ابن بقية

الوزير أبو الطاهر محمد بن محمد بن بقية بن علي، الملقب نصير الدولة، وزير عز الدولة بختيار بن معز الدولة بن بويه - المقدم ذكره - كان من جلة الرؤساء، أكابر الوزراء، وأعيان الكرماء. وقد تقدم فر ترجمة عز الدولة طرف من خبره في قضية الشمع، وأن الشماع لما سئل عن راتب عز الدولة في السمع كم كان، فقال: كان راتب وزيره محمد بن بقية ألف من في كل شهر، فإذا كان هذا راتب الشمع خاصة مع قلة الحاجة إليه، فكم يكون غيره مما تشتد الحاجة إليه؟

وكان من أهل أوانا من أعمال بغداد، وكان في أول أمره قد توصل إلى أن صار صاحب مطبخ معز الدولة والد عز الدولة، ثم تنقل إلى غيرها من الخدم.

ولما مات معز الدولة وأفضى الأمر إلى عز الدولة حسنت حاله عنده، ورعى خدمته لأبيه، وكان فيه توصل وسعة صدر، وتقدم إلى أن استوزره عز الدولة يوم الاثنين لسبع ليال خلون من ذي الحجة سنة اثنتين وستين وثلثمائة.

ثم إنه قبض عليه لسبب اقتضى ذلك يطول شرحه؛ وحاصله أنه حمله على محاربة ابن عمه عضد الدولة، فالتقيا على الأهواز وكسر عز الدولة، فنسب ذلك إلى رأيه ومشورته، وفي ذلك يقول أبو غسان الطبيب بالبصرة:

أقام على الأهواز خمسين ليلة

 

يدبر أمر الملك حتى تدمـرا

فدبر أمراً كان أوله عـمـى

 

وأوسطه بلوى وآخره خـرا

 

وكان قبضه يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة سنة ست وستين وثلثمائة بمدينة واسط، وسمل عينيه ولزم بيته. وكان في مدة وزارته يبلغ عضد الدولة ابن بويه عنه أمور يسوءه سماعها، منها أنه كان يسميه أبا بكر الغددي تشبيهاً له برجل أشقر أزرق أنمش يسمى أبا بكر كان يبيع الغدد برسم السنانير ببغداد، وكان عضد الدولة بهذه الحلية وكان الوزير يفعل ذلك تقرباً إلى قلب مخدومه عز الدولة لما كان بينه وبين ابن عمه عضد الدولة من العداوة، فلما قتل عز الدولة - كما وصفناه في ترجمته - وملك عضد الدولة بغداد ودخلها طلب ابن بقية المذكور وألقاه تحت أرجل الفيلة، فلما قتل صلبه بحضرة البيمارستان العضدي ببغداد، وذلك في يوم الجمعة لست خلون من شوال سنة سبع وستين وثلثمائة، رحمه الله تعالى.


وقال ابن الهمذاني في كتاب "عيون السير": لما استوزر عز الدولة بختيار ابن بويه ابن بقية المذكور، بعد أن كان يتولى أمر المطبخ، قال الناس: من الغضارة إلى الوزارة، وستر كرمه عيوبه، وخلع في عشرين يوماً عشرين ألف خلعة، قال أبو إسحاق الصابي: رأيته وهو يشرب في بعض الليالي، وكلما لبس خلعة خلعها على أحد الحاضرين، فزادت على مائتي خلعة، فقالت له مغنيته: يا سيدي الوزير في هذه الثياب زنابير ما تدعها تثبت على جسمك، فضحك وأمر لها بحقة حلي. وهو أول وزير لقب بلقبين، فإن الإمام المطيع لقبه بالناصح، ولقبه ولده الطائع بنصير الدولة.


ولما جرت الحرب بين عز الدولة وابن عمه عضد الدولة قبض عز الدولة عليه وسمله وحمله إلى عضد الدولة مسمولاً، فشهره عضد الدولة وعلى رأسه برنس، ثم أمر بطرحه للفيلة فقتله، ثم صلبه عند داره بباب الطاق، وعمره نيف وخمسون سنة. ولما صلب رثاه أبو الحسن محمد بن عمر بن يعقوب الأنباري أحد العدول ببغداد بقوله:

علو في الحياة وفي المـمـات

 

لحق أنت إحدى المعـجـزات

كأن الناس حولك حين قـامـوا

 

وفود نـداك أيام الـصـلات

كأنك قائم فـيهـم خـطـيبـاً

 

وكلـهـم قـيام لـلـصـلاة

مددت يديك نحوهم احـتـفـاء

 

كمدهما إليهـم بـالـهـبـات

ولما ضاق بطن الأرض عن أن

 

يضم علاك من بعد المـمـات

أصاروا الجو قبرك واستنابـوا

 

عن الكفان ثوب الـسـافـيات

لعظمك في النفوس تبيت ترعى

 

بحـفـاظ وحـراس ثـقـات

وتشعل عندك الـنـيران لـيلاً

 

كذلـك كـنـت أيام الـحـياة

ركبت مطية مـن قـبـل زيد

 

علاها في السنين الماضـيات

وتلك فـضـيلة فـيهـا تـأس

 

تباعد عنك تـعـيير الـعـداة

ولم أر قبل جذعك قط جـذعـا

 

تمكن من عناق المكـرمـات

أسأت إلى النوائب فاستـثـارت

 

فأنت قتيل ثـأر الـنـائبـات

وكنت تجير من صرف الليالي

 

فعاد مطالباً لـك بـالـتـرات

وصير دهرك الإحسـان فـيه

 

إلينا من عـظـيم الـسـيئات

وكنت لمعشر سعداً، فـلـمـا

 

مضيت تفرقوا بالمنحـسـات

غليل باطن لـك فـي فـؤادي

 

يخفف بالدمـوع الـجـاريات

ولو أني قدرت عـلـى قـيام

 

لفرضك والحقوق الواجبـات

ملأت الأرض من نظم القوافي

 

ونحت بها خلاف النـائحـات

ولكني أصبر عنك نفـسـي

 

مخافة أن أعد من الجـنـاة

وما لك تربة فأقول تسقـى

 

لأنك نصب هطل الهاطلات

عليك تحية الرحمن تـتـرى

 

برحمات غـواد رائحـات

 

ولم يزل ابن بقية مصلوباً إلى أن توفي عضد الدولة - في التاريخ المذكور في ترجمته في حرف الفاء - فأنزل عن الخشبة، ودفن في موضعه، فقال فيه أبو الحسن ابن الأنباري صاحب المرثية المذكورة:

ولم يلحقوا بك عاراً إذ صلبت بلى

 

باءوا بإثمك ثم استرجعوا نـدمـا

وأيقنوا أنهم في فعلهم غـلـطـوا

 

وأنهم نصبوا من سؤدد عـلـمـا

فاسترجعوك وواروا منك طود علا

 

بدفنه دفنوا الأفضال والكـرمـا

لئن بليت فلا يبلى نداك فيك كمـا

 

ما زال مالك بين الناس منقسمـا

 

قال الحافظ ابن عساكر في "تاريخ دمشق": لما صنع أبو الحسن المرثية التائية كتبها ورماها في شوارع بغداد، فتداولتها الأدباء، إلى أن وصل الخبر إلى عضد الدولة، فلما أنشدت بين يديه تمنى أن يكون هو المصلوب دونه، فقال: علي بهذا الرجل، فطلب سنة كاملة، واتصل الخبر بالصاحب ابن عباد وهو بالري فكتب له الأمان، فلما سمع أبو الحسن ابن الأنباري بذكر الأمان قصد حضرته فقال له: أنت القائل هذه الأبيات؟ قال: نعم، قال: أنشدنيها من فيك، فلما أنشد:

ولم أر قبل جذعك قط جذعا

 

تمكن من عناق المكرمات

 

قام إليه الصاحب وعاتقه وقبل فاه، وأنفذ إلى عضد الدولة، فلما مثل بين يديه قال له: ما الذي حملك على مرثية عدوي؟ فقال: حقوق سلفت وأياد مضت، فجاش الحزن في قلبي فرثيت، فقال: هل يحضرك شيء في الشموع، والشموع تزهر بين يديه، فأنشأ يقول:

كأن الشموع وقد أظهـرت

 

من النار في كل رأس سنانا

أصابع أعدائك الـخـائفـين

 

تضرع تطلب منك الأمانـا

 

فلما سمعها خلع عليه وأعطاه فرساً وبدرة؛ انتهى كلام الحافظ ابن عساكر رحمه الله.
قلت: قوله في الأبيات:

ركبت مطية من قبـل زيد

 

علاها في السنين الماضيات

 

زيد هذا هو أبو الحسين زيد بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وكان قد ظهر في أيام هشام بن عبد الملك في سنة اثنتين وعشرين ومائة، ودعا إلى نفسه، فبعث إليه يوسف بن عمر الثقفي والي العراقين يومئذ جيشاً مقدمه العباس المري، فرماه رجل منهم بسهم فأصابه فمات، وصلب بكناسة الكوفة، ونقل رأسه إلى البلاد. وقال ابن قانع: كان ذلك في صفر سنة إحدى وعشرين ومائة، وقيل سنة اثنتين وعشرين ومائة في صفر أيضاً، بالكوفة، ولزيد من العمر اثنان وأربعون سنة يومئذ. وقال ابن الكلبي في كتاب "جمهرة النسب": إن زيد بن علي رضي الله عنهما أصابه سهم في جبهته فاحتمله أصحابه، وكان ذلك عند المساء، ثم دعوا الحجام فانتزع النشابة وسالت نفسه، رضي الله عنه. وذكر أبو عمرو الكندي في كتاب "أمراء مصر" أن أبا الحكم ابن أبي الأبيض العبسي قدم إلى مصر برأس زيد بن علي خطيباً يوم الأحد لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة اثنتين وعشرين ومائة، واجتمع إليه الناس في المسجد، وهو صاحب المشهد الذي بين مصر وبركة قارون، بالقرب من جامع ابن طولون يقال: إن رأسه مدفون به، والله أعلم بالصواب.


وقتل ولده يحيى بن زيد سنة خمس وعشرين ومائة، وقصته مشهورة بالجوزخان، قتله سالم بن أحوز المازني، وقيل جهم بن صفوان صاحب الجهمية. وهذه القصيدة اتفق العلماء على أنه لم يعمل في بابها مثلها. وقد ذكر أبو تمام أيضاً حال المصلوبين في قصيدته التي مدح بها المعتصم لما صلب الأفشين خيذر ابن كاوس مقدم قواده وبابك ومازيار في سنة ست وعشرين ومائتين، وقصتهم مشهورة، فمنها قوله:

ولقد شفى الأحشاء من برحائهـا

 

إذ صار بابـك جـار مـازيار

ثانية في كبد السماء ولـم يكـن

 

كاثنين ثان إذ هما في الـغـار

وكأنما اتنبذا لـكـيمـا يطـويا

 

عن ناطس خبراً من الأخبـار

سود اللباس كأنما نسجت لـهـم

 

أيدي السموم مدارعاً من قـار

بكروا وأسروا في متون ضوامر

 

قيدت لهم من مربط النـجـار

لا يبرجون ومن رآهم خالهم

 

أبداً على سفر من الأسفار

 

وقبل هذا في وصف الأفشين خاصة:

رمقوا أعالي جذعه فكأنمـا

 

رمقوا الهلال عشية الإفطار

 

وهي من القصائد الطنانة. والأفشين مشهور فلا حاجة إلى ضبطه، وهو بكسر الهمزة وفتحها، واسمه خيذر - بفتح الخاء المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الذال المعجمة وبعدها راء - وإنما قيدته لأنه يتصحف على كثير من الناس بحيدر، بالحاء المهملة.


ومن شعر أبي الحسن الأنباري المذكور في الباقلي الأخضر قوله:

فصوص زمرد في غلف در

 

بأقماع حكت تقليم ظـفـر

وقد خلع الربيع لـه ثـيابـا

 

لها لونان من بيض وخضر

 

وقد ذكره الخطيب في "تاريخ بغداد" وقال: إنه من المقلين في الشعر، رحمه الله تعالى.