مكي الماكسيني النحوي

أبو الحرم مكي بن ريان بن شبة بن صالح، الماكسيني المولد الموصلي الدار، المقرىء النحوي الضرير، الملقب صائن الدين؛ كان والده يصنع الأنطاع بماكسين، ومات فقيراً لم يخلف شيئاً، وترك ولده أبا الحرم المذكور وأمه وبنتاً، فلم تقدر أمه على القيام بمصالحه بسب الفقر، وتضجرت منه ففارقها، وخرج من بلده وقصد الموصل، واشتغل بها بعلم القرآن والأدب، ثم رحل إلى بغداد واجتمع بأئمة الأدب، وقرأ على أبي محمد ابن الخشاب وابن العصار وابن الأنباري وأبي محمد سعيد بن الدهان وقد تقدم ذكرهم ثم عاد إلى الموصل وتصدر بها للإفادة، وأخذ الناس عنه، وانتشر ذكره في البلاد وبعد صيته وانتفع به خلق كثير.

وذكره أبو البركات ابن المستوفي في "تاريخ إربل" فقال: هو جامع فنون الأدب، وحجة كلام العرب، المجمع على دينه وعقله، والمتفق على علمه وفضله؛ رحل إلى بغداد ولقي بها مشايخ النحو واللغة والحديث، وكان واسع الرواية، قد نصب نفسه للانتفاع عليه بالقرآن العزيز وجميع ضروب الأدب، ثم قال: وأنشدني من شعره، وكان قد اشتغل عليه بالموصل، أعني ابن المستوفي المذكور:

سئمت من الحياة فلم أردها

 

تسالمني وتشجيني بريقـي

عدوي لا يقصر فـي أذائي

 

ويفعل مثل ذلك بي صديقي

وقد أضحت لي الحدباء داراً

 

وأهل مودتي بلوى العقيق

 

والحدباء: كنية الموصل.


ومن شعره أيضاً:

إذا احتاج النوال إلى شفيع

 

فلا تقبله تضح قرير عين

إذا عيف النوال لفرد مـن

 

فأولى أن يعاف لمنتـين

 

وله أيضاً:

على الباب عبد يسأل الإذن طالباً

 

به أدباً لا أن نعماك تحـجـب

فإن كان إذن فهو كالخير داخلٌ

 

عليك وإلا فهو كالشر يذهـب

 

وهذا مأخوذ من قول بعضهم:

على الباب عبدٌ من عبـيدك واقـفٌ

 

بنعماك مغمورٌ بشكرك معـتـرف

أيدخل كالاإقبال لا زالـت مـقـبـلاً

 

مدى الدهر أم مثل الحوادث ينصرف

ثم قال ابن المستوفي: وكان قد أضر وهو ابن ثمان أو تسع سنين، وكان أبداً يتعصب لأبي العلاء المعري،ويطرب إذا قرئ عليه شعره، للجامع بينهما من العمى والأدب، فسلك مسلكه في النظم؛ انتهى كلام ابن المستوفي.

قلت: وحكى لي بعض من أخذ عنه أنه لما كان ببلده كان جيرانهم ومعارفهم يسمونه مكيك تصغير مكي، فلما ارتحل واشتغل وحصل اشتاقت نفسه إلى وطنه، فعاد إليه، فتسامع به من بقي ممن كان يعرفه، فزاروه وفرحوا به لكونه فاضلاً من أهل بلدهم، وبات تلك الليلة، فلما كان سحر خرج إلى الحمام فسمع امرأة في غرفتها تقول لأخرى: ما تدرين من جاء؟ فقالت: لا، فقالت: مكيك ابن فلانة، فقال: والله لا قعدت في بلد أدعى فيه مكيك وسافر من غير تربث بعد أن كان قد نوى الإقامة بها مدة وعاد إلى الموصل، ثم خرج إلى الشام في أواخر عمره لزيارة بيت المقدس، فانتهى إليه وقضى منه وطره.

ورجع إلى الموصل من حلب. وكان دخوله إلى الموصل في شهر رمضان وتوفي ليلة السبت السادس من شوال سنة ثلاث وستمائة بالموصل، وخلف ولداً صغيراً. ودفن بصحراء باب الميدان في مقبرة المعافى بن عمران جوار أبي بكر القرطبي وابن الدهان النحوي، رحمهم الله تعالى؛ ويقال إنه مات مسموماً من جهة صاحب الموصل نور الدين أرسلان شاه المقدم ذكره في حرف الهمزة لسبب اقتضى ذلك، والله أعلم.

وريان: بفتح الراء وتشديد الياء المثناة من تحتها وبعد الألف نون.

وشبه: بفتح الشين المعجمة وتشديد الباء الموحدة وبعد هاء ساكنة.

والماكسيني: بفتح الميم وبعد الألف كاف مكسورة أيضاً ثم ياء ساكنة مثناة من تحتها وبعدها نون، هذه النسبة إلى ماكسين، وهي بليدة من أعمال الجزيرة الفراتية على نهر الخابور، وهي على صغرها تشابه المدن في حسن بنائها ومنازلها.