ملكشاه السلجوقي

أبو الفتح ملكشاه بن ألب أرسلان محمد بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق، الملقب جلال الدولة وقد تقدم ذكر أبيه وجماعة من أهل بيته.

ولما توفي أبوه في التاريخ المذكور في ترجمته كان ملكشاه المذكور في صحبته، ولم يصحبه قبلها في سفر غير هذه المرة، فولي الأمر من بعده بوصية والده وتحليف الأمراء والجناد على طاعته، ووصى وزيره نظام الملك أبا علي الحسن المقدم ذكره في حرف الحاء على تفرقة البلاد بين أولاده، ويكون مرجعهم إلى ملكشاه المذكور، ففعل ذلك وعبر بهم جيحون راجعاً إلى البلاد، وقد شرحت الوقاعة في ترجمة والده فلا حاجة إلى الإعادة.

فلما وصل إلى البلاد وجد بعض أعمامه وهو قاروت بك صاحب كرمان قد خرج عليه، فعاجله وتصافا بالقرب من همذان، فنصره الله عليهم وانهزم عمه، فتبعه بعض جند ملكشاه فأسروه وحملوه إلى ملكشاه، فبذل التوبة ورضي بالاعتقال وأن لا يقتل، فلم يجبه ملكشاه إلى ذلك، فأنفذ له خريطة مملوءة من كتب أمرائه، وأنهم حملوه على الخروج عن طاعته وحسنوا له ذلك، فدعا السلطان بالوزير نظام الملك فأعطاه الخريطة ليفتحها ويقرأ ما فيها، فلم يفتحها، وكان هناك كانون نار فرمى الخريطة فيه فاحترقت الكتب، فسكنت قلوب العساكر وأمنوا، ووطنوا أنفسهم على الخدمة، بعد أن كانوا قد خافوا من الخريطة لأن أكثرهم كان قد كاتبه، وكان ذلك سبب ثبات قدم ملكشاه في السلطنة، وكانت هذه معدودة في جميل آراء نظام الملك.

ثم إن ملكشاه أمر بقتل عمه فخنق بوتر قوسه، واستقرت القواعد للسلطان وفتح البلاد واتسعت عليه المملكة، وملك ما لم يملكه أحد من ملوك الإسلام بعد الخلفاء المتقدمين فكان في مملكته جميع بلاد ما وراء النهر وبلاد الهياطلة وباب الأبواب والروم وديار بكر والجزيرة والشام وخطب له على جميع منابر الإسلام سوى بلاد المغرب، فإنه ملك من كاشغر وهي مدينة في أٌقصى بلاد الترك إلى بيت المقدس طولاً، ومن القسطنطينية إلى بلاد الخزر وبحر الهند عرضاً، وكان قد قدر لمالكه ملك الدنيا.

وكلن من أحسن الملوك سيرة حتى كان يلقب بالسلطان العادل، وكان منصوراً في الحروب، ومغرماً بالعمائر، فحفر كثيراً من الأنهار، وعمر على كثير من البلدان الأسوار، وأنشأ في المفاوز رباطات وقناطر، وهو الذي عمر جامع السلطان ببغداد ابتدأ بعمارته في المحرم من سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وزاد في دار السلطنة بها، وصنع بطريق مكة مصانع، وغرم عليها أموالاً كثيرة خارجة عن الحصر، وأبطل المكوس والخفارات في جميع البلاد.

وكان لهجاً بالصيد، حتى قيل إنه ضبط ما اصطاده بيده فكان عشرة آلاف، فتصدق بعشرة آلاف دينار بعد أن نسي كثيراً منه، وقال: إنني خائف من الله سبحانه وتعالى لإزهاق الأرواح لغير مأكلة، وصار بعد ذلك كلما قتل صيداً تصدق بدينار.

وخرج من الكوفة لتوديع الحاج، فجاوز العذيب وشيعهم بالقرب من الواقصة وصاد في طريقه وحشاً كثيراً فبنى هناك منارة من حوافر الحمر الوحشية وقرون الظباء التي صادها في ذلك الطريق، والمنارة باقية إلى الآن وتعرف بمنارة القرون، وذلك في سنة ثمانين وأربعمائة.

وكانت السبيل في أيامه ساكنة والمخاوف آمنة، تسير القوافل من ما وراء النهر إلى أقصى الشام وليس معها خفير، ويسافر الواحد والإثنان من غير خوف ولا رهب.

وحكى محمد بن عبد الملك الهمذاني في تاريخه أن السلطان ملكشاه المذكور توجه لحرب أخيه تكش فاجتاز بمشهد علي بن موسى الرضا رضي الله عنهما بطوس ودخل مع نظام الملك الوزير وصليا فيه وأطالا الدعاء، ثم قال لنظام الملك: بأي شيء دعوت؟ قال: دعوت الله تعالى أن ينصرك ويظفرك بأخيك، فقال: أما أنا فلم أدع بهذا بل قلت: اللهم انصر أصلحنا للمسليمن وأنفعنا للرعية.

ثم قال الهمذاني أيضاً عقيب هذا: وحكي أن واعظاً دخل عليه ووعظه، فكان من جملة ما حكى له أن بعض الأكاسرة اجتاز منفرداً عن عسكره على باب بستان، فتقدم إلى الباب وطلب ماء يشربه، فأخرجت له صبية إناء فيه ماء السكر والثلج، فشربه واستطابه، فقال لها: هذا كيف يعمل؟ فقالت: إن قصب السكر يزكو عندنا حتى نعصره بأيدينا، فيخرج منه هذا الماء، فقال: ارجعي وأحضري شيئاً آخر، وكانت الصبية غير عارفة به، ففعلت، فقال في نفسه: الصواب أن أعوضهم عن هذا المكان وأصطفيه لنفسي، فما كان بأسرع من خروجها باكية، وقالت: إن نية سلطاننا قد تغيرت، فقال: ومن أين علمت ذلك؟ قالت: كنت آخذ من هذا ما أريد من غير تعسف، والآن فقد اجتهدت في عصر القصب فلم يسمح ببعض ما كان يأتي، فعلم صدقها، فرجع عن تلك النية، ثم قال لها: ارجعي الآن فأنك تبلغين الغرض، وعقد على نفسه أن لا يفعل ما نواه، فخرجت الصبية ومعها ما شاءت من ماء السكر وهي مستبشرة. فقال السلطان للواعظ: فلم لا تذكر للرعية أن كسرى اجتاز على بستان فقال للناطور: ناولني عتقوداً من الحصرم، فقال له: ما يمكنني ذلك، فإن السلطان لم يأخذ حقه ولا تجوز لي خيانته، فعجب الحاضرون من مقابلته الحكاية بمثلها، ومعارضته بما أوجب الحق له ما أوجب الحق عليه.

وحكى الهمذاني أيضاً أن سوادياً لقيه وهو يبكي، فسأله السلطان عن سبب بكائه، فقال: ابتعت بطيخاً بدريهمات لا أملك غيرها، فلقيني ثلاثة أغلمة أتراك فأخذوه مني، وما لي حيلة سواه، فقال: أمسك، واستدعى فراشاً وكان ذلك عند باكورة البطيخ، وقال له: إن نفسي قد تاقت إلى البطيخ، فطف في العسكر وانظر من عنه شيء فأحضره، فعاد ومعه بطيخ، فقال: عند من رأيته؟ قال: عند الأمير فلان، فأحضره وقال: من أين لك هذا البطيخ؟ فقال: جاء به الغلمان، فقال: أريدهم الساعة، فمضى وقد عرف نية السلطان فيهم، فهربهم وعاد فقال: لم أجدهم فالتفت إلى السوادي وقال: هذا مملوكي وقد وهبته لك حين لم يحضر القوم الذين أخذوا متاعك، والله لئن خليته لأضربن عنقك، فأخذه السوادي بيده، وأخرجه من بين يدي السلطان فاشترى المير نفسة بثلاثمائة دينار، وعاد السوادي وقال: يا سلطان، قد بعث المملوك بثلثمائة دينار فقال: أو قد رضيت؟ قال: نعم، قال: امض مصاحباً.

وكانت البركة والثمن مقرونين بناصيته، فكان إذا يدخل أصبهان أو بغداد أو أي بلد من البلاد كان، دخل معه عدد لا يحصى لكثرته فيرخص السعر وتنحط أثمان الأشِياء عما كانت عليه قبله، ويكتسب المتعيشون مع عسكره الكسب الكثير.

وحكى الهمذاني أيضاً أنه أحضرت إليه مغنية وهو بالري، فأعجب بها واستطاب غناءها، فهم بها فقالت: يا سلطان، إني أغار على هذا الوجه الجميل أن يعذب بالنار، وإن الحلال أيسر، وبينه وبين الحرام كلمة، فقال: صدقت، واستدعى القاضي فتزوجها منه وابتنى بها، وتوفي عنها.

وقال صاحب الندول المنقطعة: ومن جملة ما سعى تاج الملك في نظام الملك الوزير أن قال للسلطان: إنه ينفق في كل سنة على أرباب المدارس والرباطات ثلثمائة ألف دينار، ولو جيش بها جيشاً لبلغ باب القسطنطينية، فاستحضر الناظم واستفسره على الحال، فقال: يا سلطان العالم إني أنا رجل شيخ، ولو ندوي علي لما زادت قيميتي على ثلاثة دنانير، وأنت حدث لو نودي عليك ما زادت قيمتك على ثلاثين ديناراً، وقد أعطاك الله تعالى وأعطاني بك ما لم يعطه أحداً من خلقه، أفلا نعوضه عن ذلك في حملة دينه وحفظة كتابه ثلاثمائة ألف دينار؟ ثم إنك تنفق على الجيوش المحاربة في كل سنة ستة أضعاف هذا المال، مع أن أقواهم وأرماهم لا تبلغ رميته ميلاً ولا يضرب بسيفه إلا ما قرب منه، وأنا أجيش لك بهذا المال جيشاً تصل من الدعاء سهامه إلى العرض لا يحجبها شيء عن الله تعالى، فبكى السلطان وقال: يا أبت استكثر من الجيش، والأموال مبذولة لك، والدنيا بين يديك.

وعيون محاسنه أكثر من أن تحصى.

وحكى الهمذاني أيضاً أن ناظم الملك الوزير وقع للملاحين الذين عبروا بالسطان والعسكر نهر جيحون على العامل بأنطاكية، وذلك لسعة المملكة، وكان مبلغ أجره المعابر أحد عشر ألف دينار.

وتزوج الإمام المقتدي بأمر الله أمير المؤمنين ابنة السلطان، وكات السفير في الخطبة الشيخ أبا إسحاق الشيرازي صاحب المهذب والتنبيه رحمه الله تعالى، وأنقذه الخليفة إلى نيسابور لهذا السبب، فإن السلطان كان هناك، فلما وصل إلى بغداد في أقل من أربعة أشهر، وناظر إمام الحرمين هناك، فلما أراد الإنصراف من نيسابور خرج إمام الحرمين للوداع، وأخذ بركابه حتى ركب أبو إسحاق، وظهر له في خراسان منزلة عظيمة وكانوا يأخذون التراب الذي وطئته بغلته فيتبركون به.

وكان زفاف ابنة السلطان إلى الخليفة في سنة ثمانين وأربعمائة، وفي صبيحة دخولها عليه أحضر الخليفة المقتدي عسكر السلطان على سماط صنعه لهم كان فيه أربعون ألف مناً سكراً، وفي بقية هذه السنة في ذي القعدة منها رزق الخليفة ولداً من ابنة السلطان سماه أبا الفضل جعفراً، وزينت بغداد لأجله.

وكان السلطان قد دخل إلى بغداد دفعتين، وهي من جملة بلاده التي تحتوي عليها مملكته، وليس للخليفة فيها سوى الاسم، فلما عاد إليها الدفعة الثالثة دخلها في أوائل شوال سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وخرج من فوره إلى ناحية دجيل لأجل الصيد، فاصطاد وحشاَ وأكل من لحمه، فابتدأت به العلة، وافتصد، فلم يكثر من إخراج الدم، فعاد إلى بغداد مريضاً، ولم يصل إليه أحد من خاصته، فلما دخلها توفي ثاني يوم دخوله، وهو السادس عشر من شوال سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وكانت ولادته في التاسع من جمادى الأولى سنة سبع وأربعين وأربعمائة، رحمه الله تعالى، وقيل إنه سم في خلال تخلل به، وحمل تاوبته إلى أصبهان ودفن بها في مدرسة عظيمة موقوفة على طائفة للشافعية والحنفية، ولم يشهد أحد جنازته ببغداد ولا صلي عليه في الصورة الظاهرة ولا جلسوا للعزاء، ولا حذف عليه ذنب فرس كعادة أمثاله، بل كأنه اختلس من العالم.

ومن عجيب الاتفاق أنه لما دخل بغدا في هذه المرة، وكان للخليفة المقتدي ولدان أحدهما الإمام المستظهر بالله والآخر أبو الفضل جعفر ابن بنت السلطان وقد تقدم ذكر ولادته، وكان الخليفة قد بايع لولده المستظهر بالله بولاية العهد من بعده لأنه كان الأكبر، فألزم السلطان الخليفة أن يخلعه إلى البصرة، فشق ذلك علي الخليفة، وبالغ في استنزال السلطان عن هذه الرأي، فلم يفعل، فسأل المهلة عشرة أيام ليتجهز فأمهله، فقيل إن الخليفة في تلك الأيام جعل يصوم ويطوي وإذا أفطر جلس على الرماد للإفطار، وهو يدعو الله سبحانه وتعالى على السلطان، فمرض السلطان في تلك الأيام ومات، وكفي الخليفة أمره، وتزوج ابنة الإمام المستظهر بالله ابنة السلطان خاتون العصمة في سنة اثنتين وخمسمائة.

وقد تقدم ذكر أولاده الثلاثة الملوك، وهم بركياروق وسنجر محمد، كل واحد له ترجمة في حرفه، رحمهم الله تعالى أجمعين.

وكاشغر: بفتح الكاف وبعد الألف شين معجمة ساكنة وغين معجمة مفتوحة وبعدها راء، وقد ذكرت أين هي فلا حاجة إلى الإعادة، وهي قصبة بلاد تركستان.

والواقصة: بفتح الواو وبعد الألف قاف مكسورة وبعدها صاد مهملة مفتوحة ثم هاء ساكنة، وهي منزل معروف بطريق مكة يقال لها واقصة الحرون.

والباقي معروف فلا حاجة إلى تفسيره، والله أعلم بالصواب.