مخلص الدولة ابن منقذ

أبو المتوج مقلد بن نصر بن منقذ الكناني، الملقب مخلص الدولة، والد الأمير سديد الدولة أبي الحسن علي صاحب قلعة شيزر، المقدم ذكره؛ كان رجلاً نبيل القدر سائر الذكر، رزق السعادة في بنيته وحفدته،، وقد تقدم في ترجمة ولده المذكور طرف من بدء أمرهم، وكيف ملك القلعة المذكورة.

وكان والده مقلد المذكور في جماعة كثيرة من أهل بيته مقيمين بالقرب من قلعة شيزر عند جسر بني مقلد المنسوب إليهم، وكانوا يترددون إلى حلب وحماة وتلك النواحي، ولهم بها الآدار النفسية والملاك المثمنة، وذلك كله قبل أن ملكوا قلعة شيزر، وكان ملوك الشام يكرمونهم ويبجلون أقدارهم، وشعراء عصرهم يقصدونهم ويمدحونهم، وكان فيهم جماعة أعيان رؤساء كرماء علماء، وقد سبق ذكر أسامة بن منقذ، وهو من أحفاده.

ولم يزل مخلص الدولة في رياسته وجلالته، إلى أن توفي في ذي الحجة سنة خمسين وأربعمائة بحلب، وحمل إلى كفرطاب؛ ورأيت في ديوان ابن سنان الخفاجي الشاعر عقيب أشعار له في المذكور، يقول ما صورته: وقال يرثيه وقد توفي في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، والله أعلم بالصواب، رحمه الله تعالى. ورثاه القاضي أبو يعلى حمزة بن عبد الرزاق بن أبي حصين بهذه القصيدة، وهي من فائق الشعر، وأنشدها لولده أبي الحسن علي المذكور، سأذكرها كلها إن شاء الله تعالى، وإن كانت طويلة، لكنها غريبة قليلة الوجود بأيدي الناس، وما رأيت أحداً قط يحفظ منها إلا أبياتاً يسيرة فأحببت ذكرها لذلك، وهي هذه:

 

ألا كل حي مقصدات مـقـاتـلـه

 

وآجل ما يخشى من الدهر عاجله

وهل يفرح الناجي السلـيم وهـذه

 

خيول الردى قـدامة وحـبـائلـه

لعمر الفتى إن الـسـلامة سـلـم

 

إلى الحين والمغرور بالعيش آمله

فتسلب أثواب الحـياة مـعـارهـا

 

ويقضي غريم الدين ما هو ماطله

مضى قيصرٌ لم تغن عنه قصـوره

 

وجدل كسرى ما حمته مجـادلـه

وما صد هلكاً عن سليمان ملـكـه

 

ولا منعت منه أبـاه سـرابـلـه

ولم يبق إلا مـن يروح ويغـتـدي

 

على سفر ينأى عن الأهل قافلـه

وما نفـس الإنـسـان إلا خـزامة

 

بأيدي المنايا والليالي مـراحـلـه

فهل غال بدءاً مخلص الدولة الردى

 

وهل تنزوي عمن سواه غـوائلـه

ولكنه حوض الحمـام، فـفـارط

 

إليه، وتالٍ مسرعـاتٍ رواحـلـه

لقد دفن الأقوام أروع لـم تـكـن

 

بمدفونةٍ طول الزمان فضـائلـه

سقى جدثاً هالت عـلـيه تـرابـه

 

أكفهم طل الـغـمـام ووابـلـه

ففيه سحابٌ يرفع المحـل هـديه

 

وبحر ندىً يستغرق البر ساحـلـه

كأن ابن نصر سائراً فـي سـريره

 

حبي من الوسمي أقشع هاطـلـه

يمر على الوادي فتثنـي رمـالـه

 

عليه، وبالنادي فتبكـي أرامـلـه

سرى تعشه فوق الرقاب وطالمـا

 

سرى جوده فوق الركاب ونائلـه

أناعيه إن الـنـفـوس مـنـوطةٌ

 

بقولك فانظر ما الذي أنت قائلـه

بفيك الثرى لم تدر من حل بالثـرى

 

جهلت وقد يستصغر الأمر جاهله

هو السيد المهتـز لـلـتـم بـدره

 

وللجود عطفاه وللطعن عالـمـه

أفاض عيون الناس حتى كـأنـمـا

 

عيونهم مما تـفـيض أنـامـلـه

فيا عين سحي لا تشحـي بـسـائل

 

على ماجد لم يعرف الشح سائلـه

متى يسألوه المال تـنـد بـنـانـه

 

وإن لم يسألوه الضيم تبد عواملـه

وكم عاد عنه بالخسـار مـقـنـع

 

وكم نال منه قانع مـا يحـاولـه

له الغلب القاضي على كل باسـل

 

يجالده أو كل خـصـم يجـادلـه

محاسنه في روضةٍ طلها الـنـدى

 

ولكنه في المجد مات مساجـلـه

فيا عمره أنى قصرت ولم تـطـل

 

منازله بل كفه بـل حـمـائلـه

جرت تحته العلياء ملء فروجهـا

 

إلى غاية طالت على من يطاولـه

فما مات حتى نال أقصـى مـراده

 

كما يستسر البدر تمت منـازلـه

فتى طالما يعتاده الجـيش عـافـياً

 

فينـزلـه أو عـادياً فـينـازلـه

صفوحٌ عن الجاني وصفحة سيفـه

 

إذا هي لم تقتله فالصفح قاتـلـه

وأدمى عسيب الطرف بعدك هلبـه

 

وعادته أن يقذف الدم كـاهـلـه

فيا طرفه ما كان عجزك حـامـلاً

 

أدى صارم لو أن ظهرك حاملـه

لقد كثر الملبـوس بـعـد مـروع

 

جرت ببيان المشكلات شواكـلـه

إذا ظن لا يخطي كأن ظـنـونـه

 

على ما يضل الناس عنـه دلائلـه

فلا رحلت عنـه نـوازل رحـمةٍ

 

ضحاه بها موصـولة وأصـائلـه

وروى ثراه منهن العفو فـي غـد

 

فقد روت العافين أمس مناهـلـه

قضى اللـه أن يرزا الأمـير وهـذه

 

صوافنه موقـورة ومـنـاصـلـه

وكل فتى كالبراق إبـريق غـمـده

 

إذا شماه، او كـالـذبـالة ذابـلـه

فليت ظباه صلـت الـيوم خـلـفـه

 

وظلت على غير الصيام صواهلـه

بني منقذ صبراً فـإن مـصـابـكـم

 

يصاب به حافي الأنـام ونـاعـلـه

لقد جل حـتـى كـل واجـد لـوعة

 

إذا لج فيها لـيس يوجـد عـاذلـه

إذا صوحت أيدي الرجـال فـأنـتـم

 

بني منقذ روض الندى وخـمـائلـه

وإن فر من وزر الزمـان مـفـرحٌ

 

فإنـكـم أوزاره ومـعـاقـلــه

وصاحب، علي، الصبر عنه فما غوى

 

مصاحب صبرٍ عن حبـيب يزايلـه

وما نام حـتـى قـام مـنـك وراءه

 

أخو يقظات وافر العزم كـامـلـه

كأنكما نوءان فـي فـلـك الـعـلا

 

فطـالـعـه هـذه وذلـك آفـلـه

وما كفلوك الأمر إلا لـعـلـمـهـم

 

قيامك بالأمر الذي أنـت كـافـلـه

سعيت إلى نيل المـكـارم سـعـيه

 

ولو كنت لا تسعى كفتك فواضـلـه

ولم تر أن ترقى بما كـان فـاعـلاً

 

أجل إنما المرفوع بالفعل فـاعـلـه

لعمرك إني في الـذي عـن كـلـه

 

شريك عنان ناصح الـود نـاخـلـه

وكيف خلو القلب من ذلك الـهـوى

 

وقد خلدت بين الشغـاف دواخـلـه

 

نجزت القصيدة بتمامها وكمالها. وقد تقدم في ترجمة الصالح طلائع بن رزيك وزير مصر مرثية رثاه بها الفقيه عمارة الميني، وهي على وزن هذه المرثية ورويها،ولم أذكر منها هناك سوى أبيات قلائل لكثرة وجود ديوان عمارة بأيدي الناس، وهذه لا تكاد توجد بكمالها، فلهذا أتممتها ها هنا، وقد تقدم منها ذكر بيتين في ترجمة الوزير جمال الدين أبي جعفر محمد المعروف بالجواد الأصبهاني وزير الموصل.


وتوفي أخوه أبو الغيث منقذ بن نصر بن منقذ سنة تسع وثلاثين وأربعمائة، ورثاه الشيخ الأديب أبو محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن يحيى بن الحسين بن محمد بن الربيع بن سنان بن الربيع الخفاجي الحلبي الشاعر المشهور صاحب الديوان الشعر بقوله، وهو من شعره القديم زمن الصبا:

 

غربت خلائقك الحسان غريبةً

 

ورمى الزمان دنوها ببـعـاد

ذهبت كما ذهب الربيع وخلفت

 

فيض الدموع حرارة الأكبـاد

والخفاجي المذكور رثى مخلص الدولة المذكور أيضاً بقصيدة طويلة رائية، ومدحه بأخرى حائة أجاد فيهما وتركتهما لطولهما، والله تعالى أعلم بالصواب.