واصل بن عطاء

أبو حذيفة واصل بن عطاء المعتزلي، المعروف بالغزال، مولى بني ضبة، وقيل مولى بني مخزوم، كان أحد الأئمة البلغاء المتكلمين في علوم الكلام وغيره، وكان يلثغ بالراء فيجعلها غيناً، قال أبو العباس المبرد في حقه في كتاب " الكامل ": كان واصل بن عطاء أحد الأعاجيب، وذلك أنه كان ألثغ قبيح اللثغة في الراء، فكان يخلص كلامه من الراء ولا يفطن لذلك، لاقتداره على الكلام وسهولة ألفاظه ففي ذلك يقول الشاعر من المعتزلة وهو أبو الطروق الضبي يمدح بإطالة الخطب واجتنابه الراء على كثرة ترددها في الكلام، حتى كأنها ليست فيه:

عليم بإبدال الحروف وقامـع

 

لكل خطيبٍ يغلب الحق باطله

 

وقال آخر:

ويجعل البر قمحاً في تصرفـه

 

وخالف الراء حتى احتال للشعر

ولم يطق مطراً، والقول يعجلـه

 

فعاذ بالغيث إشفاقاً من المطـر

 

ومما يحكى عنه، وقد ذكر بشار بن برد فقال: أما لهذا الأعمى المكتني بأبي معاذ من يقتله؟ أما والله لولا أن الغيلة خلق من أخلاق الغالية لبعثت إليه من يبعج بطنه على مضجعه، ثم لا يكون إلا سدوسياً أو عقيلياً، فقال: هذا الأعمى، ولم يقل بشار ولا ابن برد ولا الضرير، وقال: من أخلاق الغالية، ولم يقل المغيرية ولا المنصورية، وقال: لبعثت، ولم يقل لأرسلت، وقال: على مضجعه، ولم يقل على مرقده ولا على فراشه، وقال: يبعج، ولم يقل يبقر، وذكر بني سدوس لأنه كان نازلاً فيهم.


وذكر السمعاني في كتاب " الأنساب " في ترجمة المعتزلي أن واصل بن عطاء كان يجلس إلى الحسن البصري رضي الله عنه، فلما ظهر الاختلاف وقالت الخوارج بتكفير مرتكبي الكبائر وقالت الجماعة بأنهم مؤمنون وإن فسقوا بالكبائر، فخرج واصل بن عطاء عن الفريقين وقال: إن من هذه الأمة لا مؤمن ولا كافر، منزلة بين منزلتين، فطرده الحسن عن مجلسه فاعتزل عنه، وجلس إليه عمرو بن عبيد، فقيل لهما ولأتباعهما: معتزلون - وقد أحلت في ترجمة عمرو بن عبيد على هذا الموضع في تبين الاعتزال ولأي معنى سموا بهذا الاسم، وقد ذكرت في ترجمة قتادة بن دعامة السدوسي أنه الذي سماهم بذلك.


وكان واصل بن عطاء المذكور يضرب به المثل في إسقاطه حرف الراء من كلامه، واستعمل الشعراء ذلك في شعرهم كثيراً، فمنه قول أبي محمد الخازن من جملة قصيدة طنانة طويلة يمدح بها الصاحب أبا القاسم إسماعيل بن عباد - المقدم ذكره - وهو:

نعم تجنب لا يوم العطاء كما

 

تجنب ابن عطاء لفظة الراء

 

وقال آخر في محبوب له ألثغ:

أعد لثغة لو أن واصل حاضر

 

ليسمعها ما أسقط الراء واصل

 

وقال آخر:

أجعلت وصلت الراء لم تنطق به

 

وقطعتني حتى كأنـك واصـل

 

لله دره ما أحسن قوله: " وقطعتني حتى كأنك واصل " وقال آخر:

فلا تجعلني مثل همزة واصل

 

فيلحقنـي ولا راء واصـل

 

وقال أبو عمر يوسف بن هارون الكندي الأندلسي القرطبي الرمادي الشاعر المشهور، إلا أنه لم يتعرض إلى ذكر واصل، وكانت وفاته سنة ثلاث وأربعمائة:

لا الراء تطمع في الوصال ولا أنا

 

الهجر يجمعنا فنـحـن سـواء

فإذا خلوت كتبتها في راحـتـي

 

وقعدت منتحـبـاً أنـا والـراء

 

وهذا الباب متسع، فلا حاجة إلى الإطالة فيه، ويكفي هذا الأنموذج. وقد عمل الشعراء في اللثغة التي هي إبدال الثاء من السين شعراً كثيراً، فمن ذلك ما يعزى لأبي نواس، ولم أجدها في ديوانه، والله أعلم، إلا أن تكون رواية علي بن حمزة الأصبهاني، فإنها أكثر الروايات، ولم أكشف هذه الأبيات منها، وهي أبيات حلوة ظريفة:

وشادنٍ ساءلت عن اسمـه

 

فقال لي إثمي مـرداث

بيات يعاطني سخـامـيةً

 

وقال لي: قد هجع الناث

أما ترى حثن أكالـيلـنـا

 

زينها النـثـرين والآث

قعدت من لثغته ألـثـغـا

 

فقلت: أين الطاث والكاث

 

ولو شرعت في ذكر ما قيل على هذا النمط لطال الشرح. ولم أجد في لثغة الراء إلا قليلاً، فمن ذلك قول بعضهم:

أما وبياض الثغر مـمـن أحـبـه

 

ونقطة خال الخد في عطفة الصدغ

لقد فتنتنـي لـثـغة مـوصـلـية

 

رمتني في تيار بحر هوى اللثـغ

ومستعجم الألفاظ عقرب حـديثـه

 

مسلطة دون الأنام على لـدغـي

يكاد أصم الصـم عـنـد حـديثـه

 

إلى اللثغة الغناء من لفظه يصغي

يقول وقد قبلـت واضـح ثـغـره

 

وكان الذي أهوى ونلت الذي أبغي

وقد نفضت كأس الحمية وأظهرت

 

على خده من لونها أحسن الصبـغ

تغفق فغشف الخمع من كغم غيقتي

 

يزيدك عند الشغب سكغاً على سكغ

 

ولقد أجاد هذا الشاعر وجمع في البيت الأخير راءات كثيرة وأبدلها بالغين، وللخبز أرزي الشاعر المقدم ذكره في غلام يلثغ بالراء أيضاً لكنه لم يستعمل اللثغة إلا في آخر البيت الأخير من الأربعة أبيات:

وشادن بالـكـرخ ذي لـثـغة

 

وإنما شرطي فـي الـلـثـغ

ما أشبه الزنبور في خـصـره

 

حتى حكى العقرب في الصدغ

في فمـه تـرياق لـدغٍ إذا

 

أحرق قلبي شـدة الـلـدغ

إن قلت في ضمي له أين هو

 

تفديك روحي قال لا أدغـي

 

وقد تسلسل الكلام وخرجنا عن المقصود من أخبار واصل بن عطاء.


وكان طويل العنق جداً بحيث كان يعاب به، وفيه يقول بشار بن برد الشاعر المشهور المقدم ذكره:

ماذا منيت بغزال له عـنـق

 

كنقنق الدو إن ولى وإن مثلا

عنق الزرافة، ما أبالي وبالكم

 

تكفرون رجالاً كفروا رجلا؟

 

وكانت بينهما منافسات وأحقاد، وقد تقدم كلام واصل في حق بشار.


وقال المبرد في كتاب " الكامل ": لم يكن واصل بن عطاء غزالاً، ولكنه كان يلقب بذلك لأنه كان يلازم الغزالين ليغرف المتعففات من النساء فيجعل صدقته لهن، ثم قال: وكان طويل العنق، ويروى عن عمرو بن عبيد أنه نظر إليه من قبل أن يكلمه فقال: لا يصلح هذا ما دامت عليه هذه العنق.


وله من التصانيف كتاب " أصناف المرجئة " وكتاب " التوبة "، وكتاب " المنزلة بين منزلتين " وكتاب خطبته التي أخرج منها الراء، وكتاب " معاني القرآن " وكتاب " الخطب في التوحيد والعدل " وكتاب ما جرى بينه وبين عمرو بن عبيد وكتاب " السبيل إلى معرفة الحق " وكتاب في " الدعوة " وكتاب " طبقات أهل العلم والجهل " وغير ذلك.


وأخباره كثيرة. وكانت ولادته سنة ثمانين للهجرة بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتوفي سنة إحدى وثمانين ومائة، رحمه الله.