موفق الدين العيلاني المصري

أبو العز مظفر بن إبراهيم بن جماعة بن علي بن شامي بن أحمد بن ناهض بن عبد الرزاق العيلاني، الحنبلي المذهب الملقب موفق الدين، الشاعر المشهور المصري؛ كان أديباً عروضياً شاعراً مجيداً، صنف في العروض مختصراً جيداً دل على حذقه فيه، وله ديوان شعر رائق، وكان ضريراً، فمن شعره:

قالوا عشقت وأنت أعمـى

 

ظبياً كحيل الطرف ألمى

وحلاه مـا عـاينـتـهـا

 

فنقول قد شغفتك هـمـا

وخياله بك في الـمـنـا

 

م فما أطاف ولا ألـمـا

من أين أرسل لـلـفـؤا

 

د، وأنت لم تنظره، سهما

ومتـى رأيت جـمـالـه

 

حتى كساك هواه سقمـا

والعين داعـية الـهـوى

 

وبه تـنـم إذا تـنـمـى

وبـأي جـارحة وصـل

 

ت لوصفه نثراً ونظمـا

فأجبـت إنـي مـوسـو

 

ي العشق إنصاتاً وفهمـا

أهوى بجارحة الـسـمـا

 

ع، ولا أرى ذات المسمى

 

ولقد أذكرتني هذه الأبيات أبياتاً لرجل ضرير أيضاً، والشيء بالشيء يذكر، وهي هذه:

وغادة قـالـت لأتـرابـهـا

 

يا قوم ما أعجب هذا الضرير

أيعشق الإنسـان مـا لا يرى

 

فقلت والدمع بعيني غـزير:

إن لم تكن عيني رأت شخصها

 

فإنها قد مثلت في الضمـير

 

ومثل هذا أيضاً قول المهذب عمر بن محمد المعروف بابن الشحنة الموصلي الأديب الشاعر المشهور من جملة قصيدة طويلة مدح بها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، والبيت المقصود قوله:

وإني امرؤ أحـبـبـتـكـم لـمـكـارم

 

سمعت بها، والأذن تعشق قبل العين أحياناً

 

وقد أخذ هذا المعنى من قول بشاربن برد الشاعر المقدم ذكره:

وإني امرؤ أحببتكم لـمـكـارم

 

سمعت بها، والأذن كالعين تعشق

 

وكان الوزير صفي الدين أبو محمد عبد الله بن علي، عرف بابن شكر، قد عاد من الشام إلى مصر، فخرج أصحابه للقائه إلى الخشبي المنزلة المجاورة للعباسة، فكتب مظفر المذكور إليه هذه الأبيات، يعتذر من تأخره عن الخروج إليه وهي:

قالوا إلى الخشبي سرنا على عجل

 

نلقى الوزير جميعاً ذوي الرتـب

ولم تسر أيها الأعمى، فقلت لهم:

 

لم أخش من تعب ألقى ولا نصب

وإنما النار في قلبي لوحـشـتـه

 

فخفت أجمع بين النار والخشـب

 

وهذا المعنى مطروق لكنه استعمله حسناً.


وأخبرني أحد أصحابه أن شخصاً يقال له: رأيت في بعض تواليف أبي العلاء المعري ما صورته: أصلحك الله وأبقاك، لقد كان من الواجب أن تأتينا اليوم إلى منزلنا الخالي، لكي نحدث عهداً بك يا زين الأخلاء، فما مثلك من غير عهداً أو غفل؛ وسأله: من أي الأبحر هذا؟ وهل هو بيت واحد أم أكثر؟ فإن كان أكثر فهل أبياته على روي واحد أم هي مختلفة الروي؟ قال: فأفكر فيه، ثم أجابه بجواب حسن، فلما قال لي المخبر ذلك قلت له: اصبر علي حتى أنظر فيه ولا تقل ما قاله، ثم أفكرت فيه فوجدته يخرج من بحر الرجز، وهو المجزوء منه، وتشتمل هذه الكلمات على أربع أبيات على روي الكلام، وهي على صورة يسوغ استعمالها عند العروضيين، ومن لا يكون له معرفة بهذا الفن فإنه ينكرها، لأجل قطع الموصول منها، ولا بد من الإتيان بها لتظهر صورة ذلك، وهي:

أصلحك الـلـه وأب

 

قاك لقد كان من ال

واجب أن تأتينا الـي

 

وم إلى منزلنـا ال

خالي لكي نحدث عه

 

داً بك يا زين الأخل

لاء فما مثلـك مـن

 

غير عهداً أو غفل

 

وهذا إنما يذكره أهل هذا الشأن للمعاياة، لا لأنه من الأشعار المستعملة، فلما استخرجته عرضته على ذلك الشخص فقال: هكذا قاله مظفر الأعمى.


وقال الشيخ زكي الدين أبو محمد عبد العظيم بن عبد القوي المنذري المحدث المصري، رحمه الله تعالى، أخبرني الأديب موفق الدين مظفر الضرير الشاعر المصري أنه دخل على القاضي السعيد بن سناء الملك - قلت: وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى، واسمه هبة الله- قال: فقال لي: يا أديب، قد صنعت نصف بيت، ولي أيام أفكر فيه، ولا يأتي لي تمامه، فقلت: وما هو؟ فأنشدني:

بياض عذارى من سواد عذاره

 

قال مظفر: فقلت: قد حصل تمامه وأنشدت:

كما جل ناري فيه من جلناره

 

فاستحسنه، وجعل يعمل عليه، فقلت في نفسي: أقوم وإلا يعمل المقطوع من كيسي.


وبالجملة فقد خرجنا عن المقصود، لكن الكلام يسوق بعضه بعضاً.


وكتب مظفر المذكور لتقي الدين، ومدحه جماعة هو منهم، فخلع على الجميع ولم يخلع عليه:

العبد مملوك مـولانـا وخـادمـه

 

مظفر الشاعر الأعمى حليف ضنى

يقبل الأرض إجلالاً لـمـالـكـه

 

رقاً، وينهي إليه بعد كـل هـنـا

أن القميص جميع الناس قد بصروا

 

به وما منهم يعـقـوب غـير أنـا

 

وله يوم رمي الشواني:

يا أيها الملـك الـمـسـرور آمـلـه

 

هذي شوانـيك تـرمـي يوم سـراء

كأنما هي قـعـبـان بـهـا ظـمـأ

 

طاردت من البحر وانقضت على الماء

 

وله في يوم لعبها:

مولاي هذه الشواني في ملاعبها

 

مثل الشواهين بين السهل والجبل

تسقي مجاذيفها ماء وتنفـضـه

 

نفض العقاب جناحهيا من البلل

 

وله يصف فانوس الجامع العتيق بمصر:

أرى علـمـاً لـلـنـاس ينـصـب

 

على جامع ابن العاص أعلاه كوكب

وما هو في الظلـمـاء إلا كـأنـه

 

على رمح زنجي سنـان مـذهـب

ومن عجب أن الثـريا سـمـاؤهـا

 

مع الليل تلهي كل مـن يتـرقـب

فطوراً تحـييه بـبـاقة نـرجـس

 

وطوراً يحييها بـكـاس تـلـهـب

وما اللـيل إلا قـانـص لـغـزالة

 

بفانوس نار نحـوهـا يتـطـلـب

ولم أر صيداً على البعـد قـبـلـه

 

إذا قربت منـه الـغـزالة يهـرب

وشعره كثير.

 وكانت ولادة مظفر المذكور لخمس بقين من جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسمائة بمصر. وتوفي بها سحر يوم السبت التاسع من المحرم سنة ثلاث وعشرين وستمائة، ودفن من الغد بسفح المقطم، رحمه الله تعالى.

والعيلاني، بفتح العين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعد اللام ألف نون، هذه النسبة إلى قيس عيلان، وقيل قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن عدنان، فمن قال إنه قيس علان فقد اختلفوا في عيلان ماذا؟ فمنهم من قال: هو اسم فرس كان له فأضيف إليه، وقيل اسم كلب كان له، وقيل اسم رجل كان قد حضنه صغيراً، وإنما أضيف إلى عيلان لأنه كان في عصره شخص يقال له قيس كبة - بضم الكاف وتشديد الباء الموحدة - وهو اسم فرس كنت له أيضاً، فكان كل واحد منهما يضاف إلى ما له ليتميز عن الآخر، والله أعلم، وقد قيل إن قيس عيلان اسمه الناس - بالنون - وهو أخو إلياس- بالياء - جد النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم بالصواب.