الفارابي الفيلسوف

أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ الفارابي التركي الحكيم المشهور، صاحب التصانيف في المنطق والموسيقى وغيرهما من العلوم، وهو أكبر فلاسفة المسلمين، ولم يكن فيهم من بلغ رتبته في فنونه، والرئيس أبو علي ابن سينا - المقدم ذكره - بكتبه تخرج وبكلامه انتفع في تصانيفه. وكان رجلاً تركياً ولد في بلده ونشأ بها - وسيأتي الكلام عليها في آخر الترجمة إن شاء الله تعالى - ثم خرج من بلده وتنقلت به الأسفار إلى أن وصل إلى بغداد، وهو يعرف اللسان التركي وعدة لغات غير العربي، فشرع في اللسان العربي فتعلمه وأتقنه غاية الإتقان، ثم اشتغل بعلوم الحكمة.

ولما دخل بغداد كان بها أبو بشر متى بن يونس الحكيم المشهور، وهو شيخ كبير، وكان يقرأ الناس عليه فن المنطق، وله إذ ذاك صيت عظيم وشهرة وافية، ويجتمع في حلقته كل يوم المئون من المشتغلين بالمنطق، وهو يقرأ كتاب أرسطاطاليس في المنطق ويملي على تلامذته شرحه، فكتب عنه في شرحه سبعون سفراً، ولم يكن في ذلك الوقت أحد مثله في فنه، وكان حسن العبارة في تواليفه لطيف الإشارة، وكان يستعمل في تصانيفه البسط والذليل، حتى قال بعض علماء هذا الفن: ما أرى أبا نصر الفارابي أخذ طريق تفهيم المعاني الجزلة بالألفاظ السهلة إلا من أبي بشر يعني المذكور، وكان أبو نصر يحضر حلقته في غمار تلامذته.

فأقام أبو نصر كذلك برهة ثم ارتحل إلى مدينة حران وفيها يوحنا بن حيلان الحكم النصراني، فأخذ عنه طرفاً من المنطق أيضاً، ثم أنه قفل راجعاً إلى بغداد وقرأ بها علوم الفلسفة، وتناول جميع كتب أرسطاطاليس وتمهر في استخراج معانيها والوقوف على أغراضه فيها، ويقال إنه وجد "كتاب النفس" لأرسطاطاليس وعليه مكتوب بخط أبي نصر الفارابي: إني قرأت هذا الكتاب مائتي مرة. ونقل عنه أنه كان يقول: قرأت "السماع الطبيعي" لأرسطاطاليس الحكيم أربعين مرة، وأرى أني محتاج إلى معاودة قراءته. ويروى عنه أنه سئل: من أعلم الناس بهذا الشأن أنت أم أرسطاطاليس؟ فقال: لو أدركته لكنت أكبر تلامذته.

وذكره أبو القاسم صاعد بن أحمد بن عبد الرحمن بن صاعد القرطبي في كتاب "طبقات الحكماء" فقال: الفارابي فيلسوف المسلمين بالحقيقة، أخذ صناعة المنطق عن يوحنا بن حيلان المتوفى بمدينة السلام في أيام المقتدر، فبذ جميع أهل الإسلام وأربى عليهم في التحقيق لها وشرح غامضها وكشف سرها وقرب تناولها، وجميع ما يحتاج إليه منها، في كتب صحيحة العبارة لطيفة الإشارة، منبهاً على ما أعيا الكندي وغيره من صناعة التحليل وأنحاء التعاليم، وأوضح القول فيها عن مواد المنطق الخمسة، وأفاد وجوه الانتفاع بها وعرف طرق استعمالها، وكيف تصرف صورة القياس في كل مادة منها، فجاءت كتبه في ذلك الغاية الكافية والنهاية الفاضلة، ثم له بعد هذا كتاب شريف في إحصاء العلوم والتعريف بأغراضها لم يسبق إليه ولا ذهب أحد مذهبه فيه ولا يستغني طلاب العلوم كلها عن الاهتداء به، انتهى كلام ابن صاعد؛ وذكر بعد ذلك شيئاً من تواليفه ومقاصده فيها.

ولم يزل أبو نصر ببغداد مكباً على الاشتغال بهذا العلم والتحصيل له إلى أن برز فيه وفاق أهل زمانه، وألف بها معظم كتبه، ثم سافر منها إلى دمشق، ولم يقم بها، ثم توجه إلى مصر، وقد ذكر أبو بصر في كتابه الموسوم بالسياسة المدنية، أنه ابتدأ بتأليفه في بغداد وأكمله بمصر، ثم عاد إلى دمشق وأقام بها، وسلطانها يومئذ سيف الدولة بن حمدان، فأحسن إليه.

ورأيت في يعض المجاميع أن أبا نصر لما ورد على سيف الدولة وكان مجلسه مجمع الفضلاء في جميع المعارف فأدخل عليه وهو بزي الأتراك، وكان ذلك زيه دائماً، فوقف، فقال له سيف الدولة: اقعد، فقال: حيث أنا أم حيث أنت؟ فقال: حيث أنت، فتخطى رقاب الناس حتى انتهى إلى مسند سيف الدولة وزاحمه فيه حتى أخرجه عنه، وكان على رأس سيف الدولة مماليك، وله معهم لسان خاص يسارهم به قل أن يعرفه أحد، فقال لهم بذلك اللسان: إن هذا الشيخ قد أساء الأدب، وإني مسائله عن أشياء إن لم يوف بها فاخرقوا به، فقال له أبو نصر بذلك اللسان: أيها الأمير، اصبر فإن الأمور بعواقبها، فعجب سيف الدولة منه وقال له: أتسحن هذا اللسان؟ فقال: نعم أحسن أكثر من سبعين لساناً، فعظم عنده. ثم أخذ يتكلم مع العلماء الحاضرين في المجلس في كل فن، فلم يزل كلامه يعلو وكلامهم يسفل حتى صمت الكل وبقي يتكلم وحده، ثم أخذوا يكتبون ما يقوله، فصرفهم سيف الدولة وخلا به، فقال له: هل لك في أن تأكل؟ فقال: لا، فقال: فهل تشرب؟ فقال: لا، فقال: فهل تسمع؟ فقال: نعم، فأمر سيف الدولة بإحضار القيان، فحضر كل ماهر في هذه الصناعة بأنواع الملاهي، فلم يحرك أحد منهم آلته إلا وعابه أبو نصر وقال له: أخطأت، فقال له سيف الدولة: وهل تحسن في هذه الصناعة شيئاً؟ فقال: نعم، ثم أخرج من سوطه خريطة ففتحها وأخرج منها عيداناً وركبها، ثم لعب بها، فضحك منها كل من كان في المجلس، ثم فكها وركبها تركيباً آخر وضرب بها فبكي كل من في المجلس، ثم فكها وغير تركيبها حركها فنام كل من في المجلس حتى البواب، فتركهم نياماً وخرج.

ويحكى أن الآلة المسماة القانون من وضعه، وهو أول من ركبها هذا التركيب. وكان منفرداً بنفسه لا يجالس الناس، وكان مدة مقامه بدمشق لا يكون غالباً إلا عند مجتمع ماء أو مشتبك رياض، ويؤلف هناك كتبه، وينتابه المشتغلون عليه. وكان أكثر تصنيفه في الرقاع، ولم يصنف في الكراريس إلا القليل، فلذلك جاءت أكثر تصانيفه فصولاً وتعاليق، ويوجد بعضها ناقصاً مبتوراً. واكن أزهد الناس في الدنيا لا يحتفل بأمر مكسب ولا مسكن، وأجرى عليه سيف الدولة كل يوم من بيت المال أربعة دراهم، وهو الذي اقتصر عليها لقناعته. ولم يزل على ذلك إلى أن توفي في سنة تسع وثلاثين وثلثمائة بدمشق، وصلى عليه سيف الدولة في أربعة من خواصه، وقد ناهز ثمانين سنة، ودفن بظاهر دمشق خارج باب الصغير، رحمه الله تعالى.

وتوفي متى بن يونس ببغداد في خلافة الراضي، هكذا حكاه ابن صاعد القرطبي في "طبقات الأطباء".

وظفرت في مجموع بأبيات منسوبة إلى الفارابي، ولا أعلم صحتها، وهي:

أخي خـل حـيز ذي بـاطـل

 

وكن للـحـقـائق فـي حـيز

فما الـدار دار مـقـام لـنـا

 

وما المرء في الأرض بالمعجز

ينافـس هـدا لـهـذا عـلـى

 

أقل من الكـلـم الـمـوجـز

وهل نحن إلا خطوط وقـعـن

 

على نقطة وقع مسـتـوفـز

محيط السمـوات أولـى بـنـا

 

فما ذا التنافس فـي مـركـز

ورأيت هذه الأبيات في "الخريدة" منسوبة إلى الشيخ محمد بن عبد الملك الفارقي البغدادي الدار. وقال العماد مؤلف "الخريدة": إنه اجتمع به يوم الجمعة ثامن عشر شهر رجب، سنة إحدى وستين وخمسمائة، وتوفي بسنيات بعد ذلك.

وطرخان: بفتح الطاء المهملة وسكون الراء وفتح الخاء المعجمة وبعد الألف نون.

وأوزلغ: بفتح الهمزة وسكون الواو وفتح الزاي واللام وبعدها غين معجمة، وهما من أسماء الترك.

والفارابي: بفتح الفاء والراء وبينهما ألف وبعد الألف الثانية باء موحدة، هذه النسبة إلى فاراب، وتسمى في هذا الزمان أطرار - بضم الهزة وسكون الطاء المهملة وبين الراءين ألف ساكنة - وقد غلب عليها هذا الاسم، وهي مدينة فوق الشاش، قريبة من مدينة بلاساغون، وجميع أهلها على مذهب الإمام الشافعي، رضي الله عنه، وهي قاعدة من قواعد مدن الترك، ويقال له فاراب الداخلة، ولهم فاراب الخارجة، وهي من أطراف بلاد فارس.

وبلاساغون: بفتح الباء الموحدة واللام ألف والسين المهملة وبعد الألف غين معجمة ثم واوا ساكنة وبعدها نون، وهي بلدة في ثغور الترك وراء نهر سيحون - المقدم ذكره - بالقرب من كاشغر. وكاشغر: بفتح الكاف وبعد الألف شين معجمة ساكنة ثم غين معجمة مفتوحة وفي آخرها راء، وهي من المدن العظام في تخوم الصين؛ والله تعالى أعلم بالصواب.