منصور الفقيه

أبو الحسن منصور بن إسماعيل بن عمر لتميمي المصري الفقية الشافعي الضرير؛ أصله من رأس عين، البلدة المشهورة بالجزيرة، وأخذ الفقه عن أصحاب الشافعي، رضي الله عنه وعن أصحاب أصحابه. وله مصنفات في المذهب مليحة منها "الواجب" و"المستعمل" و"المسافر" و"الهدية" وغير ذلك من الكتب، وله شعر جيد سائر، وذكره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، رحمه الله تعالى، في "طبقات الفقهاء" وأنشد له:

عاب التفقه قـوم لا عـقـول لـهـم

 

وما عليه إذا عـابـوه مـن ضـرر

ما ضر شمس الضحى والشمس طالعة

 

أن لا يرى ضوءها من ليس ذا بصر

 

ومن هنا أخذ أبو العلاء المعري قوله من قصيدته المشهورة:

والنجم تستصغر الأبصـار رؤيتـه

 

والذنب للطرف لا للنجم في الصغر

 

ومن شعره أيضاً:

لي حيلة فـيمـن ينـم

 

وليس في الكذاب حيله

من كان يخلق ما يقـو

 

ل فحيلتي فيه قليلـه

 

وله أيضاً:

الكلب أحسـن عـشـرةً

 

وهو النهاية في الخساسه

ممن ينازع في الـريا

 

سة قبل أوقات الرياسه

 

وحكي أنه أصاب مسغبة في سنة شديدة القحط،، فرقي سطح داره ونادى بأعلى صوته في الليل:

الغياث الغـياث يا أحـرار

 

نحن خلجانكم وأنتم بحـار

إنما تحسن المواساة في الش

 

دة لا حين ترخص الأسعار

 

فسمعه جيرانه، فأصبح على بابه مائة حمل برٍ.


وحكاياته وأخباره مشهورة؛ وتوفي في جمادى الأولى سنة ست وثلثمائة بمصر، وقال الشيخ أبو إسحاق في "الطبقات": إنه مات قبل العشرين والثلثمائة، رحمه الله تعالى.


وذكره القاضي أبو عبد الله القضاعي في كتاب "خطط مصر" فقال: أصله من رأس عين وسكن الرملة، وقدم إلى مصر وسكنها، وتوفي سنة ست وثلثمائة، وكان فقيهاً جليل القدر، متصرفاً في كل علم، شاعراً مجيداً، لم يكن في زمانه مثله بمصر.


وكان من أكرم الناس على أبي عبيدة القاضي، حتى كان منهما ما كان بسبب المسألة، وكان لأبي عبيدة في كل عشية مجلس يذاكر فيه رجلاً من أهل العلم ويخلو به، خلا عشية الجمعة فإنه كان يخلو بنفسه فيها، فكان من العشايا عشية يخلو فيها بمنصور، وعشية يخلو فيها بأبي جعفر الطحاوي، وعشية يخلو فيها بمحمد بن الربيع الجيزي، وعشية يخلو فيها بعفان بن سليمان، وعشية يخلو فيها بالسجستاني، وعشية يخلو فيها للنظر مع الفقهاء، وربما حدث، فجرى بينه وبين منصور في بعض العشايا ذكر الحامل المطلقة ثلاثاً، ووجوب نفقتها، فقال أبو عبيد: زعم قوم أن لا نفقة لها في الثلاث، وأن نفقتها في الطلاق غير الثلاث، فأنكر ذلك منصور، وقال: قائل هذا ليس من أهل القبلة. ثم انصرف منصور فحدث بذلك أبا جعفر الحطاوي، فحكاه أبو جعفر لأبي عبيدة فأنكره، وبلغ ذلك منصوراً فقال: أنا أكذبه، واجتمع الناس عند القاضي وتواعدوا لحضور ذلك، فلما حضروا لم يتكلم أحد، فابتدأ أبو عبيد وقال: ما أريد أحداً يدخل علي، ما أريد منصوراً ولا نصاراً ولا منتصراً، قوم عميت قلوبهم كما عميت أبصارهم يحكون عنا ما لم نقله، فقال له منصور: قد علم الله أنك قلت كذا وكذا، فقال أبو عبيد: كذبت، فقال له منصور: قد علم الله الكاذب، ونهض فلم يأخذ أحد بيده غير أبي بكر ابن الحداد فإنه أخذ بيده وخرج معه حتى ركب، وزاد الأمر فيما بينهما، وتعصب الأمير ذكا وجماعة من الجند وغيرهم لمنصور، وتعصب للقاضي جماعة، وشهد على منصور محمد بن الربيع الجيزي بكلام سمعه منه يقال إن منصوراً حكاه عن النظام، فقال القاضي: إن شهد عليه آخر مثل ما شهد به عليه محمد بن الربيع ضربت عنقه، فخاف على نفسه ومات في جمادى الأولى من السنة المذكورة. وخاف أبو عبيد أن يصلي عليه لأجل الجند الذين تعصبوا لمنصور، فتأخر عن جنازته لهذا السبب، وحضرها الأمير ذكا وابن بسطام صاحب الخراج، وأوعظ الناس ولم يتخلف كبير أحد، وذكر لأبي عبيد أن منصوراً قال عند موته:

قضيت نحبي فسر قوم

 

حمقى بهم غفلة ونوم

كأن يومي علي حتـم

 

وليس للشامتـين يوم

تموت قبلي ولو بـيوم

 

ونحن يوم النشور توم

فأطرق أبو عبيد ساعة ثم قال:

فقد فرحنا وقد شمتنا

 

وليس للشامتين لوم

والله أعلم بالصواب.