الحاكم العبيدي

أبو علي المنصور الملقب الحاكم بأمر الله بن العزيز بن المعز بن المنصور بن القائم ابن المهدي صاحب مصر وقد تقدم ذكر أجداده وجماعة من أحفاده، وسيأتي ذكر أبيه في حرف النون إنشاء الله تعالى وكلهم كانوا يتسمون بالخلفاء.

وتولى الحاكم المذكور عهد أبيه في حياته، وذلك في شعبان سنة ثلاث وثمانين وثلثمائة، ثم استقل بالأمر يوم وفاة والده على ما سيأتي في تاريخه إن شاء الله تعالى؛ وكان جواداً بالمال سفاكاً للدماء، قتل عدداً كثيراً من أمائل أهل دولته وغيرهم صبراً.

وكانت سيرته من أعجب السير، يخترع كل وقت أحكاماً يحمل الناس على العمل بها، منها أنه أمر الناس في سنة خمس وتسعين وثلثمائة بكتب سب الصحابة رضوان الله عليهم في حيطان المساجد والقياسر والشوارع، وكتب إلى سائر عمال الديار المصرية يأمرهم بالسب، ثم أمر بقطع ذلك ونهى عنه وعن فعله في سنة سبع وتسعين، ثم تقدم بعد ذلك بمدة يسيرة بضرب من يسب الصحابة وتأديبه ثم يشهره؛ ومنها أنه أمر بقتل الكلاب في سنة خمسة وتسعين وثلثمائة فلم ير كلب في الأسواق والأزقة والشوارع إلا قتل؛ ومنها أنه نهى عن بيع الفقاع والملوخيا وكبب الترمس المتخذة لها والجرجير والسمكة التي لا قشر لها، وأمر بالتشديد في ذلك والمبالغة في تأديب من يعترض لشيء منه، فظهر على جماعة أنهم باعوا أشياء منه، فضربوا بالسياط وطيف بهم، ثم ضربت أعناقهم، ومنها أنه في سنة اثنتين وأربعمائة نهى عن بيع الزبيب قليلة وكثيرة على اختلاف أنواعه، ونهى التجار عن حمله إلى مصر، ثم جمع بعد ذلك منه جملة كثيرة وأحرق جميعها، ويقال إن مقدار النفقة التي غرموها على إحراقه كانت خمسمائة دينار، وفي هذه السنة منع من بيع العنب وأنفذ الشهود إلى الجيزة حتى قطعوا كثيراً من كرومها ورموها في الأرض وداسوها بالبقر، وجمع ما كان في مخازنها من جرار العسل فكانت خمس آلاف جرة، وحملت إلى شاطىء النيل وكسرت وقلبت في بحر النيل؛ وفي هذه السنة أمر النصاري واليهود إلا الخيابرة يلبس العمائم السود، وأن يعمل النصارىفي أعناقهم الصلبان ما يكون طوله ذراعاً ووزنه خمسة أرطال.وأن تحمل اليهود في أعناقهم قرامي الخشن على وزن صلبان النصارى، ولا يركبوا شيئاً من المراكب المحلاة، وأن تكون ركبهم من الخشب، ولا يستخدمون أحداً من المسلمين، ولا يركبون حماراً لمكار مسلم ولا سفينة نوتيها مسلم، وأن يكون في أعناق النصاري إذا دخلوا الحمام الصلبان، وفي أعناق اليهود الجلاجل ليتميزوا عن المسلمين، ثم أفرد حمامات اليهود والنصارى والمسلمين وحط على حمامات النصارى الصلبان، وعلى حمامات الهود القرامي، وذلك في سنة ثمان وأربعمائة. وفيها أمر بهدم الكنيسة المعروفة بقمامة وجميع الكنائس بالديار المصرية، ووهب جميع ما فيها من الآلات وجميع ما لها من الأرباع والأحباس لجماعة من المسلمين، وتتابع إسلام جماعة من النصارى؛ وفي هذه السنة نهى عن تقبيل الأرض له وعن الدعاء له والصلاة عليه في الخطب والمكتبات، وأن يجعل عوض ذلك السلام على أمير المؤمنين. وفي سنة أربع وأربعمائة أمر أن لا ينجم أحد ولا يتكلم عن صناعة النجوم، وأن ينفي المنجمون من البلاد، فحضر جميعهم إلى القاضي مالك بن سعيد الحاكم بمصر كان وعقد عليهم توبة، وأعفو من النفي وكذلك أصحاب الغناء. وفي شعبان من هذه السنة منع النساء من الخرزج إلى الطرقات ليلاً ونهاراً، ومنع الأساكفة من عمل الخفاف للنساء، ومحيت صورهن من الحمامات، ولم تزل النساء ممنوعات عن الخروج إلى أيام ولده الظاهر المقدم ذكره، وكانت مدة منعهن سبع سنين وسبعة أشهر، وفي شعبان سنة إحدى عشرة وأربعمائة تنصر جماعة ممن كان أسلم من النصارى، وأمر ببناء ما كان قد هدم من كنائسهم ورد ماكان في أحباسها، وبالجملة فهذه نبذة من أحواله، وإن كان شرحها يطول.

وكان أبو الحسن علي المعروف بابن يونس المنجم قد صنع له الزيج المشهور المعروف بالحاكمي، وهو زيج كبير مبسوط.

ونقلت من خط الحافظ أبي أحمد بن محمد السلفي، رحمه الله تعالى، أن الحاكم المذكور كان جالساً في مجلسه العام وهو حفل بأعيان دولته، فقرأبعض الحاضرين قوله تعالى" فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدون فيأنفسهم حرجا مماقضيت ويسلموا تسليما) "النساء:65 والقارىء في أثناء ذلك يشير إلى الحاكم، فلما فرغ من القراءة قرأ شخص آخر يعرف بابن المشجر وكان رجلاً صالحاً "يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له، إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه، ضعف الطالب والمطلوب، ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز" الحج:73 فلما أنهى قراءته تغير وجه الحاكم، ثم أمر لابن المشجر المذكور بمائة دينار، ولم يطلق للآخر شيئاً؛ ثم إن بعض أصحاب المشجر قال له: أنت تعرف خلق الحاكم، وكثرة استحالاته، وما نأمن أن يحقد عليك، وأنه لا يؤاخذك في هذا الوقت ثم يؤاخذك بعد هذا فتتأذى معه، ومن المصلحة عندي أن تغيب عنه، فتجهز ابن المشجرللحج، وركب في البحر فغرق، فرآه صاحبه في النوم، فسأله عن حاله، فقال: ما أقصر الربان معنا أرسى بنا على باب الجنة، رحمه الله تعالى؛ وذلك ببركة جميل نيته وحسن قصده.

ومن أخبار المستطرفة التي تدخل في أبواب الفرج بعد الشدة ما حدث به الرؤساء أن ولي الدولة ابن خيران استحضره الحاكم ذات يوم وقال له: يا ولي الدولة، إني أريد أن أزوج مملوكي فلاناً على جاريتي فلانة بعد عتقهما وكذلك آخر لأخرى فخذ هاتين الشقتين واخطب فيهما خطبتين حسنتين وانسق الصداق والمهر بعد ذلك ما تقتضيه صانعة الوراق، وبكر إلينا من الفجر ولا تتأخر. فقبل ذلك من الحاكم بالسمع والطاعة وانصرف، ووصل إلى داره بمصر وأسهر نفسه واستنتج قريحته وجود فكرته وعمل ما أشار له في الكتابين ولم يزل في السهر إلى وقت السحر، فاستحثه الرسل فقام ليتوضأ ويتهيأ إليه فعثرت رجله في المحبرة فتطرطش الكتابين، فلطم وجهه ووقع مغشياً عليه وانقبض أهله، وعلم أنه مقتول، فوصى أهله الوصية التامة وركب وأخذ الكتابين في كمه مطويين، ولم يزل إلى أن دخل من باب القاهرة ووصل إلى القصر مغلساً، والرسل والحجاب منتظرون قدومه، وحين وصل أذن له في الدخول، فوجد الحاكم في الإيوان الكبير جالساً على سرير، وبين يديه طشطان وعليهما قوارتان، فلما رأى الحاكم قبل الأرض ووقف صامتاً فقال له: يا ولي الدولة اكشف هذين الطشطين، فكشف عنهما فإذا في كل منهما رأس رجل ورأس امرأة، فقال: هؤلاء اطلعنا منهم على قضية منحوسة وفساد لا ينبغي الصبر، عليه ففعلنا بهم ما فعلناه، وتلك الثوبان خذهما فصلهما لأهلك، امض لشأنك، فخرج من بين يديه مغشياً عليه، فأقام في الديوان إلى أن سكنت نفسه وهدأ روعه، وكتب إلى أهله رقعة يأمرهم فيها بالسكون والسكوت إلى أن يجتمع بهم.

والحاكم المذكور هو الذي بنى الجامع الكبير بالقاهرة، بعد أن كان قد شرع فيه والده العزيز بالله كما سيأتي ذكره في ترجمته إن شاء الله تعالى وأكمله وأبده، وبنى جامع راشدة بظاهر مصر، وكان شروعه في عمارته يوم الاثنين سابع عشر شهر ربيع الأول سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة، وكان متولي بنائه الحافظ أبا محمد عبد الغني بن سعيد، والمصحح لمحرابه أبا الحسن علي بن يونس المنجم، وقد تقدم ذكرهما، وأنشأ عدة مساجد بالقرافة وغيرها، وحمل إلى الجوامع من المصاحف والآلات الفضية والستور والحصر السامان ما له قيمة طائلة.

وكان يفعل الشيء وينقضه.

وخرج عليه في سنة خمس وتسعين وثلثمائة أبو ركوة الوليد بن هشام العثماني الأندلسي، وكان خروجه في نواحي برقة، ومال إليه خلق عظيم، وسير إليه الحاكم المذكور جيشاً كبيراً وانتصر عليهم وملك، ثم تكاثروا عليه وأمسكوه، ويقال إنه قتل من أصحابه مقدار سبعين ألفاً، وكان قبضهم إياه في سنة سبع وتسعين، وحمل إلى الحاكم فشهره وقتله، يوم الأحد السابع والعشرين من جمادى الآخرة من السنة، وحديثه مستوفى في تاريخ ابن الصابي.

وكانت ولادته بالقاهرة ليلة الخميس الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول سنة خمس وسبعين وثلثمائة.

وكانت يحب الانفراد والركوب على بهيمة وحده، فاتفق أنه خرج ليلة الاثنين السابع والعشرين من شوال سنة إحدى عشرة وأربعمائة إلى ظاهر مصر، وطاف ليلته كلها وأصبح عند قبر الفقاعي، ثم توجه إلى شرقي حلوان ومعه ركابيان، فأعاد أحدهما مع تسعة من العرب السويدين، ثم أعاد الركابي الآخر، وذكر هذا الركابي أنه خلفه عند القبر والمقصبة، وبقي الناس على رسمهم يخرجون يلتمسون رجوعه ومعهم دواب الموكب إلى يوم الخميس سلخ الشهر المذكور،ثم خرج يوم الأحد ثاني ذي القعدة مظفر صاحب المظلة وخطي الصقلبي ونسيم متولي الستر وابن بشتكين التركي صاحب الرمح وجماعة من الأولياء الكتاميين والأتراك، فبلغوا دير القصير والموضع المعروف بسلوان، ثم أمعنوا في الدخول في الجبل فبينما هم كذلك إذ أبصروا حماره الأشهب الذي كان راكباً عليه المدعو بالقمر، وهو على قرنة الجبل، وقد ضربت يداه بسيف فأثر فيهما، وعليه سرجه ولجامه، فتتبعوا الأثر فإذا أثر الحمار في الأرض وأثر راجل خلفه وراجل قدامه، فلم يزالوا يقصون هذا الأُثر حتى انتهوا إلى البركة التي في شرقي حلوان، فنزل إليها بعض الرجالة فوجد فيها ثيابه، وهي سبع جباب، ووجدت مزررة لم تحل أزرارها، وفيها آثار السكاكين فأخذت وحملت إلى القصر بالقاهرة، ولم يشك في قتله، مع أن جماعة من المغالين في حبهم السخيفي العقول يظنون حياته، وأنه لا بد أن سيظهر، ويحلفون بغيبة الحاكم وتلك خيالات هذيانية، ويقال إن أخته دست عليه من يقتله لأمر يطول شرحه، والله أعلم.

وابن المشجر: بضم الميم وفتح الشين المعجمة والجيم المشددة وبعدها راء.

وحلوان: بضم الحاء المهملة وسكون الميم وفتح الواو وبعد الألف نون، وهي قرية مليحة كثيرة النزه فوق مصر بمقدار خمسة أميال، كان يسكنها عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي لما كان والياً بمصر نيابة عن أخيه عبد الملك أيام خلافته، وبها توفي، وبها ولد ولده عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه.