عميد الملك الكندري

أبونصر محمد بن منصور بن محمد، الملقب عميد الملك الكندري؛ كان من رجال الدهر جوداً وسخاء وكتابة وشهامة، واستوزره السلطان طغرلبك السلجوقي - المقدم ذكره - ونال عنده الرتبة العالية والمنزلة الجليلة، ولم يكن أحد من أصحابه معه كلام، وهو أول وزير كان لهذه الدولة، ولم تكن له منقبة إلا صحبة إمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك ابن الشيخ أبي محمد الجويني الفقيه الشافعي صاحب "نهاية المطلب" على ما ذكره المسعاني في ترجمة أبي المعالي في كتاب "الذيل" فإنه قال - بعد الإطناب في وصف إمام الحرمين وذكر تنقله في البلاد - ثم قال: وخرج إلى بغداد وصحب العميد الكندري أبا نصر مدة يطوف معه ويلتقي في حضرته بالأكابر من العلماء ويناظرهم، وتحنك بهم حتى تهذب في النظر، وشاع ذكره.

وذكره شيخنا ابن الأثير في تاريخه في سنة ست وخمسين وأربعمائة وقال: إن الوزير المذكور كان شديد التعصب على الشافعية كثير الوقيعة في الشافعي، رضي الله عنه، حتى بلغ من تعصبه أنه خاطب السلطان ألب أرسلان السلجوقي في لعن الرافضة على منابر خراسان، فأذن في ذلك، فلعنهم وأضاف إليهم الأشعرية، فانف من ذلك أئمة خراسان، منهم أبو القاسم القشيري وإمام الحرمين الجويني وغيرهما، ففارقوا خراسان، وأقام إمام الحرمين بمكة شرفها الله تعالى أربع سنين يدرس ويفتي، فلهذا قيل له إمام الحرمين فلما جاءت الدولة النظامية أحضر من انتزح منهم وأكرمهم وأحسن إليهم؛ وقيل إنه تاب عن الوقيعة في الشافعي، فإن صح فقد أفلح.

وكان عميد الملك ممدحاً مقصداً للشعراء، مدحه جماعة من أكابر شعراء عصره، منهم أبو الحسن الباخرزي - المقدم ذكره - والرئيس أبو منصور علي بن الحسين بن علي بن الفضل، الكاتب المعروف بصردر - المقدم ذكره أيضاً - وفيه يقول قصيدته النونية، وهي:

أكـذا يجـازى ود كـل قـرين

 

ام هذه شيم الظـبـاء الـعـين

قصوا علي حديث من قتل الهوى

 

إن التأسي روح كـل حـزين

ولئن كتمتم مشفقين لـقـد درى

 

بمصارع العذري والمجـنـون

فوق الركاب ولا أطيل مشبهـا

 

بل ثم شهوة أنـفـس وعـيون

هزت قدوهدهم وقالت للصـبـا

 

هزؤاً عند البان مثل غصونـي

ووراء ذياك المقـبـل مـورد

 

حصباؤه من لؤلؤ مـكـنـون

إما بيوت النحل بين شفاهـهـم

 

منظومة أو حانة الـزرجـون

ترمي بعينيك الفجاج مقـلـبـاً

 

ذات الشمال بهـا وذات يمـين

لو كنت زرقاء اليمامة ما رأت

 

من بارق حياً علـى جـيرون

شكواك من ليل التمام وإنـمـا

 

أرقي بـلـيل ذوائب وقـرون

ومعنف في الوجد قلت له اتـئد

 

فالدمع دمعي والحنين حنينـي

ما نافعي إذ كان ليس بنافعـي

 

جاه الصبا وشفاعة العشـرين

لا تطرقن خجلاً لـلـومة لائم

 

ماانت أول حازم مـفـتـون

أأسومهم، وهم الأجانب، طاعة

 

وهواي بين جوانحي يعصينـي

ديني على ظبياته ما يقتـضـى

 

فبأي حكم يقتضون رسهونـي

وخشيت من قلبي الفرار إليهـم

 

حتى لقد طالبتـه بـضـمـين

كل الـنـكـال أطـيق إلا ذلة

 

إن العزيز عذابه بـالـهـون

يا عين مثل قذاك رؤية معشـر

 

عار علـى دنـياهـم والـدين

لم يشبهوا الإنسـان إلا أنـهـم

 

متكونون من الحما المسنـون

نجس العيون فإن رأيتهم مقلتي

 

طهرتها فنزحت ماء جفونـي

أنا إن هم حسبوا الذخائر دونهم

 

وهم إذا عدوا الفضائل دونـي

لا يشمت الحساد أن مطامعـي

 

عادت إلي بصفقة المغـبـون

ما يستدير البدر إلا بـعـدمـا

 

أبصرته في الضمر كالعرجون

هذا الطريق اللحب زاجر ناقتي

 

واليم قاذف فلكي المشـحـون

فإذا عميد الملك حلى ربـعـه

 

ظفراً بفأل الطائر المـيمـون

ملك إذا ما العزم حـث جـياده

 

مرحت بأزهر شامخ العرنـين

بأغر ما أبصرت نور جبـينـه

 

إلا اقتضاني بالسجود جبـينـي

تجلو النواظر في نواحي دستـه

 

والسرج بدر دجى وليث عرين

عمت فضائله البرية فالتـقـى

 

شكر الغني ودعوة المسكـين

قالوا وقد شنوا عـلـيه غـارة

 

أصلات جود أم قضـاء ديون

لو كان في الزمن القديم تظلمت

 

منه الكنوز إلـى يدي قـارون

أما خزائن مالـه فـمـبـاحة

 

فاستوهبوا من علمه المخزون

ما الرزق محتاجاً بعرصته إلى

 

طلب وليس الأجر بالمـنـون

أقسمت أن ألقى المكارم عالمـاً

 

أني بـرؤيتـه أبـر يمـينـي

ساس الأمور فليس يخلي رغبة

 

من رهبة، وبسالة مـن لـين

كالسيف رونق أثره في متنـه

 

ومضاؤه في حده المسـنـون

شهدت علاه أن عنصـر ذاتـه

 

مسك وعنصر غيره من طين

 

وكان إنشاده إياه هذه القصيدة عند وصول عميد الملك إلى العراق، وهو في دست وزارته وعلو منصبه، وهذه القصيدة من الشعر الفائق المختار وقد أثبتها بكمالها ما خلا ثلاثة أبيات فإنها لم تعجبني فأهملتها، وقد وازن هذه القصيدة جماعة من الشعراء منهم ابن التعاويذي - المقدم ذكره - وازنه بقصيدته التي أولها:

إن كان دينك في الصبابة ديني

 

فقف المطي برملتي يبـرين

 

وهي القصيدة النادرة، وأرسلها من العراق إلى الشام ممتدحاً بها السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى، ولولا خوف الإطالة لأثبتها، ثم ذكرتها في ترجمة صلاح الدين يوسف بن أيوب فتطلب هناك؛ ووازنه أيضاً ابن المعلم - المقدم ذكره - بقصيدته التي أولها:

ما وقفة الحادي على يبـرين

 

وهو الخلي من الظباء العين

 

وهي أيضاً قصيدة جيدة، وقد ذكرت بعضها في ترجمته، وقد وازنها الأبله أيضاً، وبالجملة فما قاربها إلا ابن التعاويذي، وقد خرجنا عن المقصود، ولكن انتشر الكلام فلم يكن بد من استيفائه. ولم يزل عميد الملك في دولة طغرلبك عظيم الجاه والحرمة، إلى أن توفي طغرلبك - في التاريخ المذكور في ترجمته- وقام في المملكة ابن أخيه ألب أرسلان - المقدم ذكره - فأقره على حاله وزاد في إكرامه ورتبته، ثم إنه سيره إلى خوارزم شاه ليخطب له ابنته، فأرجف أعداؤه أنه خطبها لنفسه، وشاع ذلك بين الناس فبلغ عميد الملك الخبر، فخاف تغير قلب مخدومه عليه، فعمد إلى لحيته فحلقها وإلى مذاكيره فجبها، فكان ذلك سبب سلامته من ألب أرسلان، وقيل إن السلطان خصاه، فلما فعل ذلك عمل أبو الحسن علي بن الحسن الباخرزي المذكور في ترجمته قوله:

قالوا محا السلطان عنه بعدكـم

 

سمة الفحول وكان قرماً صائلاً

قلت اسكتوا فالآن زاد فحـولة

 

لما اغتدى من أنثييه عـاطـلاً

فالفحل يأنف أن يسمى بعضـه

 

أنثى، لذلك جده مسـتـاصـلا

 

وهذا من المعاني الغريبة البديعة.


ثم إن ألب أرسلان عزله من الوزارة في المحرم من سنة ست وخمسين وأربعمائة لسبب يطول شرحه، وفوض الوزارة إلى نظام الملك أبي علي الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي المقدم ذكره.وحبس عميد الملك بنيسابور في دار عميد خراسان، ثم نقله إلى مرو الروذ وحبسه في داره، فكان في حجرة تلك الدار عياله، وكانت له بنت واحدة لا غير، فلما أحس بالقتل دخل الحجرة وأخرج كفنه وودع عياله وأغلق باب الحجرة واغتسل وصلى ركعتين، وأعطى الذي هم بقتله مائة دينار نيسابورية وقال: حقي عليك أن تكفنني في هذا الثوب الذي غسلته بماء زمزم، وقال لجلاده: قل للوزير نظام الملك: بئس ما فعلت، علمت الأتراك قتل الوزراء، وأصحاب الديوان، ومن حفر مهواة وقع فيها، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة؛ ورضي بقضاء الله الحتوم.


وقتل يوم الأحد سادس عشر ذي الحجة سنة خمس وخمسين وأربعمائة وعمره يومئذ نيف وأربعون سنة، فعمل في ذلك الباخرزي الشاعر المذكور مخاطباً للسلطان ألب أرسلان.

وعمك أدناه وأعلى مـحـلـه

 

وبوأه من ملكه كنفـاً رحـبـا

قضى كل مولى منكما حق عبده

 

فخوله الدنيا وخولته العقـبـى

ومن العجائب أنه دفنت مذاكيره بخوارزم، واريق دمه بمرو الروذ، ودفن جسده بقريته كندر، وجمجمته ودماغه بنيسابور، وحشيت سوأته بالتين ونقلت إلى كرمان، وكان نظام الملك هناك، ودفنت ثم، وفي ذلك عبرة لمن اعتبر، بعد أن كان رئيس عصره، رحمه الله تعالى.

والكندري: بضم الكاف وسكون النون وضم الدال المهملة وبعدها راء، هذه النسبة إلى كندر، وهي قرية من قرى طريثيت - بضم الطاء المهملة وفتح الراء وسكون الياء المثناة من تحتها وكسر الثاء المثلثة وسكون الياء المثناة من تحتها أيضاً وبعدها ثاء مثلثة - وهي كورة من نواحي نيسابور، خرج منها جماعة من العلماء وغيرهم، والله تعالى أعلم بالصواب.