الوليد بن طريف بن الصلت بن طارق بن سيحان بن عمرو" بن فدوكس ابن عمرو" بن مالك الشيباني - هكذا ذكره أبو سعد السعماني في كتاب " الأنساب " في موضعين أحدهما في ترجمة الأراقم، والآخر في ترجمة السيحاني، بكسر السين المهملة - الشاري، أحد الشجعان الطغاة الأبطال، كان رأس الخوارج وكان مقيماً بنصيبين والخابور وتلك النواحي، وخرج في خلافة هارون الرشيد وبغى، وحشد جموعاً كثيرة فأرسل إليه هارون الرشيد جيشاً كثيفاً مقدمه أبو خالد يزيد بن مزيد بن زائدة الشيباني - وسيأتي ذكره في حرف الياء إن شاء الله تعالى - فجعل يخاتله ويماكره، وكانت البرامكة منحرفة عن يزيد فأغروا به الرشيد وقالوا: إنه يراعيه لأجل الرحم، وإلا فشوكة الوليد يسيرة، وهو يواعده وينتظر ما يكون من أمره، فوجه إليه الرشيد كتاب مغضب وقال: لو وجهت أحد الخدم لقام بأكثر مما تقوم به ولكنك مداهن متعصب، وأمير المؤمنين يقسم بالله لئن أخرت مناجزة الوليد ليبعثن إليك من يحمل رأسك إلى أمير المؤمنين، فلقي الوليد فظهر عليه فقتله، وذلك في سنة تسع وسبعين ومائة أول خميس في شهر رمضان، وهي واقعة مشهورة تضمنتها التواريخ.
وكان للوليد المذكور أخت تسمى الفارعة، وقيل فاطمة، تجيد الشعر وتسلك سبيل الخنساء في مراثيها لأخيها صخر، فرثت أخاها الوليد بقصيدة أجادت فيها، وهي قليلة الجود، ولم أجد في مجاميع كتب إلا بعضها، حتى إن أبا علي القالي لم يذكر منها في أماليه سوى أربعة أبيات، فاتفق أني ظفرت بها كاملة فأثبتها لغرابتها مع حسنها، وهي هذه:
بتل نهاكـى رسـم قـبـرٍ كـأنـه |
|
على جبلٍ فوق الجـبـال مـنـيف |
فيا شجر الخابور مـالـك مـورقـاً |
|
كأنك لم تحزن على ابـن طـريف |
فتى لا يحب الزاد إلا من الـتـقـى |
|
ولا المال إلا مـن قـنـاً وسـيوف |
ولا الذخر إلا كل جـرداء صـلـدم |
|
معاودةً لـلـكـر بـين صـفـوف |
كأنك لم تشهد هـنـاك ولـم تـقـم |
|
مقاماً على الأعداء غـير خـفـيف |
ولم تستـلـم يومـاً لـورد كـريهةٍ |
|
من السرد في خضراء ذات رفـيف |
ولم تسع يوم الحرب، والحرب لاقـح |
|
وسمر القنا ينكـزنـهـا بـأنـوف |
حليف الندى ما عاش يرضى به الندى |
|
فإن مات لا يرضى الندى بحـلـيف |
فقدناك فقدان الشـبـاب ولـيتـنـا |
|
فديناك من فـتـيانـنـا بـألـوف |
وما زال حتى أزهق الموت نفـسـه |
|
شجىً لعدوٍ أو لـجـاً لـضـعـيف |
ألا يا لقومي للحمـام ولـلـبـلـى |
|
وللأرض همت بعـده بـرجـوف |
ألا يا لقومي لـلـنـوائب والـردى |
|
ودهرٍ ملـحٍ بـالـكـرام عـنـيف |
وللبدر من بين الكواكـب إذ هـوى |
|
وللشمس لما أزمعت بـكـسـوف |
ولليث كل اللـيث إذ يحـمـلـونـه |
|
إلى حفرةٍ مـلـحـودةٍ وسـقـيف |
ألا قاتل الله الحشى حيث أضمـرت |
|
فتىً كان للمعروف غـير عـيوف |
فإن يك أراده يزيد بــن مـــزيد |
|
فرب زحوف لفـهـا بـزحـوف |
عليه سلام اللـه وقـفـاً فـإنـنـي |
|
أرى الموت وقاعاً بـكـل شـريف |
ولها فيه مراثٍ كثيرة، فمن ذلك قولها فيه أيضاً:
ذكـرت الـولـيد وأيامـه |
|
إذ الأرض من شخصه بلقع |
فأقبلت أطلبه في السـمـاء |
|
كما يبتغي أنفـه الأجـدع |
أضاعك قومك فليطلـبـوا |
|
إفادة مثل الذي ضـيعـوا |
لو أن السيوف التي حدهـا |
|
يصيبك تعلم ما تـصـنـع |
نبت عنك إذ جعلـت هـيبةً |
|
وخوفاً لصولك لا تقـطـع |
وكان الوليد يوم المصاف ينشد:
أنا الوليد بن طريف الشاري |
|
قسورة لا يصطلى بنـاري |
جوركم أخرجني من داري |
|
|
ويقال إنه لما انكسر جيش الوليد وانهزم تبعه يزيد بنفسه حتى لحقه على مسافة بعيدة فقتله وأخذ رأسه، ولما قتله وعلمت بذلك أخته المذكورة لبست عدة حربها وحملت على جيش يزيد، فقال يزيد: دعوها، ثم خرج فضرب بالرمح فرسها وقال: اغربي غرب الله عينك فقد فضحت العشيرة، فاستحيت وانصرفت. وطريف: بفتح الطاء المهملة وكسر الراء وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها فاء.
وتل نهاكى - أظنه في بلد نصيبين - وهو موضع الواقعة المذكورة.
والخابور: نهر معروف أوله من رأس عين وآخره عند قرقيسيا، يصب في الفرات، وعلى هذا النهر مدن صغار تشبه الكبار في عمارة بلادها وأسواقها وكثرة خيراتها، وهو مشهور فلا حاجة إلى ضبطه.
والشاري: بفتح الشين المعجمة وبعد الألف راء وهو واحد الشراة، وهم الخوارج، وإنما سموا بذلك لقولهم: إنا شرينا أنفسنا في طاعة الله، أي بعناها بالجنة حين فارقنا الأئمة الجائرة.
والخنساء: اسمها تماضر، بضم التاء المثناة من فوقها وفتح الميم وبعد الألف ضاد مكسورة معجمة وبعدها راء، وهي ابنة عمرو بن الشريد السلمي.
والخنس: تأخر الأنف عن الوجه مع ارتفاع الأرنبة، ولذلك قيل لها الخنساء.، لأنها كانت على هذه الضفة، وأخبارها مع أخيها مشهورة في مراثيها وغيرها، - وقد سبق طرف من أخبار أخيها صخر في ترجمة أبي أحمد العسكري في حرف الحاء - وقد اختلف في موضع قبره، فقيل إنه مدفون عند عسيب، وهو جبل مشهور ببلاد الروم، وإن القبر الذي هناك ينسب إلى امرئ القيس بن حجر الكندي المشهور ليس لامرئ القيس، وإنما هو لصخر المذكور، وقيل إن كل واحد من امرئ القيس وصخر مدفون هناك، وقال الحافظ أبو بكر الحازمي المقدم ذكره في كتاب " ما اتفق لفظه وافترق مسماه ": إن عسيباً جبل حجازي، ودفن عنده صخر أخو الخنساء، فعلى هذا يكون عسيب اسماً لجبلين: أحدهما بالروم وهو الأشهر، والآخر بالحجاز، وكان من لوازم ياقوت الحموي أن يذكره في كتابه الذي وضعه في البلاد المشتركة السماء، ولم أجد ذكره فيه، والله أعلم.