

 

طيباً، ويحسن في عيني تكرره

 

فعجبت من اتفاق حضوري واستشهاده بهذا البيت من شعري، ولم يعلم بحضوري لا هو ولا غيره من الحاضرين.


وهذا البيت من جملة قصيدة له مشهورة.


ولابن المعلم في أناء قصيدة أيضاً:

يوهي قوي جليدي من لا أبوح به

 

ويستبيح دمي مـن لا أسـمـيه

قسا فما في لساني ما يعـاتـبـه

 

ضعفاً، بلى في فؤادي ما يقاسيه

 

وفي يوم وقعة الجمل على البصرة، قبل مباشرة الحرب، أرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ابن عمه عبد الله بن العباس، رضي الله عنهما، إلى طلحة والزبير رضي الله عنهما برسالة يكفهما عن الشروع في القتال، ثم قال له: لا تلقين طلحة فإنك إن تلقه تجده كالثور عاقصاً أنفه يركب الصعب، ويقول: هو الذلول، ولكن الق الزبير، فإنه ألين عريكة منه، وقل له: يقول لك ابن خالك: عرفتني بالحجاز، وأنكرتني بالعراق، فما عدا مما بدا؟ وعلي، رضي الله عنه، أول من نطق بهذه الكلمة، فأخذ ابن المعلم المذكور هذا الكلام وقال:

منحوه بالجزع السلام وأعرضوابالغور عنه، فما عدا مما بدا هذا البيت من جملة قصيدة طويلة.

ورسالة علي نقلتها من كتاب "نهج البلاغة" ولا حاجة إلى الإطالة فرائده مع شهرة ديوانه وكثرة وجوده بأيدي الناس.

وكانت ولادته في ليلة سابع عشر جمادى الآخرة سنة إحدى وخمسمائة. وتوفي رابع رجب سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة بالهرث، رحمه الله تعالى.

والهرث: بضم الهاء وسكون الراء وبعدها ثاء مثلثة، وهي قرية من أعمال جعفر، بينها وبين واسط نحو عشرة فراسخ، وكانت وطنه ومسكنه إلى أن توفي بها، رحمه الله تعالى.