موسى بن عبد الملك الأصبهاني

أبو عمران موسى بن عبد الملك بن هشام الأصبهاني صاحب ديوان الخراج؛ كان من جلة الرؤساء، وفضلاء الكتاب وأعيانهم، تنقل في الخدم في أيام جماعة من الخلفاء. وكان إليه ديوان السواد وغيره في أيام المتوكل، وكان مترسلاً، وله ديوان رسائل. وقد سبق طرف من خبره مع أبي العيناء في ترجمته، وما دار بينهما من المحاورة في قضية نجاح بن سلمة. وله شعر رقيق حسن فمن ذلك قوله:

ولما وردنا القادسية حيث مجتمع الرفاق

 

وشممت من أرض الحجا

 

ز نـسـيم أنـفـاس الــعـــراق

أيقنت لي ولمن أحب بجمع شمل واتفاق

 

 

وضحكت من فرح اللقا

 

ء كـمـا بـكـيت مـن الـفــراق

لم يبـق لـي إلا تـــجـــشـــم

 

هذه الـسـبـع الــطـــبـــاق

حتـى يطــول حـــديثـــنـــا

 

بصـفـات مـا كـنـا نــلاقـــي

 

يروى: لما وردنا الثعلبية، وكلتاهما من منازل الحاج على طريق العراق، والثعلبية منسوبة إلى ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، قاله ابن الكلبي في جمهرة النسب.


ولهذه الأبيات حكاية مستطرفة أحببت ذكرها هاهنا وقد سردها الحافظ أبو عبد الله الحميدي، في كتاب جذوة المقتبس، وغيره من أرباب تواريخ المغاربة، وهي أن أبا علي الحسن بن الأشكري المصري قال: كنت رجلاً من جلاس الأمير تميم بن أبي تميم، وممن يخفف عليه جداً - وهذا تميم هو أبو العز بن باديس المذكور في حرف التاء - قال: فأرسلني إلى بغداد، فاتبعت له جارية رائقة فائقةالغناء، فلما وصلت إليه دعا جلساءه، قال: وكنت فيهم، ثم مدت الستارة، وأمرها بالغناء فغنت:

وبدا له من بعد ما اندمل الهـوى

 

برق تألق موهناً لـمـعـانـه

يبدو كحاشـية الـرداء ودونـه

 

صعب الذرا متمنـع أركـانـه

فمضى لينظر كيف لاح فلم يطق

 

نظراً إليه وصـده سـجـانـه

فالنار ما اشتملت عليه ضلوعـه

 

والماء ما سمحت به أجفـانـه

 

وهذه الأبيات ذكرها صاحب الأغاني للشريف أبي عبد الله محمد بن صالح الحسني، قال ابن الأشكري: فأحسنت الجارية ما شاءت، فطرب الأمير تميم ومن حضر، ثم غنت:

سيسليك عما فات دولة مفضـل

 

أوائله محـمـودة وأواخـره

ثنى الله عطفيه وألف شخصـه

 

على البر مذ شدت عليه مآزره

 

قال: فطرب الأمير تميم ومن حضر طرباً شديداً، قال: ثم غنت:

أستودع الله في بغداد لي قمـراً

 

بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه

 

وهذا البيت لمحمد بن زريق الكاتب البغدادي، من جملة قصيدة طويلة.


قال الراوي: فاشتد طرب الأمير تميم وأفراط جداً، ثم قال لها: تمني ما شئت، فقال، أتمنى عافية الأمير وسلامته، فقال: والله لا بد أن تتمني، فقالت: على الوفاء أيها الأمير بما أتمنى؟ قال: نعم، فقالت:أتمنى أن أغني بهذه النوبة ببغدادفانتقع لون الأمير تميم وتغير وجهه وتكدر المجلس، وقام وقمنا.


 وقال ابن الأشكري: فلقيني بعض خدمه وقال لي: ارجع فالأمير يدعوك، فوجدته جالساً ينتظرني، فسلمت عليه وقمت بين يديه، فقال لي: ويحك، ورأيت ما امتحنا به؟ فقلت: نعم أيها الأمير، فقال: لا بد من الوفاء لها، ولا أثق في هذا بغيرك، فتأهب لتحملها إلى بغداد، فإذا غنت هناك فاصرفها، فقلت: سمعاً وطاعة.


قال: ثم قمت فتأهبت، وأمرها بالتأهب، وأصحبها جارية سوداء له تعادلها وتخدمها، وأمر بناقة ةمحمل، فأدخلت فيه، وجعلتها معي، وصرت إلى مكة مع القافلة وقضينا حجنا، ثم دخلت في قافلة العراق وسرنا، فلما وردنا القادسية أتتني السوداء، وقالت لي: تقول لك سيدتي: أين نحن؟ فقلت لها: نزول القادسية، فانصرفت إليها وأخبرتها، فلم أنشب أن سمعت صوتهاقد ارتفع بالغناء، وغنت الأبيات المذكورة، قال: فتصايح الناس من أقطار القافلة: وأعيدي بالله أعيدي قال: فما سمع لها كلمة. قال: ثم نزلنا الياسرية، وبينها وبين بغداد نحو خمسة أميال في بساتين متصلة، ينزل بها فيبيتون ليلتهم، ثم يبكرون لدخول بغداد. فلما كان وقت الصباح وإذا بالسوداء قد أتتني مذعورة، فقلت: مالك؟ قالت: إن سيدني ليست بحاضرة، فقلت: ويلك، وأين هي؟ قالت: والله ما أدري، قال: فلم أحس لها أثراً بعد ذلك، ودخلت بغداد وقضيت حوائجي منها، وانصرفت إلى الأمير تميم فأخبرته خبرها، فعظم ذلك عليه واغتم له غماً شديداً، ثم ما زال بعد ذلك ذاكراً لها واجماً عليها.


والقادسية: بفتح القاف وبعد الألف دال مهملة مكسورة وسين مكسورة أيضاً وبعدها ياء مثناة من تحتها مشدودة ثم هاء ساكنة، وهي قرية فوق الكوفة، وعندما كانت الوقعة المشهورة في زمن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه.


والياسرية: بفتح الياء المثناة من تحتها وبعد الألف سين مهملة مكسورة وراء مكسورة أيضاً وبعدها ياء مثناة من تحتها مشددة ثم هاء مشدودة ساكنة وقد ذكرنا أين هي، فلا حاجة إلى الإعادة.


وحكى إسحاق بن إبراهيم أخو زيد بن إبراهيم أنه كان يتقلد بلاد السيروان نيابة عن موسى بن عبد الملك المذكور، فاجتاز به إبراهيم بن العباس الصولي، - الشاعر المقدم ذكره - وهو يريد خراسان، والمأمون يوم ذاك بها، وقد بايع بالعهد علي بن موسى الرضا، وهي قضية مشهورة، وقد امتدحه إبراهيم المذكور بقصيدة ذكر فيها آل علي، وأنهم أحق بالخلافة من غيرهم. قال إسحاق بن إبراهيم المذكور: فاستحسنت القصيدة وسألت إبراهيم بن العباس أن ينسخها ففعل، ووهبته ألف درهم وحملته على دابة، وتوجه إلى خراسان. ثم تراخت الأيام إلى زمن المتوكل، فتولى إبراهيم المذكور موضع موسى بن عبد الملك المذكور، وكان يحب أن يكشف أسباب موسى، فعزلني وأمر أن تعمل مؤامرة، فعملت وحضرت للمناظرة عنها، فجعلت أحتج بما لايدفع فلا يقبله، ونحتكم إلى الكتاب فلا يلتفت إلى حكمهم، ويسمعني في خلال ذلك غليظ الكلام، إلى أن أوجب الكتاب اليمين على باب من الأبواب فحلفت، فقال: ليست يمين السلطان عندك يميناً لأنك رافضي، فقلت له: تأذن لي في الدنو منك؟ فأذن لي، فقلت له: ليس مع تعريضك بمهبجتي للقتل صبر، وهذا المتوكل إن كتبت إليه بما أسمعه منك لم آمنه على نفسي، وقد احتملت كل ما جرى سوى الرفض. والرافضي من زعم أن علي بن أبي طالب أفضل من العباس، وأن ولده أحق من ولد العباس بالخلافة. قال: ومن هو ذاك؟ قلت: أنت، وخطك عندي به. فأخبرته بالشعر الذي عنله في المأمون وذكر فيه علي بن موسى، فوالله ما هو إلا أن قلت له ذلك حتى سقط في يده ثم قال لي: أحضر الدفتر الذي بخطي، فقلت له: هيهات، لا والله أو توثق لي بما أسكن إليه أنك لا تطالبني بشيء مما جرى على يدي، وتخرق هذه المؤامرة ولا تنظر لي في حساب، فحلف لي على ذلك بما سكنت إليه وخرق العمل المعمول، فأحضرت له الدفتر فوضعه في خفه، وانصرفت وقد زالت عني المطالبة.


ولموسى المذكور أخبار كثيرة أضربت عن ذكرها طلباً للاختصار. وتوفي في شوال سنة ست وأربعين ومائتين، رحمه الله تعالى.
والسيروان: بكسر السين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الراء والواو وبعد الألف نون، وهي كورة ماسبذان من أعمال الجبل.


 وماسبذان: بفتح الميم وبعد الألف سين مهملة وباء موحدة وذال معجمة والجميع مفتوح وبعد الألف نون، وهي قرية كان يسكنها المهدي بن المنصور أبي جعفر، والد هارون الرشيد، وبها توفي، وفي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة الشاعر - المقدم ذكره:

وأكرم قبر بعد قبر مـحـمـد

 

نبي الهدى قبر بمـاسـبـذان

عجبت لأيد هالت الترب فوقـه

 

ضحى كيف لم ترجع بغير بنان

والسيروان: اسم لأربعة مواضع هذا أحدها.

وبلاد الجبل عبارة عن عراق العجم الفاصل بين عراق العرب وخراسان، وبلاده المشهورة: أصبهان وهمذان والري وزنجان.