ابن سناء الملك

القاضي السعيد أبو القاسم هبة الله بن القاضي الرشيد أبي الفضل جعفر بن المعتمد سناء الملك أبي عبد الله محمد بن هبة الله بن محمد السعدي، الشاعر المشهور، المصري صاحب الديوان الشعر البديع والنظم الرائق، أحد الفضلاء الرؤساء النبلاء، وكان كثير التخصص والتنعم وافر السعادة محظوظاً من الدنيا، أخذ الحديث عن الحافظ أبي الطاهر أحمد بن محمد ابن أحمد السلفي الأصبهاني رحمه الله تعالى، واختصر كتاب " الحيوان " للجاحظ، وسمى المختصر " روح الحيوان " وهي تسمية لطيفة -وله كتاب مصايد الشوارد-، وله ديوان جميعه موشحات سماه " دار الطراز " وجمع شيئاً من الرسائل الدائرة بينه وبين القاضي الفاضل وفيه كل معنى مليح.

واتفق في عصره بمصر جماعة من الشعراء المجيدين، وكان لهم مجالس يجري بينهم فيها مفاكهات ومحاورات يروق سماعها. ودخل في ذلك الوقت إلى مصر شرف الدين بن عنين - المقدم ذكره في المحمدين - فاحتفلوا به وعملوا له وكانوا يجتمعون على أرغد عيش، وكانوا يقولون: هذا شاعر الشام، وجرت لهم محافل سطرت عنهم، ولولا خشية التطويل لذكرت بعضها.

ومن محاسن شعره بيتان من جملة قصيدة يمدح بها القاضي الفاضل رحمه الله تعالى، وهما:

ولو أبصر النظام جوهر ثغرها

 

لما شك فيه أنه الجوهر الفرد

ومن قال إن الخيزرانة قدهـا

 

فقولوا له إياك أن يسمع القـد

 

ومن شعره أيضاً:

لا الغصن يحكيك ولا الجؤذر

 

حسنك مما كثروا أكـثـر

يا باسماً أبدى لنـا ثـغـره

 

عقداً ولكن كلـه جـوهـر

قال لي اللاحي: أما تسمـع

 

فقلت: يا لاحي أما تبصـر

 

وله يتغزل بجارية عمياء:

شمس بغير الشعر لم تحتجب

 

وفي سوى العينين لم تكسف

مغمدة المرهف لكـنـهـا

 

تجرح بالجفن بلا مرهـف

رأيت منها الخلد في جـؤذر

 

ومقلتي يعقوب في يوسف

وله في غلام ضرب ثم حبس:

بنفسي مـن لـم يضـربـوه لـريبة

 

ولكن ليبدو الورد في سائر الأغصان

ولم يودعوه السـجـن إلا مـخـافة

 

من العين أن تعدو على ذلك الحسـن

وقالوا له شاركت في الحسن يوسفـا

 

فشاركه أيضاً في الدخول إلى السجن

 

وله في غلام جميل الصورة حفر حومة التلاق فأصابه حجر فانكسرت أسنانه فقال:

نثر الجهر عقد ثغر حبيبـي

 

فدموعي عليه تحكي انتثاره

كل سن كالأقحوانة كـانـت

 

فغدت بالدماء كالجلـنـاره

كان في حومة التلاق وما كا

 

ن بعيداً في جملة النظـاره

فأتته الحجارة شوقاً وزارت

 

ه فلا مرحباً بتلك الـزياره

كيف ينسى الفؤاد ثغر حبيب

 

حسدتني عليه تلك الحجاره

 

وله من جملة أبيات:

وما كان تركي حبه عـن مـلالة

 

ولكن لأمر يوجب القول بالترك

أراد شريكاً في الذي كان بينـنـا

 

وإيمان قلبي قد نهاني عن الشرك

 

وله أيضاً:

يا عاطل الجيد إلا من محاسنـه

 

عطلت فيك الحشا إلا من الحزن

في سلك جسمي در الدمع منتظم

 

فهل لجيدك في عقد بلا ثـمـن

لا تخش مني فإنـنـي ضـنـى

 

وما النسيم بمخشيٍ على الغصن

 

وهذا البيت مأخوذ من قول ابن قلاقس - وقد تقدم ذكره في ترجمته - وهو:

أعندما همت بـه روضة

 

أعل جسمي لأكون النسيم

 

ومن نثره في وصف النيل في سنة كان ناقصاً، ولم يوف الزيادة التي جرت بها العادة، يقال إنه كتبه من جملة رسالة إلى القاضي الفاضل، وهو: " وأما أمر الماء فإنه نضبت مشارعه، وتقطعت أصابعه، وتيمم العمود لصلاة الاستسقاء، وهم المقياس من الضعف بالاستلقاء " وهذا من أحسن ما يوصف به نقصان النيل.


وكان بمصر شاعر يقال له أبو المكارم هبة الله بن وزير بن مقلد الكاتب، فبلغ القاضي السعيد المذكور عنه أنه هجاه، فأحضره إليه وأدبه وشتمه، وكتب إليه نشو الملك أبو الحسن علي بن مفرج المعري الأصل، المصري الدار والوفاة، المعروف بابن المنجم، الشاعر المعروف:

قل للسعيد أدام الله نـعـمـتـه

 

صديقنا ابن وزير كيف تظلمـه

صفعته إذ غدا يهجوك منتقـمـاً

 

فكيف من بعد هذا ظللت تشتمه

هجو بهجو، وهذا الصفع فيه رباً

 

والشرع ما يقتضيه، بل يحرمه

فإن تقل ما لهجو عـنـده ألـم

 

فالصفع والله أيضاً ليس يؤلمـه

 

ولما مدح السعيد المذكور شمس الدولة توران شاه أخا السلطان صلاح الدين - المقدم ذكره في حرف التاء - بقصيدته التي أولها:

تقنعت لكن بالحبيب المعمـم

 

وفارقت لكن كل عيش مذمم

 

تعصب عليه جماعة من شعراء مصر، وعابوا هذا الاستفتاح وهجنوه، فكتب إليه ابن الذروي الشاعر المذكور في ترجمة سيف الدولة المبارك بن منفذ:

قل للسعيد مقال من هو معجب

 

منه بكل بديعةٍ ما أعـجـبـا

لقصيدك الفضل المبين، وإنمـا

 

شعراؤنا جهلوا به المستغربـا

عابوا التقنع بالحبيب ولو رأى

 

الطائي ما قد حكته لتعصبـا

 

ونوادر القاضي السعيد كثيرة. وتوفي في العشر الأول من شهر رمضان، سنة ثمان وستمائة بالقاهرة، وذكر صاحبنا الكمال ابن الشعار في " عقود الجمال " أنه توفي يوم الأربعاء، رابع الشهر المذكور، رحمه الله تعالى.


وذكره العماد الكاتب، في كتاب " الخريدة " فقال: كنت عند القاضي الفاضل في حيمته بمرج الدلهمية، ثامن عشر ذي القعدة، سنة سبعين يعني وخمسمائة، فأطلعني على قصيدة له كتبها إليه من مصر، وذكر أن سنه لم يبلغ إلى عشرين سنة فأعجبت بنظمه، ثم ذكر القصيدة العينية، التي أولها:

فراق قضى للهم والقلب بالجمـع

 

وهجر تولى صلح عيني مع الدمع

وعلى هذا التقدير يكون مولده في حدود سنة خمسين وخمسمائة، وقيل إنه ولد سنة ثمان وأربعين، والله أعلم.

ثم قال العماد بعد الفراغ من ذكر هذه القصيدة: ثم وصل - يعني القاضي السعيد المذكور - إلى الشام، في شهر رمضان سنة إحدى وسبعين وخمسمائة في الخدمة الفاضلية، فوجدته في الذكاء آية، قد أحرز في صناعة النظم والنثر غاية تلقى عرابة العربية له باليمين راية، وقد أحلفه الإقبال الفاضلي في الفضل قبولا، وجعل طين خاطره على الفطنة مجبولاً، وانا أرجو أن ترقى في الصناعة رتبته، وتغزر عند تمادي أيامه في العلم نغبته، وتصفو من الصبا منقبته، وتروى بماء الدربة رويته، وتستكثر فوائده وتؤثر قلائده.

 وتوفي والده جعفر في منتصف شهر رمضان سنة ثمانين وخمسمائة ثم رأيت بخط بعض أصحابنا ممن له عناية بهذا الفن أنه توفي يوم الثلاثاء خامس ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين، ومولده منتصف شوال سنة خمس وعشرين وخمسمائة والله أعلم.

وأما أبو المكارم هبة الله بن وزير بن مقل، الشاعر المصر يالمذكور في هذه الترجمة، فإن عماد الدين الأصبهاني ذكره في كتاب " الخريدة " وقال: عدت إلى مصر في سنة ست وتسعين وخمسمائة فسألت عنه فأخبرت بوفاته، رحمه الله تعالى.