ابن شاكر

أبو عبد الله بن موسى بن شاكر؛ أحد الأخوة الثلاثة الذي ينسب إليهم حيل بن موسى، وهم مشهورون بها، واسم أخويه أحمد والحسن، وكانت لهم همة عالة في تحصيل العلوم القديمة وكتب الأوائل، وأتعبوا أنفسهم في شأنها، وأنفذوا إلى بلاد الروم من أخرجها لهم، وأحضروا النقلة من الأصقاع الشاسعة والأماكن البعيدة بالبذل السني، فأظهروا عجائب الحكمة. وكان الغالب عليهم من العلوم: الهندسة والحيل والحركات والموسيقى والنجوم، وهو الأقل. ولهم في الحيل كتاب عجيب نادر يشتمل على كل غريبة، ولقد وقفت عليه فوجدته من أحسن الكتب وأمتعها، وهو مجلد واحد.

ومما اختصوا به في ملة الإسلام وأخرجوه من القوة إلى الفعل - وإن كان أرباب الأرصاد المتقدمون على الإسلام قد فعلوه، لكنه لم يقل إن أحداً من أهل هذه الملة تصدى له وفعله، إلا هم - وهو أن المأمون كان مغرى بعلوم الأوائل وتحقيقها، ورأى فيه أن دور كرة الأرض أربعة وعشرون ألف ميل، كل ثلاثة أميال فرسخ، فيكون المجموع ثمانية آلاف فرسخ، بحيث لو وضع طرف حبل على أي نقطة كانت من الأرض، وأدرنا الحبل على كرة الأرض حتى انتهينا بالطرف الآخر إلى ذلك الموضع من الأرض، والتقى طرفا الحبل، فإذا مسحنا ذلك الحبل كان طوله أربعة وعشرين ألف ميل.

فأراد المأمون أن يقف على حقيقة ذلك، فسأل بني موسى المذكورين عنه فقالوا: نعم، هذا قطعي. فقال: أريد منكم أن تعملوا الطريق الذي ذكره المتقدمون حتى نبصر هل يتحرر ذلك أم لا، فسألوا عن الأراضي المتساوية في أي البلاد هي؟ فقيل لهم: صحراء سنجار في غاية الاستواء وكذلك وطأة الكوفة، فأخذوا معهم جماعة ممن يثق المأمون إلى أقوالهم، ويركن إلى معرفتهم بهذه الصناعة، وخرجوا إلى سنجار، وجاءوا إلى الصحراء المذكورة، فوقفوا في موضع منها وأخذوا ارتفاع القطب الشمالي ببعض الآلات، وضربوا في ذلك الموضع وتداً وربطوا فيه حبلاً طويلاً، ثم مشوا إلى جهة الشمالية على الاستواء من غير انحراف إلى اليمين واليسار حسب الإمكان. فلما فرغ الحبل نصبوا في الأرض وتداً آخر وربطوا فيه حبلاً طويلاً، ومشوا إلى جهة الشمال أيضاً كفعلهم الأول؛ ولم يزل ذلك دأبهم، حتى انتهوا إلى موضع أخذوا فيه ارتفاع القطب المذكور، فوجدوه قد زاد على الارتفاع الأول درجة، فمسحوا ذلك القدر الذي قدروه من الأرض بالحبل، فبلغ ستة وستين ميلاً وثلثي ميل، فعلموا أن كل درجة من درج الفلك، يقابلها من سطح الأرض ستة وستون ميلاً وثلثان.

ثم عادوا إلى الموضع الذي ضربوا فيه الوتد الأول وشدوا فيه حبلاً وتوجهوا إلى جهة الجنوب، ومشوا على الاستقامة، وعملوا عاماً عملوا في جهة الشمال: من نصب الأوتاد وشد الحبال، حتى فرغت الحبال التي استعملوها في جهة الشمال، ثم أخذوا الارتفاع فوجدوا القطب الشمالي قد نقص عن ارتفاعه الأول درجة، فصح حسابهم وحققوا ما قصدوه من ذلك، وهذا إذا وقف عليه من له يد في علم الهيئة ظهر له حقيقته. ومن المعلوم أن عدد درج الفلك ثلثمائة وستون درجة، لأن الفلك مقسوم باثني عشر برجاً، وكل برج ثلاثون درجة، فتكون الجملة ثلثمائة وستين درجة، فضربوا عدد درج الفلك في ست وستين ميلاً وثلثين - أي التي هي حصة كل درجة - فكانت الجملة أربعة وعشرين ألف ميل، وهي ثمانية آلاف فرسخ، وهذا محقق لا شك فيه.

فلما عاد بنو موسى إلى المأمون وأخبروه بما صنعوا، وكان موفقاً لما رآه في الكتب القديمة من استخراج الأوائل، طلب تحقيق ذلك في موضع آخر، فسيرهم إلى أرض الكوفة وفعلوا كما فعلوا في سنجار، فتوافق الحسابان، فعلم المأمون صحة ما حرره القدماء في ذلك، وهذا الفصل هو الذي أشرت إليه في ترجمة أبي بكر محمد بن يحيى الصولي وقلت: لولا التطويل لبينت ذلك.

وكانت لبني موسى المذكورين أوضاع نادرة غريبة، ولولا الإطالة لذكرت شيئاً منها.

وتوفي محمد المذكور في شهر ربيع الأول سنة تسع وخمسين ومائتين، رحمه الله تعالى؛ والله أعلم بالصواب.