مروان بن أبي حفصة

أبو السمط - وقيل أبو الهندام - مروان بن أبي حفصة سليمان بن يحيى ابن أبي حفصة يزيد، الشاعر المشهور؛ كان جده أبو حفصة مولى مروان بن الحكم بن أبي العاصي الموي، فأعتقه يوم الدار، لأنه أبلى يومئذ، فجعل عتقه جزاءه، وقيل إن أبا حفصة كان يهودياً طبيباً أسلم على يد مروان بن الحكم ويزعم أهل المدينة أنه كان من موالي اسموأل بن عادياء اليهودي المشهور بالوفاء صاحب القصة المشهورة مع امرئ القيس بن حجر الشاعر المشهور، وأن أبا حفصة سبي من اصطخر وهو غلام فاشتراه عثمان رضي الله عنه، ووهبه لمروان بن الحكم.

ومروان بن أبي حفصة الشاعر المذكور من أهل اليمامة، وقدم بغداد ومدح المهدي وهارون الرشيد، وكان يتقرب إلى الرشيد بهجاء العلويين، ومروان المذكور من الشعراء المجيدين، والفحول المقدمين. حكى ابن سيف عن أبي خليفة عن ابن سلام قال: لما أنشد مروان بن أبي حفصة المهدي قصيدته التي يقول فيها:

إليك قسمنا النصف من صلواتنا

 

مسير شهر بعد شهر نواصلـه

فلا نحن نخشى أن يخيب رجاؤنا

 

لديك ولكن أهنأ العيش عاجلـه

 

 فقال له المهدي، قف بحيث أنت، كم قصيدتك هذه من بيت؟ قال: سبعون بيتاً، قال: فلك سبعون ألفاً، لا تتم إنشادك حتى يحضر المال، فأحضر المال، فأنشد القصيدة وقبضه وانصرف وذكره أبو العابس بن المعتز في كتاب "طبقات الشعراء" فقال في حقه: وأجود ما قاله مروان قصديته الغراء اللامية، وهي التي فضل بها على شعراء زمانه، يمدح فيها معن بن زائدة الشيباني، ويقال إنه أخذ منه عليها مالاً كثيراً لا يقدر قدره، ولم ينل أحد من الشعراء الماضين ما ناله مروان بشعره، فمما ناله ضربة واحدة ثلثمائة ألف درهم من بعض الخلفاء بسبب بيت واحد؛ انتهى كلام ابن المعتز.


والقصيدة اللامية طويلة تناهز الستين بيتاً ولولا خوف الإطالة لذكرتها، ولكن نأتي ببعض مديحها وهو في أثنائها:

بنو مطر يوم اللـقـاء كـأنـهـم

 

أسود لهم في بطن خفان أشـبـل

هم يمنعون الجار حتـى كـأنـمـا

 

لجارهم بين السمـاكـين مـنـزل

تجنب "لا" في القول حتـى كـأنـه

 

حرام عليه قول "لا" حـين يسـأل

تشابه يوماه عـلـينـا فـأشـكـلا

 

فلا نحن ندري أي يوميه أفـضـل

أيوم نداه الغـمـر أم يوم بـؤسـه

 

وما منهمـا إلا أغـر مـحـجـل

بهاليل في الإسلام سادوا ولم يكـن

 

كأولهم فـي الـجـاهـلـية أول

هم القوم إن قالوا أصابوا، وإن دعوا

 

أجابوا، وإن أعطوا أصابوا وأجزلوا

وما يستطيع الفاعلون فـعـالـهـم

 

وإن أحسنوا في النائبات وأجملـوا

تلاث بأمثال الجبـال حـبـالـهـم

 

وأحلامهم منها لدى الوزن أثـقـل

 

هذا لعمري عز الدولة السحر الحلال المنقح لفظاً ومعنى، وحقه أن يفضل على شعراء عصره وغيرهم، وله في مدائح معن المذكور ومرائيه كل معنى بديع، وسيأتي شيء من ذلك في أخبار معن إن شاء الله تعالى.


وحكى ابن المعتز أيضاً عن شراحيل بن معن بن زائدة أنه قال: عرضت في طريق مكة ليحيى بن خالد البرمكي، وهو في قبة، وعديله القاضي أبو يوسف الحنفي وهما يريدان الحج، قال شراحيل: فإني لأسير تحت القبة إذ عرض له رجل من بني أسد في شارة حسنة، فأنشده شعراً، فقال له يحيى بن خالد في بيت منها: ألم أنهك عن مثل هذا البيت أيها الرجل؟ ثم قال: يا أخا بني أسد، إذا قلت الشعر فقل كقول الذي يقول، وأنشده الأ بيات اللامية المقدم ذكرها، فقال له القاضي أبو يوسف، وقد أعجبته الأبيات جداً: من قائل هذه البيات يا أبا الفضل؟ فقال يحيى: يقولها مروان بن أبي حفصة يمدح بها أبا هذا الفتى الذي تحت القبة، قال شراحيل: فرمقني أبو يوسف بعينيه وأنا راكب على فرس لي عتيق وقال لي: من أنت يا فتى حياك الله تعالي وقربك قلت: أنا شراحبيل بن معن بن زائدة الشيباني، قال شراحبيل: فوالله ما أتت علي ساعة قط كانت أقر لعيني من تلك الساعة ارتياحاً وسروراً.


ويحكى أن ولداً لمروان بن أبي حفصة المذكور دخل على شراحبيل المذكور فأنشده:

أبا شراحيل من مـعـن بـن زائدة

 

يا أكرم الناس من عجم ومن عرب

أعطي أبوك أبي مالاً فعـاش بـه

 

فأعطيني مثل نا أعطى أبوك أبي

ما حل قط أبي أرضاً أبوك بـهـا

 

إلا وأعطاه قنطاراً من الـذهـب

 

فأعطاه شراحيل قنطاراً من الذهب.


ومما يقارب هذه الحكاية ما يروى عن أبي مليكة جرول بن أوس المعروف بالحطيئة الشاعر المشهور لما اعتقله عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لبذاءة لسانه وكثرة هجوه الناس، كتب إليه من الاعتقال:

ماذا تقول لأفراخ بـذي مـرخ

 

حمر الحواصل لا ماء ولا شجر

ألقيت كاسبهم في قعر مظلـمة

 

فارحم عليك سلام الله يا عمـر

أنت الإمام الذي من بعد صاحبه

 

ألقت إليك مقاليد النهي البشـر

ما آثروك بها إذا قدموك لـهـا

 

لكن لأنفسهم قد كانـت الأثـر

 

 فأطلقه، وشرط عليه أن يكف لسانه عن الناس، فقال له: يا أمير المؤمنين اكتب لي كتاباً إلى علقمة بن علاثة لأقصده به، فقد منعتني التكسب بشعري وكان علقمة مقيماً بحوران، وهو من الأجواد المشهورين - قال ابن الكلبي في كتاب جمهرة النسب هو علقمة بن علاثة بن عوف بن ربيعة، ويقال له الأحوص لصغر عينيه، ابن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوزان - وكان عمر، رضي الله عنه استعمله على حوران، فامتنع عمر رضي الله عنه من ذلك، فقيل له: با أمير المؤمنين وما عليك من ذلك؟ علقمة ليس من عمالك فتخشى من ذلك أن تأثم، وإنما هو رجل من المسلمين تشفع بك غليه. فكتب له بما أراد، فمضى الحطيئة بالكتاب، فصادف علقمة قد مات والناس منصرفون من قبره، وابنه حاضر، فوقف عليه ثم أنشد:

لعمري لنعم المرء من آل جعفـر

 

بحوران أمسى علقته الحـبـائل

فإن تحي لا أملل حياتي، وإن تمت

 

فما في حياة بعد موتـك طـائل

وما كان بيني لو لقيتك سـالـمـاً

 

وبين الغـنـى إلا لـيال قـلائل

فقال له ابنه: كم ظننت أن علقمة كان يعطيك لو وجدته حياً؟ فقال: مائة ناقة يتبعها مائة من أولادها، فأعطاه ابنه إياها.

والبيتان الأخيران من هذه الثلاثة وجدتهما في ديوان النابغة الذبياني، واسمه زياد بن معاوية بن جابر، من جملة قصيدة يرثي بها النعمان بن أبي شمر الغساني.

وأخبار ابن أبي حفصة ونوادره ومحاسنه كثيرة، فلا حاجة إلى الإطناب بذكرها، وكانت ولادته سنة خمس ومائة. وتوفي سنة إحدى وثمانين ومائة ببغداد، ودفن بمقبرة نصر بن مالك الخزاعي، رحمه الله تعالى.

وحفيده مروان الأصغر، وهو أبو السمط مروان بن أبي الجنوب ابن مروان الأكبر المذكور، وكان من شعراء عصره المشاهير المقدمين، وذكر المبرد في كتاب "الكامل" طرفاً من أخبار عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري ثم قال: ويروي أن عبد الرحمن المذكور لدغه زنبور فجاء أباه يبكي، فقال له: ما بك؟ قال: لسعني طائر كأنه ملتف في بردي حبرة، فقال أبوه: قلت الشعر والله؟ ثم قال بعد ذلك: وأعرق قوم كانوا في الشعر آل حسان، فإنهم كانوا يعدون ستة في نسق كلهم شاعر، وهم: سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام، وبعد هؤلاء في الوقت آل أبي حفصة: فإنهم أهل بيت كل واحد منهم شاعر يتوارثونه كابراً عن كابر، ويحيى ابن أبي حفصة كنيته أبو جميل، وأمه تحيا بنت ميمون، يقال إنها من ولد النابغة الجعدي، وإن الشعر أتي إلى أبي حفصة بذلك السبب، وكل واحد من هؤلاء كان يضرب بلسانه أرنبة أنفه، وهو دليل على الفصاحة والبلاغة، والله تعالى أعلم.