ابن مقلة

أبو علي بن الحسين بن مقلة الكاتب المشهور؛ كان في أول أمره يتولى بعض أعمال فارس ويجبي خراجها، وتنقلت أحواله إلى أن استوزره الإمام المقتدر بالله، وخلع عليه لأربع عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة ست عشرة وثلثمائة، وقبض عليه يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى سنة ثماني عشرة وثلثمائة، ثم نفاه إلى بلاد فارس بعد أن صادره، ثم استوزره الإمام القاهر بالله، فأرسل إليه إلى فارس رسولاً يجيء به، ورتب له نائباً عنه، فوصل ابن نقلة من فارس بكرة يوم الخميس عيد الأضحى من سنة عشرين وثلثمائة، وخلع عليه، ولم يزل وزيره حتى اتهمه بمعاضدة علي بن بليق على الفتك به، وبلغ ابن مقلة الخبر، فاستتر في أول شعبان من سنة إحدى وعشرين وثلثمائة.

ولما ولي الرضي بالله، لست خلون من جمادى الأولى من سنة اثنتين وعشرين وكان المظفر بن ياقوت مستحوذاً على أمور الراضي، وكانت بينه وبين أبي علي الوزير وحشة، فقرر ياقوت المذكور مع الغلمان الحجرية أنه إذا جاء الوزير أبو علي قبضوا عليه، وأن الخليفة لا يخالفهم في ذلك، وربما سره هذا الأمر، فلما حصل الوزير في دهليز دار الخلافة وثب الغلمان عليه ومعهم ابن ياقوت المذكور فقبضوا عليه وأرسلوا إلى الراضي يعرفونه صورة الحال، وعددوا له ذنوباً وأسباباً تقضي ذلك، فرد جوابهم وهو يستصوب رأيهم فيما فعلوه، وذلك في يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى سنة أربع وعشرين وثلثمائة، واتفق رأيهم على تفويض الوزارة إلى عبد الرحمن بن عيسى بن داود بن الجراح، فقلده الراضي الوزارة، وسلم إليه أبا علي بن مقلة، فضربه بالمقارع وجرى عليه من المكاره بالتعليق وغيره من العقوبة شيء كثير، وأخذ خطه بألف ألف ينار، ثم خلص وجلس بطالاً في داره.

ثم إن أبا بكر محمد بن رائق استولى على الخلافة، وخرج عن طاعتها فانفذ إليه الراضي واستماله، وفوض إليه تدبير المملكة وجعله أمير الأمراء ورد إليه تدبير أعمال الخراج والضياع في جيمع النواحي، وأمر أن يخطب له على جميع المنابر، فقوي أمره وعظم شأنه وتصرف على حسب اختياره؛ واحتاط على أملاك ابن مقلة المذكور وضياعه وأملاك ولده أبي الحسين، فحضر إليه ابن مقلة وإلى كاتبه وتذلل لهما في معنى الإفراج عن أملاكه، فلم يحصل منهما إلا على المواعيد، فلما رأى ابن مقلة ذلك أخذ في السعي بابن رائق المذكور من كل جهة، وكتب إلى الراضي يشير عليه بإمساكه والقبض عليه، وضمن له أنه متى فعل ذلك وقلده الوزارة استخرج له ثلثمائة ألف ألف دينار، وكانت مكاتبته على يد علي بن هارون المنجم النديم - المقدم ذكره - فأطمعه الراضي بالإجابة إلى ما سأل، وترددت الرسائل بينهما في ذلك، فلما استوثق ابن مقلة من الراضي اتفقا على أن ينحدر إليه سراً ويقيم عنده إلى أن يتم التدبير، فركب من داره وقد بقي من شهر رمضان ليلة واحدة، واختار هذا الطالع لأن القمر يكون تحت الشعاع، وهو يصلح للأمور المستورة، فلما وصل إلى دار الخليفة لم يمكنه من الوصول إليه، واعتقله في حجره، ووجه الراضي من غد إلى ابن رائق، وأخبره بما جرى، وانه احتال على ابن مقلة حتى حصله في أسره وترددت بينهما المكاتبات في ذلك.

فلما كان رابع عشر شوال سنة ست وعشرين وثلثمائة، اظهر الراضي أمر ابن مقلة وأخرجه من الاعقتال، وحضر حاجب ابن رائق وجماعة من القواد وتقابلا، وكان ابن رائق قد التمس قطع يده اليمنى التي كتب بها تلك المطالعة، فلما انتهى كلامهما في المقابلة قطعت يده اليمنى ورد إلى محبسه، ثم ندم الراضي على ذلك وأمر الأطباء بملازمته للمداواة، فلازموه حتى برئ، وكان ذلك نتيجة دعاء أبي الحسن محمد بن شنبوذ المقرئ عليه بقطع اليد - وقد تقدم ذكر سبب ذلك في ترجمته - وذلك من عجيب الاتفاق.

وقال أبو الحسن ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة الطبيب، وكان يدخل عليه لمعالجته: كنت إذا دخلت عليه في تلك الحال يسألني عن أحوال ولده أبي الحسين، فأعرفه استتاره وسلامته، فتطيب نفسه، ثم ينوح على يده ويبكي ويقول: خدمت بها الخلفاء وكتبت بها القرآن الكريم دفعتين، تقطع كما تقطع أيدي اللصوص؟ فأسليه وأقول له: هذا انتهاء المكروه وخاتمة القطوع فينشدني ويقول:

 

إذا ما مات بعضك فابك بعضا

 

فإن البعض من بعض قريب

 

ثم عاد وراسل الراضي من الحبس بعد قطع يده وأطمعه في المال وطلب الوزارة وقال: إن قطع اليد ليس مما يمنع الوزارة، وكان يشد القلم على ساعده ويكتب به.


ولما قدم بحكم التركي من بغداد، وكان من المنتمين إلى ابن رائق أمر بقطع لسانه أيضاً فقطع، وأقام في الحبس مدة طويلة ثم لحقه ذرب، ولم يكن له من يخدمه، فكان يستقي الماء لنفسه من البئر، فيجتذب بيده اليسرى جذبة وبفمه الأخرى. وله أشعار في شرح حاله وما انتهى أمره إليه ورثاء يده والشكوى من المناصحة وعدم تلقيها بالقبول، فمن ذلك قوله:

ما سئمت الحياة لكـن تـوثـق

 

ت بأيمانهم فبـانـت يمـينـي

بعت ديني لهم بدنـياي حـتـى

 

حرموني دنياهم بـعـد دينـي

ولقد حطمت ما استطعت بجهدي

 

حفظ أرواحهم فما حفظـونـي

ليس بعد الـيمـين لـذة عـيش

 

يا حياتي بانت يميني فـبـينـي

 

ومن المنسوب إلى ابن مقلة أيضاً:

لست ذا ذلة إذا عضني الده

 

ر ولا شامخاً إذا واتانـي

أنا نار في مرتقى نفس الحا

 

سد ماء جار مع الإخـوان

 

وفي الوزير المذكور يقول بعضهم:

وقالوا العزل للوزراء حيض لحاه الله من أمر بغيض

 

ولكن الوزير أبا علي

 

من الـلائي يئسـن مـن الـــمـــحـــيض

 

ومن شعره أيضاً ما قاله الثعالبي في "يتيمة الدهر"

وإذا رأيت فتى بأعلـى رتـبة

 

في شامخ من عزه المترفـع

قالت لي النفس العروف بقدرها

 

ما كان أولاني بهذا الموضـع

 

ولم يزل على هذه الحال إلى أن توفي في موضعه يوم الأحد عاشر شوال، سنة ثمان وعشرين وثلثمائة، ودفن في مكانه، ثم نبش بعد زمان وسلم إلى أهله.


وكانت ولادته يوم الخميس بعد العصر، لتسع بقين من شوال سنة اثنتين وسبعين ومائتين، ببغداد، رحمه الله تعالى.


وقد تقدم طرف من خبره في ترجمة ابن البواب الكاتب، وأنه أول من نقل هذه الطريقة من خط الكوفيين إلى هذه الصورة هو وأخوه، على الخلاف المذكور في ترجمة ابن البواب، وأن ابن البواب تبع طريقته ونقح أسلوبه.


ولابن مقلة ألفاظ منقولة مستعملة، فمن ذلك قوله: إذا أحببت تهالكت، وإذا أبغضت أهلكت، وإذا رضيت آثرت، وإذا غضبت أثرت. ومن كلامه أيضاً: يعجبني من يقول الشعر تأدباً لا تكسبا، ويتعاطى الغناء تطرباً لا تطلبا. وله كل معنى مليح في النظم والنثر. وكان ابن الرومي الشاعر - المتقدم ذكره - يمدحه فمن معاينة المقولة فيه قوله:

 

إن يخدم القلم السيف الذي خضعت

 

له الرقاب ودانت خوفـه الأمـم

فالموت، والموت لا شيء يعادلـه

 

ما زال يتبع ما يجري به القلـم

كذا قضى الله للأقلام مذ بـريت

 

أن السيوف لها مذ أرهفت خـدم

وكل صاحب سـيف دائمـاً أبـداً

 

ما يزال يتبع ما يجري به القلـم

وكان أخوه أبو عبد الله الحسن بن علي بن مقلة كاتباً أديباً بارعاً، والصحيح أنه صاحب الخط المليح، ومولده يوم الأربعاء طلوع الفجر، سلخ شهر رمضان سنة ثمان وسبعين ومائتين. وتوفي في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثلثين وثلثمائة، رحمه الله تعالى.

وأما ابن رائق، فإن الحافظ ابن عساكر ذكر في "تاريخ دمشق" أنه قدمها في ذي الحجة سنة سبع وعشرين وثلثمائة وذكر أن الإمام المقتفي بالله ولاه أمر دمشق، وأخرج منها بدر بن عبد الله الإخشيدي، ثم توجه إلى مصر، وتواقع هو وصاحبها محمد بن طغج الإخشيد - المقدم ذكره - فهزمه الإخشيد فرجع إلى دمشق، ثم توجه إلى بغداد وقتل بالموصل سنة ثلاثين وثلثمائة، وقيل أن بني حمدان قتلوه بالموصل، قتله ناصر الدولة الحسن - المقدم ذكره -.