أبو الهيجاء مقاتل بن عطية بن مقاتل البكري الحجازي، الملقب شبل الدولة؛ كان من أولاد أمراء العرب، فوقع بينه وبين إخوته وحشة أوجبت رحيله عنهم، ففارقهم ووصل إلى بغداد ثم خرج إلى خراسان وانتهى إلى غزنة، وعاد إلى خراسان، واختص بالوزير نظام الملك وصاهره، ولما قتل نظام النلك رثاه أبو الهيجاء المذكور ببيتين، تقدم ذكرهما في ترجمته.
ثم عادى إلى بغداد وأقام بها مدة، وعزم على قصد كرمان مسترفداً وزيرها ناصر الدين مكرم بن العلاء، وكان من الأجواد المشاهير، فكتب إلى الأمام المستظهر بالله قصة يلتمس فيها الإنعام عليه بكتاب إلى الوزير المذكور، مضمونه الإحسان إليه، فوقع المستظهر على رأس قصته: "يا أبا الهيجاء، أبعدت النجعة، أسرع الله بك الرجعة، وفي ابن العلاء مقنع، وطريقه في الخير مهيع، وما يسديه إليك تستحلي ثمرة شكره، وتستعذب مياه بره، والسلام" فاكتفى أبو الهيجاء بهذه الأسطر، واستغنى عن الكتاب.
وتوجه إلى كرمان، فلما وصلها قصد حضرة الوزير واستأذن في الدخول فأذن له، فدخل عليه وعرض على رأيه القصة، فلما رآها قام وخرج عن دسته فأذن له، إجلالاً لها وتعظيماً لكاتبها، وأطلق لأبي الهيجاء ألف دينار في ساعته ثم عاد إلى دسته، فعرفه أبو الهيجاء أن معه قصيدة يمدحه بها، فاستنشده إياها فأنشده:
دع العيس تذرع عرض الفلا |
|
إلى ابن العـلاء، وإلا فـلا |
فلما سمع الوزير هذا البيت أطلق له ألف دينار أخرى، ولما أكمل إنشاده القصيدة أطلق له ألف دينار أخرى، وخلع عليه، وقاد إليه جواداً بمركبة، وقال له: دعاء أمير المؤمنين مسموع مرفوع، وقد دعا بسرعة الرجوع، وجهزه بجميع ما يحتاج إليه.
فرجع إلى بغداد وأقام بها قليلاً، ثم سافر إلى ما وراء النهر وعاد إلى
خراسان ونزل إلى مدينة هراة، وهوي بها امرأة وأكثر من التشبيب فيها، ثم
رحل إلى مرو واستوطنها؛ ومرض في آخر عمره وتسودن، وحمل إلى
البيمارستان، وتوفي في حدود سنة خمس وخمسمائة، رحمه الله تعالى.
وكان من جملة الأدباء الظرفاء، وله النظم البديع الرائق، وبينه وبين
العلامة أبي القاسم الزمخشري المقدم ذكره مكاتبات ومادعبات، وكتب إليه
قبل الاجتماع به:
هذا أديب كـامـل |
|
مثل الدراري درره |
زمخشري فاضـلٌ |
|
أنجبه زمخـشـره |
كالبحر إن لـم أره |
|
فقد أتاني خـبـره |
فكتب إليه الزمخشري:
شعره أمطر شعري شرفا |
|
فاعتلى منه ثياب الحسـد |
كيف لا يسأسد النبـت إذا |
|
بات مسقياً بنـوء الأسـد |
وله كل مقطوع لطيف، رحمه الله تعالى.
والوزير المذكور هو الذي تقدم ذكره في ترجمة أبي إسحاق إبراهيم الغزي
الشاعر المشهور، فإن قصده بكرمان وامتدحه بقصيدة بائية طنانة ذكرت منها
في ترجمة الغزي بيتين هما من الشعر العجيب، وضمنهما المعنى الغريب.
وأول هذه القصيدة:
ورود ركايا الدمع يكفي الركائبا |
|
وشم تراب الربع يشفي الترائبا |
إذا شمت من برق العقيق عقيقه |
|
فلا تنتجع دون الجفون السحائبا |
ومنها عند الخروج إلى المديح:
وعيس لهـا عـيسـى بـن مـريم |
|
إذا قتل الفج العميق المـطـالـبـا |
يرقـصـهـن الآل إمـا طـوافـيا |
|
تراهـن فـي آذيه أو رواسـبــا |
سوانح كالبنيان تـحـسـب أنـنـي |
|
مسحت المطايا إذ مسحت السباسبـا |
تنسمن من كرمان عرفاً عـرفـتـه |
|
فهن يلاعبن النـشـاط لـواغـبـا |
يرين وراء الخفاقين من الـمـنـى |
|
مشارق لم يؤبه لهـا ومـغـاربـا |
إلى ماجد لم يقبل الـمـجـد وارثـاً |
|
ولكن سعى حتى حوى المجد كاسبـا |
تبسم ثغر الدهر منـه بـصـاحـب |
|
إذا جد لم يصحب سوى العزم صاحبا |
ومنها:
تصيخ له الأسماع ما دام قـائلاً |
|
وتعنو له الأبصار مادام كاتـبـا |
ولم أر ليثاً خادراً قبل مـكـرم |
|
ينافس في العليا ويعطي الرغائبا |
ولو لم يكن ليثاً مع الجود لم يكن |
|
إذا صال بالأقلام صارت مخالبا |
ومنها:
إذا زان قوماً بالمناقب واصـف |
|
ذكرنا له فضلاً يزين المناقبـا |
له السئيم الشم التي لو تجسمـت |
|
لكانت لوجه الدهر عيناً وحاجبا |
ثنى نحو شمطاء الوزارة طرفه |
|
فصارت بأدنى لحظة منه كاعبا |
تناول أولاها وما مـد سـاعـداً |
|
وأحرز أخراها وما قام واثبـا |
وهي من غرر القصائد، وفي هذا الأنموذج منها دلالة على الباقي.