أبو بكر الأخشيد

أبو بكر محمد بن أبي محمد طغج- وتفسيره عبد الرحمن - ابن جف بن يلتكين بن فوران بن فوري بن خالقان، الفرغاني الأصل، صاحب سرير الذهب المنعوت بالإخشيد، صاحب مصر والشام والحجاز؛ أصله من أولاد ملوك فرغانة.

وكان المعتصم بالله بن هارون الشريد قد جلبوا إليه من فرغانة جماعة كثيرة، فوصفوا له جف وغيره بالشجاعة والتقدم في الحروب فوجه المعتصم من أحضرهم، فلما وصلوا إليه بالغ في إكرامهم وأقطعهم قطائع بسر من رأى، وقطائع جف إلى الآن معروفة هناك ولم يزل مقمياً بها، وجاءته الأولاد، وتوفي جف ببغداد في الليلة التي قتل فيها المتوكل، وكانت ليلة الأربعاء لثلاث خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين.

فخرج أولاده إلى البلاد يتصرفون ويطلبون لهم معايش، فاتصل طغج بن جف بلؤلؤ غلام ابن طولون وهو إذ ذاك مقيم بديار مصر، فاستخدمه على ديار مصر، ثم انحاز طغج إلى جملة أصحاب إسحاق بن كنداج، فلم يزل معه إلى أن مات أحمد بن طولون، وجرى الصلح بين ولده أبي الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون- المقدم ذكره - وبين إسحاق بن كنداج، ونظر أبو الجيش إلى طغج بن جف في جملة أصحاب إسحاق فأعجب به وأخذه من إسحاق وقدمه على جميع من معه، وقلده دمشق وطبرية، ولم يزل معه إلى أن قتل أبو الجيش- في تاريخه المقدم ذكره - فرجع طغج إلى الخليفة المكتفي بالله، فخلع عليه وعرف له ذلك، وكان وزير الخليفة يومئذ العباس بن الحسن، فسام طغج أن يجري في التذلل له مجرى غيره، فكبرت نفس طغج عن ذلك، فأغرى به المكتفي، فقبض عليه وحبسه وابنه أبا بكر محمد بن طغج المذكور، فتوفي طغج في السجن.

وبقي له ولده أبو بكر بعده محبوساً مدة، ثم أطلق وخلع عليه، ولم يزل يراصد العباس بن الحسن الوزير المذكور حتى أخذ بثأر أبيه هو وأخوه عبيد الله في الوقت الذي قتله فيه الحسين بن حمدلن. ثم خرج أبو بكر وأخوه عبيد الله في سنة ست وتسعين ومائتين، وهرب عبيد الله إلى ابن أبي الساج، وهرب أبو بكر على الشام، وأقام متغرباً في البادية سنة، ثم اتصل بأبي منصور تكين الخرزي، فكان أكبر أركانه.

ومما كبر به اسمه سريته إلى التنقيب على الجمع الذين تجمعوا على الحجاج لقطع الطريق عليهم، وذلك سنة ست وثلثمائة، وهو يومئذ يتقلد عمان وجبال الشراة من قبل تكين المذكور، وظفره بهم، ومجيء الحاج وقد فرغ من أمرهم بأسر من أسره وقتل من قتله وشرد الباقين. وكان قد حج في هذه السنة من دار الخليفة المقتدر بالله امرأة تعرف بعجوز، فحدثت المقتدر بالله بما شاهدت منه، فانفذ إليه خلعاً وزيادة في رزقه.

ولم يزل أبو بكر في صحبة تكين إلى سنة ست عشرة وثلثمائة، ثم فارقه بسبب اقتضى ذلك ولا حاجة بنا إلى التطويل بذكره، وسار إلى الرملة فوردت كتب المقتدر إليه بولاية الرملة، فأقام بها إلى سنة ثماني عشرة، فوردت كتب المقتدر إليه بولاية دمشق فسار إليها، ولم يزل بها إلى أن ولاه القاهرة بالله ولاية مصر في شهر رمضان سنة إحدى وعشرين وثلثمائة، ودعي له بها مدة اثنتين وثلاثين يوماً ولم يدخلها، ثم ولي أبو العباس أحمد بن كيغلغ الولاية الثانية من قبل القاهرة أيضاً لتسع خلون من شوال سنة إحدى وعشرين وثلثمائة، ثم أعيد إليها أبو بكر بن محمد بن الإخشيد من جهة الخليفة الراضي بالله بن المقتدر بعد خلع عمه القاهر عن الخلافة، وضم إليه البلاد الشامية والجزرية والحرمين وغير ذلك، ودخل مصر يوم الأربعاء لسبع بقين من شهر رمضان المعظم سنة ثلاث وعشرين وثلثمائة وقيل إنه لم يزل على مصر فقط إلى أن توفي الراضي بالله في سنة تسع وعشرين وثلثمائة، وتولى أخوه المقتفي لأمر الله فضم إليه الشام والحجاز وغير ذلك، والله أعلم.

ثم إن الراضي لقبه بلإخشيد في شهر رمضان المعظم سنة سبع وعشرين وثلثمائة إنما لقبه بذلك لأنه لقب ملوك فرغانة، وهو من أولادهم- كما سبق ذكره في أول هذه الترجمة - وتفسيره بالعربي ملك الملوك، وكل من ملك تلك الناحية لقبوا بهذا اللقب، كما لقبوا كل من ملك بلاد فارس كسر، وملك الترك خاقان، وملك الروم قيصر، وملك الشام هرقل، وملك اليمن تبع، ملك الحبشة النجاشي، وغير ذلك. وقيصر كلمة فرنجية تفسيرها بالعربية شق عنه وسببه أن أمه ماتت في المخاض فشق بطنها وأخرج، فسمي قيصر، وكان يفتخر بذلك على غيره من الملوك، لأنه لم يخرج من الرحم، واسمه أغسطس، وهو أول ملوك الروم، وقد قيل إنه في السنة الثالثة والربعين من ملكه ولد المسيح عيسى عليه السلام وقيل في السنة السابعة عشرة من ملكه، فسموا ملوك الروم بإسمه، والله أعلم.

ودعي له إخشيد على المنابر بهذا اللقب واشتهر به وصار كالعلم عليه؛ وكان ملكاً حازماً كثير التيقظ في حروبه ومصالح دولته، حسن التدبير، مكرماً للجنود شديد القوى لا يكاد يجر قوسه غيره؛ وذكر محمد بن عبد الملك الهمذاني في تاريخه الصغير الذي سماه "عيون السير" إن جيشه كان يحتوي على أربعمائة ألف رجل، وأنه كان جباناً، وكان له ثمانية آلاف يحرسه في كل ليلة ألفان منهم، ويوكل بجانب خيمته الخدم إذا سافر، ثم لا يثق حتى يمضي إلى خيم الفراشين فينام فيها.

ولم يزل على مملكته وسعادته إلى أن توفي في الساعة الرابعة من يوم الجمعة لثمان بقين من ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وثلثمائة بدمشق، وحمل تابوته إلى بيت المقدس فدفن به؛ وقال أبو الحسين الرازي: توفي في سنة خمس وثلاثين، والله أعلم؛ وكانت ولادته يوم الإثنين منتصف شهر رجب من سنة ثمان وستين ومائتين ببغداد، بشارع باب الكوفة، رحمه الله تعالى.

وهو أستاذ كافور الإخشيدي وفاتك الجنون- وقد تقدم ذكر كل واحد منهما في ترجمة مستقلة في هذا الكتاب.

ثم قام كافور المذكور بتربية ابني مخدومه أحسن قيام، وهما أبو القاسم أنوجور وأبو الحسن علي، كما تقدم شرحه في ترجمة كافور فأغنى عن إعادته هاهنا، فقد ذكرت هناك تاريخ مولد كل واحد منهما، ومدة ولايته وتاريخ وفاته، على سبيل الاختصار، واستوفيت حديث كافور وما كان منه إلى حين وفاته، وأن الجند أقاموا بعده أبا الفوارس أحمد بن علي بن الإخشيد المذكور، وأحلت بقية الكلام في ذلك على ذكره في هذه الترجمة؛ وكان عمر أبي الفوارس أحمد يوم ذاك إحدى عشرة سنة.

وجعلوا خليفته في تدبير أموره أبا محمد الحسن بن عبيد الله بن طغج بن جف، وهو ابن عم أبيه، وكان صاحب الرملة من بلاد الشام، وهو الذي مدحه المتنبي بقصيدته التي أولها:

 

أنا لائمي إن كنت وقت الوائم

 

علمت بما بي بين تلك المعالم

وقال في مخلصها:

إذا صليت لم أترك مصالا لفاتكٍ

 

وغن قلت لم أترك مقالا لعالم.

وإلا فخانتني القوافي وعاقنـي

 

عن ابن عبيد الله ضعف العزائم

وما أحسن قولها فيها:

أرى دن ما بين الفرات وبـرقة

 

ضراباً ينشي الخيل فوق الجماجم

وطعن غطاريف كأن أكـفـهـم

 

عرفن الردينيات قبل المعاصـم

حمته على الأعداء من كل جـانـب

 

سيوف بني طغج بن جف القـاقـم

هم المحسنون الكر في حومة الوغي

 

وأحسن منه كرهم في المـكـارم

وهو يحسنون العفو عن كل مذنـب

 

ويحتملون الغرم عن كـل غـارم

حييون إلا أنهـم فـي نـزالـهـم

 

أقل حياء من شفـار الـصـوارم

ولولا احتقار الأسد شبهتهـا بـهـم

 

ولكنها معـدومة فـي الـبـهـائم

ومنها:

كريم نقضت الناس لما بلغتـه

 

كانهم ما جف من زاد قـادم

وكاد سروري لا يفي بندامتـي

 

على تركه في عمري المتقادم

 

وهي قصيدة طويلة من غرر القصائد.


ولما تقرر الأمر على هذه القاعدة تزوج الحسن بين عبيد الله ابنة عمه الإخشيد، دعوا له على المنابر بعد أبي الفوارس احمد بن علي وهو بالشام، واستمر الحال على ذلك إلى يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شعبان من سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، ودخل إلى مصر رايات المغاربة الواصلين صحبة القائد جوهر المغربي - المقدم ذكره - وانقرضت الدولة الإخشيدية، وكانت مدتها أربعاً وثلاثين سنة وعشرة أشهر وأربعة وعشرين يوماً.


وكان قد قدم ابن عبيد الله من الشام منهزماً من القرامطة لما استولوا على الشام ودخل على ابنة عمه التي تزوجها وحكم وتصرف، وقبض على الوزير جعفر بن الفرات وصارده وعذبه، ثم سار إلى الشام في مسته شهر بيع الآخر من سنة ثمانين وخمسين وثلثمائة. ولما سير القائد جوهر المغربي جعفر بن فلاح إلى الشام، وملك البلاد حسبما شرحته في ترجمته، أسر جعفر بن فلاح أبا محمد بن عبد الله، وسيره إلى مصر مع جماعة من امراء الشام إلى القائد جوهر، ودخلوا مصر في جمادى الأولى سنة تسع وخمسن، وكان ابن عبيد الله قد أساء إلى أهل مصر في مدة ولايته عليهم فلما ولصوا إلى مصر تركوهم وقوفاً مشهورين مقدار سبع ساعات، والناس ينظرون إليهم، وشمت بهم من في نفسه منهم شيء، ثم أنزلوا في مضرب القائد جوهر وجعلوا مع المعتقلين. وفي السابع عشر من جمادى الأولى أرسل القائد جوهر ولده جعفراً إلى مولاه المعز، ومعه هدايا عظيمة تجل عن الوصف، وأرسل معه المأسورين الواصلين من الشام، وفيهم ابن عبيد الله، وحملوا في مركب بالنيل، وجوهر واقف ينظر إليهم، فانقلب المركب، فصاح ابن عبيد الله على القائد جوهر: يا أبا الحسن، أتريد أن تغرقنا؟ فاعتذر إليه وأظهر التوجع له: ثم نقوا إلى مركب آخر، وكانوا مقيدين، فلم أقف لهم بعد على خير، والله أعلم.


ثم وجدت بعدها في تاريخ العتقي أن الحسن المذكور توفي ليلة الجمعة لعشر بقين من شهر رجب سنة إحدى وسبعين وثلثمائة، وصلى عليه العزيز نزار بن المعز المذكور في القصر بالقاهرة.


وذكر الفرغاني في تاريخه أن ولادة الحسن المذكور في سنة اثنتي عشرة وثلثمائة، وأنه توفي في التاريخ المذكور، وان أبا الفوارس أحمد بن علي المذكور توفي لثلاث عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة سبع وسبعين وثلثمائة، والله أعلم.


والإخشيد: بكسر الهمزة وسكون الخاء المعجمة وكسر الشين المعجمة وبعدها ياء ساكنة مثناة من تحتها ثم دال مهملة - وقد تقدم الكلام على تفسير هذه الكلمة.


وطغج: بضم الطاء المهملة وسكون الغين المعجمة وبعدها جيم.


وجف: بضم الجيم وفتحها وبعدها فاء مشددة.


ويلتكين: بفتح الياء الثناة من تحتها سكون اللام وكسر التاء المثناة من فوقها وبعدها كاف مكسورة ثم ياء مثناة من تحتها نون.
وفوران بضم الفاء، وفوري بضم الفاء.


وأما تكين المذكور فإنه ولي مصر ثلاث مرات، وتوفي بها في المرة الثالثة يوم السبت لست عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة إحدى وعشرين وثلثمائة وتولاهما بعده أبو بكر الإخشيد كما تقدم ذكره.


وأما أحمد بن كيغلغ فقد ذكره الحافظ ابن عساكر في "تاريخ دمشق" في ترجمة مستقلة وذكر ولايته مصر وقال: وجرت بينه وبين محمد بن تكين الخاصة حروب إلى أن خلص الأمر له، ثم قدم محمد بن طغج أميراً على مصر من قبل الراضي فسلم إليه مصر، وكان أحمد أديباً شاعراً، ومن شعره:

 

لا يكن للكأس في كف

 

ك يوم الغيث لـبـث

أوما تـعـلـم أن ال

 

غيث ساق مستحـث

ومن شعره أيضاً:

واعطشا إلـى فـم

 

يمج خمراً من برد

إن قسم الناس فحس

 

بي بك من كل أحد

 

ثم قال: ومات أخوه إبراهيم بن كيغلغ في مستهل ذي القعدة سنة ثلاث وثلثمائة.


وابنه إسحاق بن إبراهيم هو الذي كان بطرابلس، وعاق بها أبا الطيب المتنبي لما قدمها من الرملة يريد أنطاكية ليمدحه فلم يفعل، وهجاه بقصيدته التي أولها:

لهوى القلوب سريرة لا تعلـم

 

عرضاً نظرت وخلت أني أسلم

ثم راح من عنده فبلغه موته بجبلة فقال:

قالوا لنا مات إسحاق فقلت لهـم

 

هذا الدواء الذي يشفي من الحمق

وهذه القصيدة والتي قبلها موجودتان في ديوانه، فلذلك تركنا ذكرهما، وله فيه أيضاً غير ذلك من الهجاء، تجاوز الله عنا وعنهم أجمعين.