الملك العادل نور الدين

أبو القاسم محمود بن عماد الدين زنكي بن آق سنقر، الملقب الملك العادل نور الدين، قد تقدم ذكر أبيه في حرف الزاي.

ولما حاصر أبوه قلعة جعبر - حسبما تقدم ذكره في ترجمته - كان ولده نور الدين المذكور في خدمته، فلما قتل أبو سار نور الدين وفي خدمته صلاح الدين محمد بن أيوب اليغيساني وعساكر الشام إلى مدينة حلب فملكها في ذلك التاريخ. وملك أخوه سيف الدين غازي - المذكور في حرف الغين - مدينة الموصل وما والاها من تلك النواحي.

ثم إنه نزل على دمشق محاصراً لها وصاحبها يومئذ مجير الديم أبو سعيد أبق ابن جمال الدين محمد بن تاج الملوك بوري بن ظهير الدين طغتكين، وهو أتابك الملك دقاق بن تتش - المقدم ذكره في ترجمة تتش في حرف التاء - وكان نزوله عليها ثالث صفر سنة تسع وأربعين وخمسمائة، وملكها يوم الأحد تاسع الشهر المذكور، وعوض مجير الدين أبق عن دمشق حمص ثم أخذها منه وعوضه عنها بالس، فانتقل إليها وأقام بها مدة ثم قصد بغداد في أيام الإمام المقتفي.

وكان أتابكه معين الدين أثر بن عبد الله عتيق جد أبيه ظهير الدين طغتكين الأتابك - المقدم ذكره في ترجمة تتش السلجوقي، وقد سبق ذكر ظهير الدين طغتكين الأتابك هناك أيضاً.

ثم استوزر نور الدين محمود على بقية بلاد الشام من حماة وبعلبك، وهو الذي بنى سورها، منبج ما وبين ذلك، وافتتح من بلاد الروم عدة حصون منها مرعش وبهسنا وتلك الأطراف، وكان فتحه لمرعش في ذي القعدة من سنة ثمان وستين وخمسمائة ولبهسنا في ذي الحجة من السنة، وافتتح أيضاً من بلاد الفرنج حارم، وكان فتحها في أواخر شهر رمضان سنة تسع وخمسمائة، وفتح أعزاز وبانياس وغير ذلك ما تزيد عدته على خمسين حصناً.

ثم سير الأمير أسد الدين شيركوه - المقدم ذكره - إلى مصر ثلاث دفعات، وملكها السلطان صلاح الدين في الدفعة الثالثة نيابة عنه، وضرب باسمه السكة والخطبة، وهي قضية مشهورة فلا حاجة إلى الإطالة في شرحها، وسيأتي ذلك في ترجمة صلاح الدين إن شاء الله تعالى.

وكان ملكاً عادلاً زاهداً عابداً ورعاً، متمسكاً بالشريعة مائلاً إلى أهل الخير، مجاهداً في سبيل الله تعالى، كثير الصدقات، بنى المدارس بجميع بلاد الشام الكبار مثل دمشق وحلب وحماة وحمص وبعلبك ومنبج والرحبة، وقد تقدم ذلك في ترجمة الشيخ شرف الدين بن أبي عصرون، وبنى بمدينة الموصل الجامع النوري ورتب له ما يكفيه، وبحماة الجامع الذي على نهر العاصي، وجامع الرها وجامع منبج، وبيمارستان دمشق، ودار الحديث بها أيضاً، وله من المناقب والمآثر والمفاخر ما يستغرق الوصف.

وكان بينه وبين أبي الحسن سنان بن سليمان بن محمد الملقب راشد الدين صاحب قلاع الإسماعيلية ومقدم الفرقة الباطنية بالشام، وإليه تنسب الطائفة السنانية، مكاتبات ومحاورات بسبب المجاورة، فكتب إليه نور الدين في بعض الأزمنة كتاباً يتهدده فيه ويتوعده لسبب اقتضى ذلك، فشق على سنان فكتب جوابه أبياتاً ورسالة، وهما:

ياذا الذي بقراع السـيف هـددنـا

 

لا قام مصرع جنبي حين تصرعه

قام الحمام إلى الـبـازي يهـدده

 

واستيقظت لأسود البر أضبـعـه

أضحى يسد فم الأفعى بإصبـعـه

 

يكفيه ما قد تلاقي منه إصبـعـه

 

وقفنا على تفاصيله وجمله، وعلمنا ما هددنا به من قوله وعمله، فيالله العجب من ذبابة تطن في أذن فيل، وبعوضة تعد في التماثيل، ولقد قالها من قبلك قوم آخرون، فدمرنا عليه وما كان لهم من ناصرين، أو للحق تدحضون، وللباطل تنصرون؟ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، وأما ما صدر من قولك في قطع رأسي، وقلعك لقلاعي من الجبال الرواسي، فتلك أماني كاذبة، وخيالات غير صائبة، فإن الجواهر لا تزل بالأعراض، كما أن الرواح لا تضمحل بالأمراض، كم بين قوي وضعيف، ودني وشريف؟ وإن عدنا إلى الظاهر والمحسوسات، وعدلنا عن البواطن والمعقولات، فنا أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله "ما أوذي نبي ما أوذيت" ولقد علمتم ما جرى على عترته، وأهل بيته وشيعته، والحال ما حال، والأمر ما زال، ولله الحمد في الآخرة والأولى إذ نحن مظلومون لا ظالمون، ومغضوبون لا غاضبون، وإذا جاء الحق زهق الباطل إن الباطل كان زهوقاًً، ولقد علمتم ظاهر حالنا، وكيفية رجالنا، وما يتمنونه من الفوت، ويتقربون به إلى حياض الموت، "قل فتمنوا الموت إن كنتم صادقين، ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين" الجمعة 6-7 وفي أمثال العامة السائرة: أو للبط تهددون بالشط؟ فهيئ للبلايا جلباباً، وتدرع للرزايا أثواباً، فلأظهرن عليك منك، ولأفتتنهم فيك عنك، فتكون كالباحث عن حتفه بظلفه، والجادع مارن أنفه بكفه، وما ذلك على الله بعزيز.


وهذه الرسالة نقلت من خط القاضي الفاضل على هذه الصورة، ورأيت في نسخة زيادة على هذا، وهي: فإذا وقفت على كتابنا هذا فكن لأمرنا بالمرصاد، إلى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، والله أعلم؛ ورأيت في بعض النسخ زيادة بيت في أول الأبيات الثلاثة، وهو:

يا للرجال لأمر هال مفظعـه

 

ما مر قط على سمعي توقعه

وكتب سنان المذكور مرة أخرى إليه، وقد جرت بينهما وحشة:

بنا نلت هذا الملك حتى تأثلـت

 

بيوتك فيها واشمخر عمودها

فأصبحت ترمينا بنبل بنا استوى

 

مغارسها منا، وفينا حديدهـا

 وبالجملة فإن محاسن نور الدين كثيرة؛ وكانت ولادته يوم الأحد عند طلوع الشمس سابع عشر شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة؛ وتوفي يوم الأربعاء حادي عشر شوال سنة تسع وستين وخمسمائة، بقلعة دمشق، بقلعة الخوانيق، وأشار عليه الأطباء بالفصد فامتنع، وكان مهيباً فما روجع. ودفن في بيت بالقلعة كان يلازم الجلوس فيه والمبيت أيضاً، ثم نقل إلى تربته بمدرسته التي أنشأها عند باب سوق الخواصين، وسمعت من جماعة من أهل دمشق يقولون: إن الدعاء عند قبره مستجاب، ولقد جربت ذلك فصح، رحمه الله تعالى.

وذكر شيخنا عز الدين أبو الحسن علي بن محمد المعروف بابن الأ ثير اجزري في تاريخه الكبير الذي سماه "الكامل" في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة أن نور الدين المذكور نزل في البقيعة تحت حصن الكراد في السنة المذكورة محاصراً لحصن الأكراد، وعازماً على قصد طرابلس وهو في جميع عساكره، فاجتمع من الفرنج خلق كثير وكبسوهم في النهار والمسلمون في غفلة عنهم، فلم يتمكنوا من الاستعداد لهم وهربوا منهم، ونجا نور الدين بنفسه وهي وقعة مشهورة معروفة، ونزل على بحيرة قدس بالقرب من حمص، وبينه وبين الفرنج مقدار أربعة فراسخ، فسير إلى حلب وبقية البلاد وأحضروا الأموال الكثيرة وأنفقها ليقوى جيشه ثم يعود إليهم فيستوفي الثار، فقال له بعض أصحابه: إن في بلادك إدرارات وصدقات وصلات كثيرة على الفقهاء والصوفية والقراء، ولو استعنت بها في هذا الوقت لكان أصلح، فغضب من ذلك غضباً شديداً وقال: إني لا أرجو النصر إلا بأولئك، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم، كيف أقطع صلات قوم يقاتلون عني وأنا نائم على فراشي بسهام لا تخطئ، وأصرفها إلى من لا يقاتل عني إلا بسهام قد تصيب وتخطئ؟ وهؤلاء القوم لهم نصيب في بيت المال فكيف يحل ان أعطيه غيرهم؟.

وكان أسمر اللون طويل القامة حسن الصورة، ليس بوجهه شعر سوى ذقنه.

وكان قد عهد بالملك إلى ولده الملك الصالح عماد الدين إسماعيل وعمره يوم مات أبوه إحدى عشرة سنة، فقام بالأمر من بعده، وانتقل من دمشق إلى حلب ودخل قلعتها يوم الجمعة مستهل المحرم سنة سبعين وخمسمائة، وخرج السلطان صلاح الدين من مصر، وملك دمشق وغيرها من بلاد الشام، ولم يبق عليه سوى مدينة حلب، ولم يزل الصالح بها إلى أن توفي يوم الجمعة الخامس والعشرين من رجب سنة سبع وسبعين وخمسمائة، وذكروا أنه لم يبلغ عشرين سنة، والله أعلم. وكان مبدأ مرضه في تاسع شهر رجب من السنة المذكورة، وحدث له قولنج في مستهل جمادى الأولى، وكان لموته وقع عظيم في قلوب الناس، وتأسفوا عليه لأنه كان محسناً محمود السيرة، ودفن في المقام الذي في القلعة، ثم نقل إلى رباطه المعروف به تحت القلعة، وهو مشهور هناك، رحمه الله تعالى.

وتوفي مجير الدين أبق المذكور في سنة أربع وستين وخمسمائة ببغداد، ودفن في داره، كذا وجدته في بعض المسودات التي بخطي، والله أعلم، ومولده يوم الجمعة ثامن شعبان سنة أربع وثلاثين وخمسمائة ببعلبك، والله تعالى أعلم.