الملك الأشرف موسى الأيوبي

أبو الفتح موسى ابن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب، الملقب الملك الأشرف مظفر الدين؛ أول شيء ملكه من البلاد مدينة الرها، سيره إليها والده من الديار المصرية في سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، ثم أضيفت إليه حران. وكان محبوباً إلى الناس مسعوداً مؤيداً في الحروب من يومه، لقي نور الدين أرسلان شاه صاحب الموصل - المذكور في حرف الهمزة - وكان يوم ذاك من الملوك المشاهير الكبار، وتواقعا في مصاف فكسره، وذلك في سنة ستمائة يوم السبت تاسع عشر شوال بموضع يقال له بين النهرين من أعمال الموصل وهي وقعة مشهورة فلا حاجة إلى تفصيلها؛ ولما توفي أخوه عبد الملك الأوحد نجم الدين أيوب صاحب خلاط وميافارقين وتلك النواحي، أخذ الملك الأشرف مملكته مضافة إلى ملكه، وتوفي الملك في شهر ربيع الأول سنة تسع وستمائة وكانت وفاته بملازكرد من أعمال خلاط ودفن بها، وكان الملك الأوحد قد ملك خلاط في سنة أربع وستمائة.

فاتسعت حينئذ مملكته وبسط العدل على الناس وأحسن إليهم إحسانا لم يعهدوه ممن كان قبله، وعظم وقعه في قلوب الناس، وبعد صيته، وكان قد ملك نصيبين الشرق في سنة ست وستمائة، وأخذ سنجار سنة سبع عشرة في رابع جمادى الأولى، ورأيت في موضع آخر أنه أخذها في مستهل صفر من السنة، والله أعلم، كذلك الخابور، وملك معظم بلاد الجزيرة، وكان يتنقل فيها، وأكثر إقامته بالرقة لكونها على الفرات.

ولما مات ابن عمه الملك الظاهر غازي صاحب حلب - في التاريخ المذكور في ترجمته في حرف الغين - عزم عز الدين كيكاوس بن غياث الدين كيسخرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان صاحب الروم على قصد حلب فسير أرباب الأمر بحلب إلى الملك الأشرف وسألوه الوصول إليهم لحفظ البلد، فأجابهم إلى شؤالهم وتوجه إليهم وأقام بالياروقية بظاهر حلب مدة ثلاث سنين، وجرت له مع صاحب الروم وابن عمه الملك الأفضل بن صلاح صاحب سمسياط وقائع مشهورة لا حاجة إلى الإطالة في شرحها.

ولما أخذت الفرنج دمياط في سنة ست عشرة وستمائة - حسبما شرحناه في ترجمة الملك الكامل - توجهت جماعة من ملوك الشام إلى الديار المصرية، لإنجاد الملك الكامل، وتأخر عنه الملك الأشرف لمنافرة كانت بينهما، فجاءه أخوه الملك العظيم - المقدم ذكره في حرف العين - بنفسه، وأرضاه، ولم يزل بلاطفه حتى استصبحه معه، فصادف عقيب وصوله إليها بأشهر - كما ذكرناه في ترجمة الكامل محمد - انتصار المسلمين على الفرنج وانتزاع دمياط من أيديهم، وكانوا يرون ذلك بسب يمن غرته. وكان وصوله إليها في المحرم سنة ثماني عشرة وستمائة، واستناب أخاه الملك المظفر شهاب الدبن غازي ابن الملك العادل في خلاط، فعصى عليه، فقصده في عساكره وأخذها منه يوم الاثنين ثاني عشر جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين وستمائة.

ولما مات الملك المعظم - في التاريخ المذكور في ترجمته - قام بالأمر من بعده ولده الملك الناصر صلاح الدين داود، فقصده عمه الملك الكامل من الديار المصرية ليأخذ دمشق منه، فاستنجد بعمه الملاك الأشرف، وكان يومئذ ببلاد الشرق، فوصل إليه، واجتمع به في دمشق، ثم خرج منها متوجهاً إلى أخيه الملك الكامل، واجتمع به وجرى الاتفاق بينهما على أخذ دمشق من الملك الناصر وتسليمها إلى الملك الأشرف، ويبقى للملك الناصر الكرك والشوبك ونابلس وبيسان وتلك النواحي، وينزل الملك الأشرف عن حران والرها وسروج والرقة ورأس عين، ويسلمها إلى الملك الكامل، فاستتب الحال على ذلك. وتسلم الملك الكامل دمشق لاستقبال شعبان من السنة بنوابه، ورحل الناصر إلى بلاده التي عليه يوم الجمعة ثاني عشر شعبان، ثم دخل الملك الكامل إلى دمشق في سادس عشر الشهر المذكور وعاد وخرج إلى مكانه الذي كان فيه، ثم دخل هو الأشرف إلى القلعة في ثامن عشر شعبان ثم سلمها إلى أخيه الملك الأشرف على ما تقرر بينهما، في أواخر شعبان من سنة ست وعشرين وستمائة، وانتقل الملك الكامل إلى بلاده التي تسلمها بالشرق، ليكشف أحوالها ويرتب أمورها، واجتزت في التاريخ المذكور بحران وهو بها.

وانتقل الأشرف إلى دمشق واتخذها دار إقامة وأعرض عن بقية البلاد، ونزل جلال الدين خوارزم شاه على خلاط وحاصرها وضايقها أشد مضايقة، وأخذها في جمادى الآخرة من سنة ست وعشرين من نواب الملك الأشرف، وهو مقيم بدمشق، ولم يمكنه في ذلك الوقت قصدها للدفع عنها لأعذار كانت له. ثم عقيب ذلك دخل إلى بلاد الروم باتفاق مع سلطانها علاء الدين كيقباذ أخي عز الدين كيكاوس المذكور، وتعاقد على قصد خوارزم شاه، وضرب المصاف معه، فإن صاحب الروم أيضاً كان يخاف على بلاده منه. لكونه مجاوره، فتوجها نحوه في جيش عظيم من جهة الشام والشرق في خدمة الملك الأشرف، وعسكر صاحب الروم، والتقوا بين خلاط وأرزنكان، بموضع يقال له: يا للرحمان في يوم الجمعة ثاني عشر رمضان سنة سبع وعشرين وستمائة، وانكسر خوارزم شاه، وهي واقعة مشهورة، وعادت خلاط إلى الملك الأشرف وقد خربت.

ثم رجع إلى الشام وتوجه إلى الديار المصرية، وأقام عند أخيه الملك الكامل مدة، ثم خرج في خدمته قاصدين آمد، ونزلوا عليها وفتحوها في مدة يسيرة وذلك في سنة تسع وعشرين وستمائة، وأضافها الملك الكامل إلى ممالكها ببلاد الشرق، ورتب فيها ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب - المذكور في ترجمة والده - وفي خدمته الطواشي شمس الدين صواب الخادم العادلي، ثم عاد كل واحد إلى بلاده.

ثم كانت واقعة ببلاد الروم والدربندات في أواخر سنة إحدى وثلاثين وستمائة وهي مشهورة، ورجع الكامل والأشرف ومن معهما من الملوك بغير حصول مقصود، ولما رجعا خرج عسكر صاحب الروم على بلاد الكامل بالشرق فأخذها وأخربها، ثم عاد الكامل والأشرف وأتباعهما ومن معهما من الملوك إلى بلاد الشرق، واستنقذوها من نواب صاحب الروم. ثم رجعوا إلى دمشق في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وكنت يومئذ بدمشق، وفي تلك الواقعة رأيت الكامل والأشرف، وكانا يركبان معاً ويلعبان بالكرة في الميدان الأخضر الكبير كل يوم، وكان شهر رمضان، فكانا يقصدان بذلك تعبير النهار لأجل الصوم؛ ولقد كنت أرى من تأدب كل واحد منهما مع الآخر شيئاً كثيراً، ثم وقعت بينهما وحشة، وخرج الأشرف عن طاعة الكامل، ووافقته الملوك بأسرها، وتعاهد هو وصاحب الروم وصاحب حلب وصاحب حماة وصاحب حمص وأصحاب الشرق، على الخروج على الملك الكامل، ولم يبق مع الملك الكامل سوى ابن أخيه الملك الناصر صاحب الكرك، فإنه توجه إلى خدمته بالديار المصرية، فلما تحالفوا وتحزبوا واتفقوا وعزموا على الخروج على الملك الكامل، مرض الملك الأشرف مرضاً شديداً، وتوفي يوم الخميس رابع المحرم سنة خمس وثلاثين وستمائة بدمشق، ودفن بقلعتها ثم نقل إلى التربة التي أنشئت له بالكلاسة في الجانب الشمالي من جامع دمشق. وكان ولادته سنة ثمان وسبعين وخمسمائة بالديار المصرية بالقاهرة، وقيل بقلعة الكرك، رحمه الله تعالى. وقد ذكرت في ترجمة أخيه الملك المعظم عيسى ما ذكره سبط ابن الجوزي في مولدهما؛ وتوفي أخوه شهاب الدين غازي صاحب ميافارقين في رجب سنة خمس وأربعين وستمائة بميافارقين.

هذه خلاصة أحواله؛ وكان سلطاناً كريماً حليماً واسع الصدر كريم الأخلاق كثير العطاء، لا يوجد في خزانته شيء من المال مع إتساع مملكته، ولا تزال عليه الديون للتجار وغيرهم. ولقد رأى يوماً في دواة كاتبه وشاعره الكمال أبي الحسن علي بن محمد المعروف بابن النبيه المصري قلماً واحداً، فأنكر عليه ذلك، فأنشده في الحال دوبيت:

قال الملك الأشرف قولاً رشدا

 

أقلامك يا كمال قلت عـددا

جاوبت لعظم كتب ما تطلقـه

 

تحفى فتقط فهي تفنى أبـدا

 

ويقال إنه طرب ليلة في مجلس أنسه على بعض الملاهي، فقال لصاحب الملهى: تمن علي، فقال: تمنيت مدينة خلاط، فأعطاها له، وكان نائبه بها الأمين حسام الدين المعروف بالحاجب علي بن حماد الموصلي، فتوجه ذلك الشخص إليه ليتسلمها منه، فعوضه الحاجب عنها جملة كثيرة من المال وصالحه عنها، وكان له في ذلك غرائب.


وكان يميل إلى أهل الخير والصلاح ويحسن الاعتقاد فيهم، وبنى بدمشق دار حديث، فوض تدريسها إلى الشيخ تقي الدين عثمان المعروف بابن الصلاح، المقدم ذكره.


وكان بالعقيبة ظاهر دمشق خان يعرف بابن الزنجاري، قد أجمع أنواع أسباب الملاذ، ويجري فيه من الفسوق والفجور ما لايحد ولا يوصف، فقيل له عنه: إن مثل هذا لايليق أن يكون في بلاد المسلمين، فهدمه وعمره جامعاً غرم عليه جملة مستكثرة، وسماه الناس جامع التوبة كأنه تاب إلى الله تعالى وأناب مما كان فيه. وجرت في خطابته نكتة لطيفة، أحببت ذكرها، وهي: أنه كان بمدرسة ست الشام التي خارج البلد، إمام يعرف بالجمال السبتي، أعرفه شيخاً حسناً، ويقال كان في صباه بشيء من الملاهي، وهي التي تسمى الجغانة، ولما كبر حسنت طريقته وعاشر العلماء وأهل الصلاح، حتى صار معدوداً في الأخيار، فلما احتاج الجامع المذكور إلى خطيب ذكر للملك الأشرف جماعة، وشكر الجمال المذكور، فتولى خطابته، فلما توفي تولى موضعه العماد الواسطي الواعظ، وكان يتهم باستعمال الشراب، وكان صاحب دمشق يومئذ الصالح عماد الدين إسماعيل بن الملك العادل بن أيوب، فكتب إليه الجمال عبد الرحيم المعروف بابن زويتينة الرحبي أبياتاً، وهي:

يا مليكاً أوضح الحق لدينا وأبانه

 

جامع التوبة قد قلدني منه أمانه

 

قال قل للملك الصا

 

لح أعـلـى الـلـه شـانــه

يا عـمـاد الــدين يامـــن

 

حمـدالـنـاس زمــانـــه

كم إلـى كـم أنـا فـي ضـر

 

وبــؤس وإهـــانـــه؟

لي خـطـيب واســطـــي

 

يعـشـق الـشـرب ديانــه

والـذي قـد كـان مـن قـب

 

ل يغـنـي بـجـغـانـــه

فكما نحن فما زلن

 

ا وما نبرح حانه

ردني للنمـط الأو

 

ل واستبق ضمانه

وهذه الأبيات في بابها في غاية الظرف، وكان ابن زويتينة المذكور قد وصل إلى الديار المصرية في رسالة من عند صاحب حمص، وأنشدني هذه الأبيات وحكى السبب الحامل عليها، وذلك في بعض شهور سنة سبع وأربعين وستمائة. ومدح الملك الأشرف أعيان شعراء عصره، وخلدوا مدائحه في دواوينهم فمنهم: شرف الديم محمد بن عنين وقد سبق ذكره.

والبهاء أسعد السنجاري وقد سبق ذكره أيضاً.

والشرف راجح الحلي وقد ذكرته في ترجمة الملك الظاهر.

والكمال ابن النبيه المذكرو وكانت وفاته سنة تسع عشرة وستمائة، بمدينة نصيبين الشرق، وعمره تقديراً مقدار ستين سنة كذا أخبرني صهره بالقاهرة.

والمهذب محمد بن أبي الحسين بن يمن بن علي بن أحمد بن محمد بن عثمان ابن عبد الحميد الأنصاري، المعروف بابن الأردخل الموصلي الشاعر المشهور، ومولده سنة سبع وسبعين وخمسمائة بالموصل، وتوفي في شهر رمضان، سنة ثمان وعشرين وستمائة بميافارقين، رحمه الله تعالى.

وغير هؤلاء خلق كثير، والله أعلم بالصواب.