المعتصم ابن صمادح الأندلسي
أبو يحيى محمد بن معن بن محمد بن أحمد بن صمادح، المنعوت بالمعتصم، التجيبي، صاحب المرية وبجاية والصمادحية من بلاد الأندلس.
كان جده محمد بن أحمد بن صمادح صاحب مدينة
وشقة وأعمالها، وذلك في أيام المؤيد هشام بن الحكم الأموي- المذكور في
ترجمة المعتمد بن عباد- فحاربه ابن عمه منذر بن يحيى التجيبي، فاستظهر
عليه وعجز عن دفعه لكثرة رجاله، وترك مدينة وشقة، وفر بنفسه ولم يبق له
بالبلد علقة، وكان صاحب رأي ودهاء ولسان وعارضة لم يكن في أصحاب السيوف
من يعدله في هذه الخلال في ذلك العصر.
وكان ولده معن والد المعتصم مصاهراً لعبد العزيز بن أبي عامر صاحب
بلنسية، فلما قتل زهير مولى أبيه- وكان صاحب المرية- وثب عبد العزيز
على المرية فملكها لكونها كانت لمولاهم، فحسده على ذلك مجاهد بن عبد
الله العامري المكني أبا الجيش صاحب دانية، فخرج قاصداً بلاد عبد
العزيز وهو بالمرية مشتغل في تركة زهير، فلما سمع بخروج مجاهد خرج من
المرية مبادراً لاستصلاحه واستخلف بها صهره ووزيره معن بن صمادح والد
المعتصم فخانه في الأمانة وغدر به، وطرده عن الإمارة، فلم يبق في ملوك
الطوائف بالأندلس أحد إلا ذمه على هذه الفعلة، إلا أنه تم له الأمر
واستتب.
فلما مات انتقل الملك إلى ولده المعتصم وتسمى بأسماء الخلفاء، وكان رحب الفناء، جزل العطاء، حليماً عن الدماء، طافت به الآمال، واتسع في مدحه المقال، وأعملت إلى حضرته الرحال، ولزمه جماعة من فحول الشعراء، كأبي عبد الله بن الحداد وغيره، وله أشعار حسنة، فمن ذلك ما كتبه إلى أبي بكر ابن عمار الأندلسي- المقدم ذكر- يعاتبه:
وزهدني في الناس معرفتي بـهـم |
|
وطول اختباري صاحباً بعد صاحب |
فلم ترني الأيام خـلاً تـسـرنـي |
|
بواديه إلا ساءني في العـواقـب |
ولا صرت أرجوه لدفـع مـلـمة |
|
من الدهر إلا كان إحدى النـوائب |
فكتب إليه ابن عمار جوابها، وهي أبيات كثيرة فلا حاجة إلى ذكرها.
ومن شعره أيضاً:
يا من بجسمي لبعـده سـقـم |
|
ما منه غير الدنو يبـرينـي |
بين جفوني والنوم معـتـرك |
|
تصغر عنه حروب صفـين |
إن كان صرف الزمان أبعدني |
|
عنك فطيف الخيال يدنينـي |
ومن هنا أنشد بهاء الدين زهير بن محمد- الكاتب المقدم ذكره - قوله من جملة قصيدة:
بين جفوني والكـرى |
|
مذ غبت عني معترك |
وله غير ذلك مقاطيع كثيرة.
ولأبي عبد الله محمد بن أحمد بن خلف بن أحمد بن عثمان بن إبراهيم
المعروف بالحداد القيسي من أهل المرية في مديحه قصائد بديعة، فمن ذلك
قصيدته التي أولها:
لعلي بالوادي المقـدس شـاطـئ |
|
فكالعنبر الهندي مـا أنـا واطـئ |
وإني مـن رياك واجـد ريحـهـم |
|
فروح الهوى بين الجوانح ناشـئ |
ولي في السرى من نارهم ومنارهم |
|
حدادة هداة والنجـوم طـوافـئ |
لذلك ما حنت ركابي وحمحـمـت |
|
عرابي وأوحى سيرها المتباطـئ |
فهل هاجها ما هاجني ولعـلـهـا |
|
إلى الوجد من نيران قلبي لواجـئ |
رويداً فـذا وادي لـبـينـي وإنـه |
|
لورد لباناتي وإنـي لـظـامـئ |
ويا حبذا من آل لبنـى مـواطـنٌ |
|
ويا حبذا في أرض لبنى مواطـئ |
ميادين تهيامي ومسرح خـاطـري |
|
فللشوق غاياتٌ بـهـا ومـبـادئ |
ولا تحسبوا غيداً حوتها مقـاصـرٌ |
|
فتلك قلوبٌ ضمنتـهـا جـآجـئ |
وفي الكلة الزرقاء مكلـوء عـزه |
|
تحف به زرق العوالي الكوالـئ |
محاملة السلوان مبعث حـسـنـه |
|
فكل إلى دين الصبـابة صـابـئ |
ومنها أيضاً:
تمنى مدى قرطبة عـفـرٌ تـوالـع |
|
وتهوى ضيا عينيه عـينٌ جـوازئ |
وفي ملعب الصدغين أبيض ناصـع |
|
تخلله للحـسـن أحـمـر قـانـئ |
أفاتكة الألحاظ نـاسـكة الـهـوى |
|
ورعت ولكن لحظ عينك خـاطـئ |
وآل الهوى جرحى ولكن دمـاؤهـم |
|
دموع هوامٍ والـجـروح مـآقـئ |
وكيف أعاني كلك طرفك في الحشا |
|
وليس لتمزيق المـهـنـد راقـئ |
ومن أين أرجو برء نفسي من الجوى |
|
ومـا كـل ذي سـقـم بـــارئ |
ويخرج من هذا إلى المدح، وهذه القصيدة طنانة طويلة.
وقصده أيضاً من شعراء الأندلس أبو القاسم الأسعد بن بليطة، وهو من فحول
شعرائهم، ومدحه بقصيدته الطائية التي أولها:
برامة ريم زارني بعـدمـا شـطـا |
|
تقنصته في الحلم بالشط فاشتـطـا |
رعى من أناس في الحشا ثمر الهوى |
|
جنياً ولم يرع العرار ولا الخمطـا |
ومنها:
وقد ذاب كحل الليل في دمع فجره |
|
إلى أن تبدي الصبح كاللمة الشمطا |
كأن الدجى جيش من الزنج نـافـر |
|
وقد أرسل الإصباح في إثره القبطا |
كأن أنو شـروان أعـلاه تـاجـه |
|
وناطت عليه كف مارية القرطـا |
سبى حلة الطاوس حسن لـبـاسـه |
|
ولم يكفه حتى سبى المشية البطـا |
ومنها أيضاً:
توهم عطف الصدع نوناً بخـدهـا |
|
فباتت بمسك الخال تنقطه نقـطـا |
غلامية جاءت وقد جعل الـدجـى |
|
لخاتم فيها فص غـالـية خـطـا |
غدت تنفع المسواك في بر ثغرهـا |
|
وقد ضمخت مسكا غدائرها المشطا |
فقلت أحاجيها بمـا فـي جـفـونـهـا |
|
وما في الشفاه اللعس من حسنها المعطى |
محيرة الألحـاظ مـن غـير سـكـرةٍ |
|
متى شربت ألحاظ عينيك إسـفـنـطـا |
أرى صفرة المسواك في حمرة اللـمـى |
|
وشاربك المخضر بالمسك قـد خـطـا |
عسـى قـزح قـلـبـه فـاخـالــه |
|
على الشفة اللمياء قد جاء مـخـتـطـا |
ومنها في المدح قوله:
كأن أبا يحيى بن معـن أجـادهـا |
|
فعلمها من كفه الوكف والبسطـا |
تألف مـن در وشـذرٍ نـجـاره |
|
فجاءت به العليا على جيدها سمطا |
إذا سار سار المجد تحـت لـوائه |
|
فليس يحط المجد إلا إذا حـطـا |
رفيع عماد النار في الليل للسـرى |
|
فما يخيط العشواء طارقه خبطـا |
ومنها أيضاً:
أقول لركب يمموا مـسـقـط الـنـدى |
|
وقد جاوز الركبان من دونك السقـطـا |
أفي المجد تبغي لابن معنٍ منـاقـضـاً |
|
ومن يوقد المصباح في الشمس قد أخطا |
وهي قصيدة طويلة مقدار تسعين بيتاً، أحسن فيها ناظمها مع وعورة مسلك حرف رويها.
وكان المعتصم المذكور قد اختص بمؤانسة الأمير يوسف بن تاشفين عند عبوره
إلى جزيرة الأندلس حسبما شرحناه في ترجمة المعتمد بن عباد المذكور قبله
وأقبل عليه أكثر من بقية ملوك الطوائف، فلما تغيرت نية الأمير يوسف على
المعتمد وجاهره المعتمد بالعصيان شاركه في ذلك المعتصم، ووافقه على
الخروج عن طاعته وعدم الإنقياد لأمره، فلما قصد الأمير يوسف بلاد
الأندلس عزم على خلعهما وقبضهما.
قال ابن بسام في "الذخيرة": وكان بين المعتصم وبين الله سريرة، أسلفت
له عند الحمام يداً مشكورة، فمات وليس بينه وبين حلول الفاقرة به إلا
أيام يسيرة، في سلطانه وبلده، وبين أهله وولده. حدثني من لا أرد خبره
عن أروى بعض مسان حظايا أبيه قالت: إني لعنده وهو يرضى بشأنه، وقد غلب
على أكثر يده ولسانه، ومعسكر أمير المسلمين - تعني يوسف بن تاشفين
-يومئذ بحيث نعد خيماتهم ونسمع اختلاط أصواتهم إذ سمع وجبة من وجباتهم،
فقال: لا إله إلا الله، نعض علينا كل شيء حتى الموت! قالت أروى: فدمعت
عيني، فلا أنسى طرفاً إلي يرفعه، وإنشاده لي بصوت لا أكاد أسمعه:
ترفق بدمعك لا تفنـه |
|
فبين يديك بكاء طويل |
وقال محمد بن أيوب الأنصاري في كتابه الذي صنفه للسلطان الملك الناصر صلاح الدين رحمه الله تعالى في سنة ثمان وستين وخمسمائة في ترجمة المعتصم بن صمادح المذكور، بعد أن ذكر طرفاً من أخباره، وشيئاً من أشعاره، وحكى صورة حصاره، وقوله في مرضه نغض غلينا كل شيء حتى الموت: ومات - يعني المعتصم - في أثر ذلك عند طلوع الشمس يوم الخميس لثمان بقين من شهر ربيع الأول سنة أربع وثمانين وأربعمائة بالمرية، رحمه الله تعالى، ودفن في تربة له عند باب الخوخة.
وصمادح: بضم الصاد االمهملة وفتح الميم وبعد الألف دال مكسورة ثم حاء مهملة، وهو الشديد.
وبليطة: والد أبي القاسم الأسعد الشاعر المذكور، بكسر الباء الموحدة واللام المشددة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الطاء المهملة وبعدها هاء ساكنة، ولا أعرف معناه، وهو بلغة أعاجم الأندلس.
والتجيبي: قد تقدم الكلام عليه.
وبجاية: بفتح الباء الموحدة والجيم وبعد الألف ياء ثم هاء ساكنة، وهي مدينة بالأندلس.
والمرية قد تقدم الكلام عليها؛ والصمادحية منسوبة إلى صمادح المذكور.
ووشقة: بفتح الواو وسكون الشين المعجمة وفتح القاف وبعدها هاء ساكنة، بلدة بالأندلس أيضاً، والله أعلم.