القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا بن يحيى بن حميد بن حماد بن داود المعروف بابن طرارا الجريري النهرواني؛ كان فقيهاً أديباً شاعراً، عالماً بكل فن، ولي القضاء ببغداد، بباب الطاقة نيابة عن ابن صبر القاضي، وروى عن جماعة من الأئمة، منهم أبو القاسم البغوي وأبو بكر بن أبي داود ويحيى بن صاعد وأبو سعيد العدوي وأبو حامد محمد بن هارون الحضرمي وغيرهم. وأخذ الدب عن أبي عبد الله إبراهيم محمد بن عرفة المعروف بنفطويه وغيره.
وروى عنه جماعة من الأئمة أيضاً، منهم أبو القاسم الأزهري والقاضي أبو الطيب الطبري الفقيه الشافعي وأحمد بن علي التوزي وأحمد بن عمرو بن روح.
وذكر أحمد بن عمر بن روح أن أبا الفرج المذكور حضر في دار لبعض الرؤساء، وكان هناك جماعة من أهل العلم والأدب، فقالوا له: في أي نوع من العلوم نتذاكر؟ فقال أبو الفرج لذلك الرئيس: خزانتك قد جمعت أنواع العلوم، وأصناف الأدب، فإن رأيت أن تبعث الغلام إليها، تأمره أن يفتح بابها، ويضرب بيده إلى أي كتاب رأى منها، فيحمله ثم يفتحه، وينظر في أي العلوم هو، فنتذاكره ونتجارى فيه. قال ابن روح: وهذا يدل على أن أبا الفرج كان له أنسة بسائر العلوم. وكان أبو محمد عبد الباقي يقول: إذا حضر القاضي أبو الفرج فقد حضرت العلوم كلها، وقال: لو أوصى رجل بثلث ماله لأعلم الناس لوجب أن يدفع إلى أبي الفرج المعافى.
وكان ثقة مأموناً في روايته، وله شعر حسن، فمن ذلك ما رواه عنه القاضي أبو الطيب الطبري الفقيه الشافعي، وهو:
ألا قل لم كان لي حـاسـداً |
|
أتدري على من أسأت الأدب |
أسأت على الله في فعـلـه |
|
لأنك لم ترض لي ما وهب |
فجازك عنـه بـأن زادنـي |
|
وسد عليك وجوه الطـلـب |
وذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتاب "طبقات الفقهاء" وأثنى عليه ثم قال: وأنشدني قاضي بلدنا أبو علي الداودي، قال: أنشدني أبو الفرج لنفسه:
أأقتبس الضياء من الضبـاب |
|
وأتمس الشراب من السراب |
أريد من الزمان النـذل بـذلاً |
|
وأرياً من جنى سلع وصـاب |
أرجي أن ألاقي لاشتـياقـي |
|
خيار الناس في زمان الكلاب |
ومن شعره أيضاً:
مالك العلمين ضامـن رزقـي |
|
فلماذا أملك الـخـلـق رقـي |
قد قضى لي بما علي وما لـي |
|
خالقي جل ذكره قبل خلـقـي |
صاحبي البذل والندى في يساري |
|
ورفيقي في عسرتي حسن رفق |
وكما لا يرد عـجـزي رزقـي |
|
فكذا لا يجر رزقـي حـذقـي |
وذكر أنه علمها في معنى قول علي بن الجهم:
لعمرك ما كل التـعـطـل ضـائر |
|
ولا كل شغل فيه للمرء منفـعـه |
إذا كانت الأرزاق في القرب والنوى |
|
عليك سواء فاغتنم راحة الـدعـه |
ومن غريب ما اتفق له ما حكاه أبو عبد الله الحميدي، صاحب "الجمع بي الصحيحين" - المقدم ذكره - قال: قرأت بخط أبي الفرج المعافى بن زكريا النهرواتي: حججت سنة، وكنت بمنى أيام التشريق، فسمعت منادياً ينادي: يا أبا الفرج، فقلت: لعله يريدني، ثم قلت: في الناس خلق كثير ممن يكنى أبا الفرج، ولعله ينادي غيري، فلم أجبه، فلما رأى أنه لا يجيبه أحد نادي: يا أبا الفرج المعافى، ففهمت أن أجيبه، ثم قلت: قد يتفق أن يكون آخر اسمه المعافى، ويكنى أبا الفرج بن زكريا النهرواني، فقلت: لم يبق شك في مناداته إياي إذ ذكر اسمي وكنيتي واسم أبي وبلدي الذي أنسب إليه، فقلت: ها أنا ذا فما تريد؟ قال: لعلك من نهروان الشرق، فقلت: نعم، فقال: نحن نريد نهروان الغرب، فعجبت من اتفاق الاسم والكنية واسم الأب وما أنتسب إليه، علمت أن بالمغرب موضعاً يسمى النهروان، غير النهروان الذي بالعراق.
ولأبي الفرج المذكور عدة تصانيف ممتعة في الأدب وغيره وكتاب "الجليس الأنيس" تصنيفه أيضاً وكانت ولادته يوم الخميس لسبع خلون من شهر رجب سنة ثلاث، وقيل خمس، وثلثمائة؛ وتوفي يوم الاثنين الثامن عشر من ذي الحجة، سنة تسعين وثلثمائة بالنهروان، رحمه الله تعالى.
وطرارا: بفتح الطاء المهملة والراء بعد الأف راء ثانية مفتوحة ثم ألف مقصورة وبعضهم يكتبه بالهاء بدلاً من الألف، فيقول: طرارة، والله أعلم.
والجريري: بفتح الجيم وكسر الراء وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء هذه النسبة إلى الامام محمد بن جرير الطبري - المقدم ذكره - وإنما نسب إليه لأنه كان على مذهبه مقلداً له، وقد تقدم في ترجمته أنه كان مجتهداً صاحب مذهب مستقل، وكان له أتباع، وأخذ بمذهبه جماعة منهم أبو الفرج المذكور.
وقد سبق الكلام على النهرواني فأغنى عن الإعادة، والله تعالى أعلم.