طغرلبك

أبو طالب محمد بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق الملقب ركن الدين طغرلبك أول ملوك السلاجقة؛ كان هؤلاء القوم قبل استيلائهم على المماليك يسكنون فيما وراء النهر في موضع بينه وبين بخارى مسافة عشرين فرسخاً، وهم اتراك، وكانوا عدداً يجل عن الحصر والإحصاء، وكانوا لا يدخلون تحت طاعة سلطان، وإذا قصدهم جمع لا طاقة لهم به دخلوا المفاوز وتحصنوا بالرمال فلا يصل إليهم أحد، فلما عبر السلطان محمود بن سبكتكين إلى ما وراء النهر- وكان سلطان خراسان وغزنة وتلك النواحي وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - وجد زعيم بني سلجوق قوي الشوكة كثير العدة، يتصرف في أمره على المخاتلة والمراوغة وينتقل من أرض إلى غيرها ويغير في أثناء ذلك على تلك البلاد، فاستماله وجذبه، ولم يزل يخدعه حتى أقدمه إليه، فأمسكه وحمله إلى بعض القلاع واعتقله، وخرج في إعمال الحيلة في تدبير أمر أصحابه، واستشار أعيان دولته في شأنهم، فمنهم من أشار بإغراقهم في نهر جيحون؛ وأشار آخرون بقطع إبهام كل رجل منهم ليعتذر عليهم الرمي والعمل بالسلاح، واختلفت الآراء في ذلك، وآخر ما وقع الاتفاق عليه أن يعبر بهم جيحون إلى أرض خراسان ويفرقهم في النواحي، ويضع عليهم الخراج، ففعل ذلك، فدخلوا في الطاعة واستقاموا، وأقاموا على تلك الحالة مدة، فطمع فيهم العمال وظلموهم وامتدت إليهم أيدي الناس وتهضموا جانبهم وأخذوا من أموالهم ومواشيهم، فانفصل منهم ألفا بيت، ومضوا إلى بلاد كرمان، وملكها يومئذ الأمير أبو الفوارس ابن بهاء الدولة عضد الدولة بن بويه، فأقبل عليهم وخلع على وجوههم، وعزم على استخدامهم فلم يستتموا عشرة أيام حتى مات أبو الفوارس، وخافوا من الديلم، وهم أهل ذلك الإقليم، فبادروا إلى قصد أصبهان ونزلوا بظاهرها، وصاحبها علاء الدولة أبو جعفر بن كاكويه، فرغب في استخدامهم، فكتب إليه السلطان محمود يأمره بالإيقاع بهم ونهبهم، فتواقعوا وقتل من الطائفتين جماعة، وقصد الباقون أذربيجان وانحاز الذين بخراسان إلى جبل قريب من خوارزم، فجرد السلطان محمود جيشاً وأرسله في طلبهم، فتتبعوهم في تلك المفاوز مقدار سنتين، ثم قصدهم محمود بنفسه ولم يزل في أثرهم حتى شردهم وشتتهم.

ثم توفي محمود عقيب ذلك- في التاريخ الآتي ذكره في ترجمته إن شاء الله تعالى - وقام بالأمر بعده ولده مسعود، فاحتاج إلى الاستظهار بالجيوش، فكتب إلى الطائفة التي بأذربيجان لتتوجه إليه، فجاءه منهم ألف فارس، فاستخدمهم ومضى بهم إلى خراسان، فسألوه في أمر الباقين الذي شتتهم والده محمود، فراسلهم وشرد عليه لزوم الطاعة، فأجابوه إلى ذلك وأمنهم، وحضروا إليه ورتبهم على ما كان والده قد رتبهم أولاً، ثم دخل مسعود بلاد الهند لاضطراب أحوالها عليه، فخلت لهم البلاد وعادوا إلى الفساد، وبالجملة فإن الشرح في هذا يطول.

وجرى هذا كله والسلطان طغرلبك المذكور واخوه داود ليسا معهم، بل كانا في موضعهم من نواحي ما وراء النهر، وجرت بينهما وبين ملكشاه صاحب بخارى وقعة عظيمة قتل فيها خلق كثير من أصحابهما، ودعت حاجتهما إلى اللحاق بأصحابهما الذي بخراسان فكاتبوا مسعوداً وسألوه الأمان والاستخدام، فحبس الرسل وجرد جيوشاً لمواقعة من بخراسان منهم، فكانت مقتلة عظيمة، ثم إنهم اعتذورا إلى مسعود وبذلوا له الطاعة وضمنوا له أخذ خوارزم من صاحبها، فطيب قلوبهم وأفرج عن الرسل الواصلين من جهة ما وراء النهر وسألوه أن يفرج عن زعيمهم الذي اعتقله أبوه محمود في أول الأمر، فأجابهم إلى سؤالهم وأنزله من تلك القلعة، وحمل إلى بلخ مقيداً فاستأذن مسعوداً في مراسلة ابني أخيه طغرلبك وداود- المقدم ذكرهما - فأذن له، فراسلهما. وحاصل الأمر أنهما وصلا إلى خراسان ومعهما أيضاً جيش كبير، فاجتمع الجميع، وجرت لهم مع ولاة خراسان ونواب مسعود في البلاد أسباب يطول شرحها.

وخلاصة الأمر انهم استظهروا عليهم وظفروا بهم، وأول شيء ملكوه من البلاد طوس، وقيل الري، وكان تملكهم في سنة تسع وعشرين وأربعمائة، ثم بعد ذلك بقليل ملكوا نيسابور، إحدى قواعد خراسان، في شهر رمضان في السنة المذكورة، وكان السلطان طغرلبك المذكور كبيرهم، وإليه الأمر والنهي في السلطنة، وأخذ أخوه داود المذكور مدينة بلخ، وهو والد ألب أرسلان - الآتي ذكره إن شاء الله تعالى - واتسع لهم الملك واقتسموا البلاد، وانحاز مسعود إلى غزنة وتلك النواحي، وكانوا يخطبون له في أول الأمر، وعظم شأنهم إلى أن أرسلهم الإمام القائم بأمر الله، وكان الرسول الذي أرسلهم إليهم القاضي أبا الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي، مصنف "الحاوي" في الفقه- وقد تقدم ذكره - ثم ملك بغداد والعراق، في سادس عشر شهر رمضان المعظم، سنة سبع وأربعين وأربعمائة، وأوصاهم بتقوى الله تعالى والعدل في الرعية والرفق بهم وبث الإحسان إلى الناس.

وكان طغرلبك حليماً كريماً محافظاً على الصلوات الخمس في أوقاتها جماعة، وكان يصوم الإثنين والخميس ويكثر من الصدقات ويبني المساجد، ويقول: أستحي من الله سبحانه وتعالى أن أبني لي داراً ولا أبني إلى جانبها مسجداً. ومن محاسنه المسطورة أنه سير الشريف ناصر بن إسماعيل رسولاً إلى ملكة الروم، وكانت إذا ذاك امرأة كافرة، فاستأذنها الشريف في الصلاة بجامع القسطنطينية جماعة يوم الجمعة، فأذنت له في ذلك، فصلى وخطب للإمام القائم، وكان رسول المستنصر العبيدي صاحب مصر حاضراً فأنكر ذلك، وكان من أكبر الأسباب في فساد الحال بين المصريين والروم.

ولما تمهدت له البلاد وملك العراق وبغداد، سير إلى الإمام القائم وخطب ابنته، فشق على القائم ذلك واستعفى منه، وترددت الرسل بينهما، ذكر ذلك في "الشذور" سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة، فلم يجد من ذلك بداً فزوجه بها، وعقد العقد بظاهر مدينة تبريز، ثم توجه إلى بغداد في سنة خمس وخمسين وأربعمائة، ولما دخلها سير طلب الزفاف وحمل مائة ألف دينار برسم حمل القماش ونقله، فزفت إليه ليلة الإثنين خامس عشر صفر بدار المملكة، وجلست على سرير ملبس بالذهب، ودخل إليها السلطان فقبل الأرض بين يديها ولم يكشف البرقع عن وجهها في ذلك الوقت، وقدم لها تحفاً يقصر الوصف عن ضبطها، وقبل الأرض وخدم وتنصرف وظهر عليه سرور عظيم.

وبالجملة فأخبار الدولة السلجوقية كثيرة، وقد اعتنى بها جماعة من المؤرخين وألفوا فيها تآليف اشتملت على تفاصيل أمرهم، وما قصدت من الإتيان بهذه النبة إلا التنبيه على مبدإ حالهم، ليكشف جلية ذلك من يروم الوقوف عليه. وتوفي طغرلبك المذكور يوم الجمعة ثامن شهر رمضان المعظم سنة خمس وخمسين وأربعمائة بالري، وعمره سبعون سنة، ونقل إلى مرو ودفن عند قبر أخيه داود- وسيأتي ذكره في ترجمة ولده ألب أرسلان، إن شاء الله تعالى- وقال ابن الهمذاني في تاريخه، إنه دفن بالري في تربة هناك، وكذا قال السمعاني في "الذيل"، في ترجمة السلطان سنجر المقدم ذكره.

وحكى وزيره محمد بن منصور الكندري- الآتي ذكره - عنه انه قال: رأيت وأنا بخراسان في المنام كأنني رفعت إلى السماء، وأنا في ضباب لا أبصر معه شيئاً غير أني أشم رائحة طيبة، وإذا بمناد ينادي: أنت قريب من الباري جلت قدرته، فاسأل حاجتك لتقضى، فقلت في نفسي أسأل طول العمر، فقيل لك سبعون سنة، فقلت: يا رب لا تكفيني، فقيل لك سبعون سنة، فقلت: لا تكفيني، فقيل لك سبعون سنة، ذكر هذا شيخنا ابن الأثير في تاريخه.

ولما حضرته الوفاة قال: إنما مثلي مثل شاة تشد قوائهما لجز الصوف، فتظن أنها تذبح فتضطرب، حتى إذا أطلقت تفرح، ثم تشد للذبح فتظن أنه لجز الصوف فتسمن فتذبح، وهذا المرض الذي أنا فيه هو أشد القوائم للذبح، فمات منه، رحمه الله تعالى؛ ولم تقم بنت الإمام القائم في صحبته إلا مقدار ستة أشهر. ولم يخلف ولداً ذكراً، فانتقل ملكه إلى ابن أخيه ألب أرسلان حسبما شرح في ترجمته. وماتت زوجته ابنة القائم في سنة ست وتسعين وأربعمائة، في سادس المحرم.

وطغرلبك: بضم الطاء المهملة وسكون الغين المعجمة وضم الراء وسكون اللام وفتح الباء الموحدة وبعدها كاف، وهو اسم علم تركي مركب من طغرل وهو اسم علم بلغة الترك لطائر معروف عندهم، وبه سمي الرجل، وبك معناه الأمير.

وسلجوق: بفتح السين المهملة وسكون اللام وضم الجيم وسكون الواو وبعدها قاف.

ودقاق: بضم الدال المهملة وبين القافين ألف ساكنة.

وجيحون: بفتح الجيم وسكون الياء المثناة من تحتها وضم الحاء المهملة وسكون الواو وبعدها نون، وه النهر العظيم الفاصل ما بين خوارزم وبلاد خراسان وبين بخارى وسمرقند وتلك البلاد، فكل ما كان من تلك الناحية فهو ما وراء النهر، والمراد بالنهر هم النهر المذكور، وهو أحد انهار الجنة الذي جاء ذكره في الحديث أنه يخرج منها أربعة أنهار: نهران ظاهران ونهران باطنان، فالظاهران: النيل والفرات، والباطنيان: سيحون وجيجون.

وسيحون: بفتح السين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وضم الحاء المهملة وسكون الواو وبعدها نون، وهو وراء جيحون فيما يلي بلاد الترك، وبينهما مسافة خمسة وعشرين يوماً، وهذان النهران مع عظمهما وسعة عرضهما يجمدان في زمن الشتاء، وتعبر القوافل عليهما بدوابهما وأثقالهما ويقيمان كذلك مقدار ثلاثة أشهر.

وهذا كله وإن كان خارجاً عن مقصودنا لكنه متعلق بما نحن فيه، فانتشر الكلام، وما يخلو من فائدة يقف عليها من كان يتوقعها ممن بعدت بلاده ولا يعرف صورة الحال.