نزار العبيدي

أبو المنصور نزار، الملقب العزيز بالله، ابن المعز بن منصور بن القائم بن المهدي سيدي، صاحب مصر وبلاد الغرب؛ قد تقدم ذكر والده وأجداده وولده وأحفاده. ولي العهد بمصر يوم الخميس رابع شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين وثلثمائة واستقل بالأمر بعد وفاة أبيه، وكان يوم الجمعة حادي عشر الشهر المذكور- وفيه الخلاف المذكور في ترجمته- وسترت وفاة أبيه وسلم عليه بالخلافة. وكان كريماً شجاعاً حسن العفو عند المقدرة، وقصته مع أفتكين التركي غلام معز الدولة مشهورة، وعفا عنه لما ظفر به، وكان قد غرم في محاربته مالاً جزيلاً، ولم يؤاخذه بما صدر منه،- وقد سبق في ترجمة عضد الدولة بن بويه المقدم ذكره في حرف الفاء طرف من خبره فلا حاجة إلى إعادته -وهي قضية تدل على حلمه وحسن عفوه.

وذكر الأمير المختار المعروف بالمسبحي أنه الذي اختلط أساس الجامع بالقاهرة مما يلي باب الفتوح، وحفر وبني، وبدئ بعمارته سنة ثمانين وثلثمائة في شهر رمضان. ثم قال المسبحي أيضاً: وفي أيامه بني قصر بالقاهرة الذي لم يبن مثله في شرق ولا غرب، وقصر الذهب وجامع القرافة والقصور بعين شمس. وكان أسمر أصهب الشعر أعين أشهل العين عريض المنكبين حسن الخلق قريباً من الناس لا يؤثر سفك الدماء، بصيراً بالخيل والجارح من الطير، محباً للصيد مغرى به وبصيد السباع ويعرف الجوهر والبز، وكان أديباً فاضلاً.

ذكره أبو منصور الثعالبي في كتاب "يتيمة الدهر" وأورد له شعراً قال في بعض الأعياد وقد وافق موت بعض أولاده وعقد عليه المآتم، وهو:

نحن بنو المصطفى ذوو محن

 

يجرعها في الحياة كاظمنـا

عجيبة في الأنام محنتنـا

 

أولنا مبتلى وخاتمـنـا

يفرح هذا الورى بعيدهم

 

طراً وأعيادنا مآتمـنـا

 

ثم قال بعد فصل طويل: وسمعت الشيخ أبا الطيب يحكي أن المرواني صاحب الأندلس كتب إليه نزار صاحب مصر كتاباً يسبه فيه ويهجوه، فكتب إليه "أما بعد، فإنك قد عرفتنا فهجوتنا ولو عرفناك لأجبناك، والسلام" فاشتد على نزار وأفحمه عن الجواب.


وذكر أبو الحسن الروحي في كتاب "تحفة الظرفاء في تاريخ الخلفاء" أن هذه الواقعة كانت بين الحكم المستنصر بالله بن عبد الرحمن الناصر لدين الله، وهو المرواني صاحب الأندلس وبين العزيز المذكور، وأن المستنصر كتب إلى العزيز يسبه ويهجوه، فكتب إليه العزيز هذه الكلمات والله أعلم بالصواب.


وقد تقدم في ترجمة جده المهدي عبيد الله طرف من أخبار نسبهم والطعن فيه، وأكثر أهل العلم بالنسب لا يصححونه، وقد تقدم في ترجمة الشريف أبي محمد عبد الله بن طباطبا ما دار بينه وبين المعز والد هذا العزيز في أمر النسب وما أجاب به المعز، وصار هذا كالمستفيض بين الناس. وفي مبادي ولاية العزيز المذكور صعد المنبر يوم الجمعة فوجد هناك ورقة فيها مكتوب:

إنا سمعنا نسبـاً مـنـكـراً

 

يتلى على المنبر في الجامع

إن كنت فيما تدعي صادقـاً

 

فاذكر أباً بعد الأب الرابـع

وإن ترد تحقيق ما قـلـتـه

 

فانسب لنا نفسك كالطـائع

أو لا دع الأنساب مستـورةً

 

وادخل بنا في النسب الواسع

فإن انساب بـنـي هـاشـم

 

يقصر عنها طمع الطامـع

 

وإنما قال: "فانسب لنا نفسك كالطائع" لأن هذه القضية جرت في خلافة الطائع لله خليفة بغداد.


وصعد العزيز يوماً آخر المنبر، فرأى ورقة فيها مكتوب:

بالظلم والجور قد رضينا

 

وليس بالكفر والحماقـه

إن كنت أعطيت علم غيبٍ

 

فقل لنا كاتب البطـاقـه

وإنما كتب هذا لأنهم كانوا يدعون علم المغيبات، وأخبارهم في ذلك مشهورة.

ولأبي الرقعمق أحمد بن محمد الأنطاكي- المقدم ذكره - قصيدة رائية يمدح بها العزيز المذكور، وهي من أجود مدائحه فيه.

وزادت مملكته على مملكة أبيه، وفتحت له حمص وحماة وشيزر وحلب، وخطب له أبو الدواد محمد بن المسيب وهو أخو المقلد بن المسيب العقيلي، صاحب الموصل بالموصل وأعمالها في المحرم سنة اثنتين وثمانين وثلثمائة، وضرب اسمه على السكة والبنود، وخطب له باليمن، ولم يزل في سلطانه وعظم شأنه إلى أن خرج إلى بلبيس متوجهاً إلى الشام، فابتدأت به العلة في العشر الأخير من رجب سنة ست وثمانين وثلثمائة، ولم يزل مرضه يزيد وينقص، حتى ركب يوم الأحد لخمس بقين من شهر رمضان من السنة المذكورة إلى الحمام بمدينة بلبيس، وخرج منها إلى منزل الأستاذ أبي الفتوح برجوان- المقدم ذكره - وكان صاحب خزائنه بالقصر، فأقام عنده، وأصبح يوم الاثنين، فاشتد به الوجع يومه ذلك وصبيحة نهاره الثلاثاء، وكان مرضه من حصاة وقولنج فاستدعى القاضي محمد بن النعمان وأبا محمد الحسن بن عمارة الكتامي الملقب أمين الدولة، وهو أول من تلقب من المغاربة، وكان شيخ كتامة وسيدها، وخاطبهما بما خاطبهما به في أمر ولده الملقب الحاكم- المقدم ذكره -ثم استدعى ولده المذكور وخاطبه أيضاً بذلك، ولم يزل العزيز المذكور في الحمام والأمر يشتد به إلى بين الصلاتين من ذلك النهار، وهو الثلاثاء الثامن والعشرون من شهر رمضان سنة ست وثمانين وثلثمائة، فتوفي في مسلخ الحمام، هكذا قال المسبحي. وقال صاحب "تاريخ القيروان": إن الطبيب وصف له دواء يشربه في حوض الحمام، وغلط فيه، فشربه فمات من ساعته، ولم ينكتم موته ساعة واحدة، وترتب موضعه ولده الحاكم أبو علي المنصور- المقدم ذكره - وبلغ الخبر أهل القاهرة، فخرج الناس غداة الأربعاء لتلقي الحاكم، فدخل البلد وبين يديه البنود والرايات وعلى رأسه المظلة، يحملها ريدان الصقلبي- المذكور في ترجمة برجوان - فدخل القصر بالقاهرة عند اصفرار الشمس، ووالده العزيز بين يديه في عمارية، وقد خرجت قدماه منها، وأدخلت العمارية القصر، وتولى غسله القاضي محمد بن النعمان، ودفن عند أبيه العز في حجرة من القصر، وكان دفنه عند العشاء الآخرة، وأصبح الناس يوم الخميس سلخ الشهر، والأحوال مستقيمة، وقد نودي في البلد: أن لا مؤنة ولا كلفة، وقد أمنكم الله تعالى على أموالكم وأرواحكم، فمن عارضكم أو نازعكم فقد حل ماله ودمه.

وكانت ولادة العزيز المذكور يوم الخميس رابع عشر المحرم سنة أربع وأربعين وثلثمائة بالمهدية من أرض افريقية " وقال الفرغاني في تاريخه الصغير: كان مولد العزيز بالله يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرم من السنة المذكور".

وقال المختار المسبحي صاحب التاريخ المشهور: قال لي الحاكم وقد جرى ذكر والده العزيز: يا مختار، استدعاني والدي قبل موته، وهو عاري الجسم، وعليه الخرق والضماد، فاستدناني وقبلني وضمني إليه وقال: وأغمي عليك يا حبيب قلبي، ودمعت عيناه. ثم قال: امض يا سيدي والعب فأنا في عافية، قال: فمضيت والتهيت بما يلتهي به الصبيان من اللعب إلى أن نقل الله سبحانه وتعالى العزيز إليه، قال: فبادر إلي برجوان وأنا على جميزة كانت في الدار فقال: انزل ويحك، الله الله فينا وفيك، قال: فنزلت، فوضع العمامة بالجوهر على رأسي، وقبل لي الأرض وقال: السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله تعالى وبركاته، قال: وأخرجني حينئذ إلى الناس على تلك الهيئة، فقبل جميعهم لي الأرض، وسلموا علي بالخلافة.

وأخبار كثيرة، والاختصار أولى، رحمه الله تعالى.