النضر بن شميل

أبو الحسن النضر بن شميل بن خرشة بن يزيد بن كلثوم بن عبدة بن زهير السكب، الشاعر، ابن عروة بن حليمة بن حجر خزاعي بن مازن ابن مالك بن عمرو بن تميم، التميمي المازني النحوي البصري؛ كان عالماً بفنون من العلم صدوقاً ثقة، صاحب غريب وفقه وشعر ومعرفة بأيام العرب ورواية الحديث، وهو من أصحاب الخليل بن أحمد؛ ذكره أبو عبيدة في كتاب"مثالب أهل البصرة" فقال: ضاقت المعيشة على النضر بن شميل البصري بالبصرة فخرج يريد خراسان، فشيعه من أهل البصرة نحو من ثلاثة آلاف رجل، ما فيهم إلا محدث أو نحوي أو لغوي أو عروضي أو أخباري، فلما صار بالمربد جلس فقال: يا أهل البصرة، يعز علي فراقكم، ووالله لو وجدت كل يوم كيلجة باقلى ما فارقتكم، قال: فلم يكن أحداً فيهم يتكلف له ذلك، فسار حتى وصل خراسان فأفاد بها مالاً عظيماً، وكانت إقامته بمرو. وقد سبق في أخبار القاضي عند الوهاب المالكي نظير هذه الحكاية لما خرج من بغداد.

وسمع بن هشام بن عروة وإسماعيل بن أبي خالد وحميد الطويل وعبد الله ابن عون وهشام بن حسان وغيرهم من التابعين، وروى عنه يحيى بن معين وعلي ابن المديني وكل من أدركه من أئمة عصره، ودخل نيسابور غير مرة وأقام بها رماناً وسمع منه أهلها.

وله مع المأمون بن هارون الرشيد لما كان مقيماً بمرو حكايات ونوادر، لأنه كان يجالسه، فمن ذلك ما حكاه الحريري في كتاب "درة الغواص في أوهام الخواص" في قوله: ويقولون هو سداد من عوز، فيلحنون في فتح السين، والصواب أن يقال بالكسر: وقد جاء في أخبار النحويين أن النضر بن شميل المازني استفاد بإفادة هذا الحرف ثمانين ألف درهم، وساق خبره، وذكر إسناداً انتهى فيه إلى محمد بن ناصح الأهوازي قال: حدثني النضر بن شميل قال: كنت أدخل على المأمون في سمره، فدخلت ذات ليلة وعلي ثوب مرقوع، فقال: يا نضر، ما هذا التقشف حتى تدخل على أمير المؤمنين في هذه الخلقان؟ قلت: يا أمير المؤمنين، أنا شيخ ضعيف وحر مرو شديد، فأتبرد بهذه الخلقان، قال: لا، ولكنك قشف، ثم أجرينا الحديث، فأجرى هو ذكر النساء فقال: حدثنا هشيم عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيه سداد من عوز" فأورده بفتح السين، قال: فقلت" صدق يا أمير المؤمنين هشيم، حدثنا عوف بن أبي جميلة عن الحسن عن علي بن أبي طالب رضوان الله عليه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سداد من عوز" قال: وكان المأمون متكئاً فاستوى جالساً، وقال: يا نضر، كيف قلت سداد؟ لأن السداد ها هنا لحن قال: أو تلحنني؟ قلت: إنما لحن هشيم وكان لحانة فتبع أمير المؤمنين لفظه، قال فما الفرق بينهما؟ قلت: السداد، بالفتح، القصد في الدين والسبيل، والسداد، بالكسر، البلغة، وكل ما سددت به شيئاً فهو سداد، قال: أو تعرف العرب ذلك؟ قلت: نعم، هذا العرجي يقول:

 

أضاعوني وأي فتىً أضاعوا

 

ليوم كريهة وسداد ثـغـر

 

فقال المأمون: قبح الله من لا أدب له، وأطرق ملياً ثم قال: ما مالك يا نضر؟ قلت: أريضة لي بمرو أتصاببها وأتمززها، قال: أفلا نفيدك مالا معها؟ قلت: إني إلى ذلك لمحتاج، قال: فأخذ القرطاس وأنا لا أدري ما يكتب. ثم قال: كيف يقول إذا أمرت أن يترب؟ قلت: أتربه، فهو ماذا، قلت: مترب، قال: فمن الطين؟ قلت: طنه، قال: فهو ماذا؟ قلت: مطين، هذه أحسن من الأولى، ثم قال: يا غلام، أتربه وطنه، ثم صلى بنا العشاء وقال لخادمه: تبلغ معه إلى الفضل بن سهل؛ قال: فلما قرأ الفضل الكتاب قال: يا نضر، إن أمير المؤمنين قد أمر لك بخمسين ألف درهم، فما كان السبب فيه؟ فأخبرته ولم أكذبه، فقال: لحنت أمير المؤمنين؟ فقلت: كلا إنما لحن هشيم وكان لحانة فتبع أمير المؤمنين لفظه، وقد تتبع ألفاظ الفقهاء ورواة الآثار، ثم أمر لي بثلاثين ألف درهم فأخذت ثمانين ألف درهم بحرف استفيد مني.


والبيت الذي استشهد به هو لعبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان الأموي العرجي الشاعر المشهور، وهو من جملة أبيات له، وهي هذه الأبيات:

أضاعوني وأي فتىً أضاعـوا

 

ليوم كريهةٍ وسـداد ثـغـر

وصبر عنه معترك المـنـايا

 

وقد شرعت أسنتها لنحـري

أجرر في الجوامع كـل يوم

 

فيا الله مظلمتي وقـسـري

كأني لم أكن فيهم وسـيطـاً

 

ولم تك نسبتي في آل عمرو

عسى الملك المجيب لمن دعاه

 

سينجيني فيعلم كيف شكـري

فأجزي بالكرامة أهـل ودي

 

وأجزي بالضغائن أهل وتري

 

والعرجي: بفتح العين وسكون الراء وفي آخرها جيم، هذه النسبة إلى العرج، وهو موضع بمكة سمي به؛ وقال ابن الأثير في كتاب "تهذيب النسب": العرج بين مكة والمدينة، وليس بمكة، والله أعلم.


وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: لما حبس المنصور عند الله بن علي كان يكثر التمثل بقول العرجي: أضاعوني وأي فتى أضاعوا فبلغ ذلك المنصور فقال: هو أضاع نفسه بسوء فعله، فكانت أنفسنا عندنا أبر من نفسه. قال إسحاق، وقال الأصمعي: مررت بكناس بالبصرة يكنس كنيفاً ويغني:

أضاعوني وأي فتىً أضاعوا

 

ليوم كريهةٍ وسداد ثـغـر

 

فقلت: أما سداد الكنيف فأنت ملي به، وأما الثغر فلا لنا كيف أنت فيه، وكنت حديث السن وأردت العبث به، فأعرض عني ملياً، ثم أقبل علي متمثلاً يقول:

وأكرم نفسي إنني إن أهنتهـا

 

وحقك لم تكرم على أحد بعدي

 

 فقلت: والله ما يكون من الهوان شيء أكثر مما بذلتها له فقال لي: والله إن من الهوان لشراً مما أنا فيه، فقلت: وما هو؟ قال: الحاجة إليك وإلى أمثالك وكان سبب عمله هذه الأبيات أن محمد بن هشام بن إسماعيل المخزومي خال هشام بن عبد الملك لما كان والي مكة حبس العرجي المذكور لأنه كان يشبب بأمه جيداء، وهي من بني الحارث بن كعب، ولم يكن ذلك لمحبته إياها، بل يفضح ولدها المذكور، وأقام في حبسه تسع سنين، ثم مات فيه بعد أن ضربه بالسياط وسهره بالأسواق، فعمل هذه الأبيات في السجن قال إسحاق: وكان الوليد بن يزيد مضغطاً على محمد بن هشام أشياء كانت تبلغه عنه في هشام، فلما ولي الخلافة قبض عليه وعلى أخيه إبراهيم بن هشام وأشخاص الشام، ثم دعا بالسياط، فقال له محمد: أسألك بالقرابة، فقال: وأي قرابة بيني وبينك، هل أنت من أشجع؟ قال: فأسألك بصهر عند الملك، قال: فلم تحفظه؛ قال: يا أمير المؤمنين قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تضرب قريش بالسياط إلا في حد، قال: ففي حد أضربك وقود، "أنت ممن سن" ذلك على العرجي وهو ابن عمي وابن أمير المؤمنين عثمان فما راعيت حق جده ولا نسبته إلى هشام، ولا ذكرت حينئذ هذا الخبر، وأنا ولي ثأره، اضرب يا غلام، فضربهما ضرباً مبرحاً وأثقلا بالحديد ووجهها إلى يوسف بن عمرو بالكوفة وأمر باستقصائهما وتعذيبهما حتى يتلفا، وكتب إليه: احتبسهما مع ابن النصرانية، يعني خالداً القسري، إن عاش أحد منهما؛ فعذبهما عذاباً شديداً وأخذ منهما مالاً عظيماً، حتى لم يبق فيهما موضع للضرب، وكان محمد بن هشام مطروحاً فإذا أرادوا أن يقيموه أخذوا بلحيته فجذبوها بها، ولما اشتد الحال بهما تحامل إبراهيم لينظر في وجه محمد فوقع عليه فماتا جميعاً ومات خالد القسري معهما في يومٍ واحد قال إسحاق: غنيت الرشيد يوماً في عرض الغناء:

أضاعوني وأي فتى أضاعوا

 

ليوم كريهةٍ وسداد ثـغـر

 

فقال لي: ما كان سبب العرجي حتى قال الشعر؟ فأخبرته بخبره من أوله إلى آخره إلى أن مات فرأيته يتغير كلما مر به شيء، فأتبعه بحديث مقتل ابني هشام، فجعل وجهه يسفر وغضبه يسكن، فلما انقضى الحديث قال: يا إسحاق والله لولا ما حدثتني به من فعل الوليد لما تركت أحداً من بني مخزوم إلا قتلته في العرجي.


وقد خرجنا عن المقصود، ونرجع أن آن إلى تتمة أخبار النضر بن شميل. فمن ذلك ما حكاه الحريري "درة الغواص" أيضاً في أوائل الكتاب في قوله: ويقولون للمريض: مسح الله ما بك، بالسين، والصواب فيه مصح، بالصاد، فقال: ويحكى أن النضر بن شميل المزني مرض فدخل عليه قوم يعودونه، فقال: له رجل منهم يكنى أبا صالح: مسح الله ما بك، فقال: لا تقل مسح بالسين ولكن قل مصح بالصاد، أي أذهبه وفرقه، أما سمعت قول الأعشى:

وإذا ما الخمر فيها أزبدت

 

أفل الإزباد فيها ومصح

 

فقال له الرجل: إن السين قد تبدل من الصاد، كما يقال الصراط والسراط، وسقر وصقر، فقال: له النضر: فإذا أنت أبو سالح؛ ويشبه هذه النادرة ما حكي أيضاً: أن بغض الأدباء جوز بحضرة الوزير أبي الحسن بن الفرات: أن تقام السين مقلم الصاد في كل موضع، فقال له الوزير: أتقرأ "جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم" "الرعد:23" أم من سلح؟ فخجل الرجل وانقطع؛ انتهى كلام الحريري.


قلت أنا: والذي ذكره أرباب اللغة في جواز إبدال الصاد من السين: أن كل كلمة فيها سين، وجاء بعدها أحد الحروف الأربعة - وهي الطاء والخاء والغين والفاء- فيجوز إبدال السين بالصاد، فنقول في "السراط" الصراط، وفي "سخر لكم" صخر، وفي "مسغبة" مصغبة، وفي "سيقل" صيقل، وقس على هذا كله. ولم أر في شيء من كتب اللغة من ذكر هذا وحكى فيه خلافاً، سوى الجوهري في كتاب "الصحاح" في لفظة صدغ، فإنه قال: وربما قالوا السدغ بالسين، قال قطرب محمد بن المستنير: إن قوماً من بني تميم يقال لهم بلعنبر يقلبون السين صاداً عند أربعة أحرف، الطاء والقاف ولغين والخاء، إذا كن بعد السين، ولا يبالي أثانية كانت أم ثالثة أم رابعة، بعد أن تكون بعدها، يقولون: سراط وصراط، وبسطة وبصطة، سيقل صيقل، وسرقت وصرقت، ومسغبة مصغبة، ومسدغة ومصدغة، وسخر لكم، وصخر لكم، والسخب والصخب؛ انتهى كلامه في هذا الفصل.


وأخبار النضر كثيرة، والاختصار أولى.


 وله تصانيف كثيرة، فمن ذلك: كتاب في الأجناس على مثال "الغريب" وسماه: "كتاب الصفات". قال علي بن الكوفي: الجزء الأول منه يحتوي على خلق الإنسان والجود والكرم وصفات النساء. والجزء الثاني يحتوي الأخبية والبيوت وصفة الجبال والشعاب. والجزء الثالث يحتوي على الإبل فقط والجزء الرابع يحتوي على الغنم والطير والشمس والقمر والليل والنهار والألبان والكمأة والآبار والحياض والأرشية والدلاء وصفة الخمر. والجزء الخامس يحتوي على الزرع والكرم والعنب وأسماء البقول والأشجار والرياح والسحاب والأمطار. وله كتاب "السلاح"، وكتاب "خلق الفرس" وكتب " الأنواء" وكتاب "المعاني" وكتاب "غريب الحديث" وكتاب "المصادر" وكتاب "المدخل إلى كتاب العين للخليل بن أحمد"، وغير من التصانيف.


وتوفي في ساخ ذي الحجة سنة أربع ومائتين، وقيل في أولها، وقيل سنة ثلاث ومائتين بمدينة مرو من بلاد خراسان، وبها ولد، ونشأ بالبصرة فلذالك نسب إليها، رحمه الله تعالى.


والنضر: بفتح النون وسكون الضاد المعجمة وبعدها راء.


وشميل: بضم الشين المعجمة وفتح الميم وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها لام.


وخرشة: بفتح الخاء المعجمة والراء والشين المعجمة.


وكلثوم: بضم الكاف والثاء المثلثة وبينهما لام ساكنة.

 

وعبدة: بفتح العين والدال المهملة وبينهما باء موحدة وهاء ساكنة.


والسكب: بفتح السين المهملة وسكون الكاف وبعدها باء موحدة، وإنما قيل له "سكب" لقوله:

برقٌ يضيء خلال البيت أسكوب

وحليمة: بفتح الحاء المهملة وكسر اللام وسكون الياء المثناة من تحتها وقال ابن الجوزي في كتاب "الألقاب" في ترجمة السكب: هو زهير بن عروة بن جلهمة، والله أعلم بالصواب.

وجلهمة: بضم الجيم والهاء وبينهما لام ساكنة، وهو في أصل: اسم لجنب الوادي، يقال له: جلهمة، وجلهة: بفتح الجيم والهاء بغير ميم، وبه سمي الرجل.

وحجر: بضم الحاء المهملة وبعدها جيم ساكنة ثم راء.

وخزاعي: بضم الخاء المعجمة وفتح الزاي وبعد الألف عين مهملة مكسورة ثم ياء مشدودة تشبه ياء النسب.

والباقي معروف فلا حاجة إلى ضبطه.