ابن قطان البغدادي

أبو القاسم هبة الله بن الفضل بن القطان بن عبد العزيز بن محمد بن الحسين بن علي بن أحمد ابن الفضل بن يعقوب بن يوسف بن سالم، المعروف بابن قطان الشاعر المشهور البغدادي، وقد سبق شيء من شعره وطرف من خبره في ترجمة حيص بيص في حرف السين، وفي ترجمة ابن السوادي في أواخر حرف العين.

وكان أبو القاسم المذكور قد سمع الحديث من جماعة من المشايخ، وسمع عليه وكان غاية في الخلاعة والمجون، كثير المزاح والمداعبات، مغرى بالولوع بالمتعجرفين والهجاء لهم، وله في ذلك نوادر ووقائع وحكايات ظريفة، وله ديوان شعر. وقد ذكره أبو سعد السمعاني في كتاب " الذيل " فقال: شاعر مجود، مليح الشعر رقيق الطبع، إلا أن الغالب عليه الهجاء، وهو ممن يتقى لسانه، ثلاب، ثم قال: كتبت عنه حديثين لا غير، وعلقت عنه مقطعات من شعره.

وذكر الحافظ السلفي أباه أبا عبد اله الفضل بن عبد العزيز، وقال: إن بعض أولاد المحدثين سأله عن مولده فقال: سنة ثماني عشرة وأربعمائة ليلة الجمعة رابع عشر رجب. وقال أبو غالب شجاع بن فارس الذهلي: مات يوم الأربعاء، ودفن من الغد لست بقين من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وأربعمائة، بمقبرة معروف الكرخي، رضي الله عنه.

وذكر العماد الكاتب الأصبهاني في كتاب " الخريدة " أبا القاسم المذكور فقال: وكان مجمعاً على ظرفه ولطفه، وله ديوان شعر أكثره جيد، وعبث فيه بجماعة من الأعيان وثلبهم، ولم يسلم منه أحد لا الخليفة ولا غيره، وأخبرني بعض المشايخ أنه رآه وقال: كنت يومئذٍ صبياً فلم آخذ عنه شيئاً لكنني رأيته قاعداً على طرف دكان عطار ببغداد، والناس يقولون: هذا ابن الفضل الهجاء.

وسمع الحديث من جماعة منهم أبوه وأبو طاهر محمد بن الحسن الباقلاني وأبو الفضل أحمد بن الحسن بن خيرون الأمين وأبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد بن طلحة بن محمد بن عثمان الكرخي وغيرهم.

وله مع حيص بيص ماجرايات، فمن ذلك أن حيص بيص خرج ليلة من دار الوزير شرف الدين أبي الحسن علي بن طراد الزينبي، فنبح عليه جرو كلب وكان متقلداً سيفاً، فوكزه بعقب السيف فمات، فبلغ ذلك ابن الفضل المذكور، فنظم أبياتاً وضمنها بيتين لبعض العرب قتل أخوه ابناً له، فقدم إليه ليقتاد منه فألقى السيف من يده وأنشدهما، والبيتان المذكوران يوجدان في الباب الأول من كتاب " الحماسة "، ثم إن ابن الفضل المذكور عمل الأبيات في ورقة وعلقها في عنق كلبة لها أجر ورتب معها من طردها وأولادها إلى باب دار الوزير كالمستغيثة، فأخذت الورقة من عنقها وعرضت على الوزير فإذا فيها:

يا أهل بغداد إن الحيص بيص أتى

 

بفعلة أكسبته الخزي في البـلـد

هو الجبان الذي أبدى تشاجـعـه

 

على جري ضعيف البطش والجلد

ولـيس فـي يده مـال يديه بـه

 

ولم يكن ببواء عنه فـي الـقـود

فأنشدت جعدة من بعدما احتسبـت

 

دم الأبيلق عند الواحد الصـمـد

" أقول للنفس تأسـاء وتـعـزية

 

إحدى يدي أصابتني ولـم تـرد "

" كلاهما خلف من فقد صاحـبـه

 

هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي "

 

والبيت الثالث مأخوذ من قول بعضهم:

قوم إذا ما جنى جانيهم أمنـوا

 

من لؤم أحسابهم أن يقتلوا قودا

 

"وهو من جملة أبيات في الكراس الذي أوله لقي بشار، وينظر في الحماسة" وهذا التضمين في غاية الحسن، ولم أسمع مثله مع كثرة ما يستعمل الشعراء التضمين في أشعارهم، إلا ما أنشدني الشيخ مهذب الدين أبو طالب محمد المعروف بابن الخيمي - المذكور في ترجمة الشيخ تاج الدين الكندي في حرف الزاي - لنفسه وأخبرني أنه كان بدمشق وقد رسم السلطان بحلق لحية شخص له وجاهة بين الناس، فحلق نصفها، وحصلت فيه شفاعة، فعفا عنه في الباقي، فعمل فيه ولم يصرح باسمه، بل رمزه وستر، وهو:

زرت ابن آدم لما قيل قد حلقـوا

 

جميع لحيته من بعد ما ضربـا

فلم أر النصف محلوقاً فعدت له

 

مهنئاً بالذي منها لـه وهـبـا

فقام ينشدني والدمع يخـنـقـه

 

بيتين ما نظما ميناً ولا كـذبـا

إذا أتتك لحلق الذقـون طـائفة

 

" فاخلع ثيابك منها ممعناً هربا "

" وإن أتوك وقالوا: إنها نصـف

 

فإن أطيب نصفيها الذي ذهبا "

 

والبيتان الأخيران منها في كتاب " الحماسة " أيضاً في باب مذمة النساء، لكن الأول منهما فيه تغيير، فإن بيت الحماسة:

لا تنكحن عجوزاً إن أتيت بها

 

واخلع ثيابك منها ممعناُ هربا

 

وحضر ليلة الحيص بيص وابن الفضل المذكور على السماط عند الوزير في شهر رمضان، فأخذ ابن الفضل قطاة مشوية، وقدمها إلى الحيص بيص، فقال الحيص بيص للوزير: يا مولانا هذا الرجل يؤذيني، فقال الوزير كيف ذلك؟ قال: لأنه يشير إلى قول الشاعر:

تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا

 

ولو سلكت سبل المكارم ضلت

 

وكان الحيص بيص تميمياً - كما تقدم في ترجمته - وهذا البيت للطرماح بن حكيم الشاعر، وهو من جملة أبيات، وبعد هذا البيت:

أرى الليل يجلوه النهار، ولا أرى

 

خلال المخازي عن تميم تجلت

ولو أن برغوثاً على ظهر قمـلة

 

يكر على صفي تميم لـولـت

 

ودخل ابن الفضل المذكور يوماً على الوزير المذكور الزينبي، وعنده الحيص فقال: قد عملت بيتين ولا يمكن أن يعمل لهما ثالث، لأنني قد استوفيت المعنى فيهما، فقال الوزير: هاتهما، فأنشده:

زار الخيال نحيلاً مثل مرسـه

 

فما شفاني منه الضم والقبـل

ما زارني قط إلا لكي يوقظني

 

على الرقاد فينفيه ويرتحـل

 

فالتفت الوزير إلى الحيص وقال له: ما تقول في دعواه؟ فقال: إن أعادهما سمع الوزير لهما ثالثاً، فقال له الوزير: أعدهما، فأعادهما، فوقف الحيص بيص لحظ ثم أنشد:

وما درى أن نومي حيلة نصبت

 

لطيفه حين أعيا اليقظة الحيل

فاستحسن الوزير ذلك منه.

وسمعت لبعض المعاصرين، ولم أتحقق أنها له حتى أعينه، وقد أخذ هذا المعنى ونظمه وأحسن فيه، وهو:  

يا ضرة القمرين مـن لـمـتـيمٍ

 

أرديته وأحلت ذاك على القضـا

وحياة حبك لم ينـم عـن سـلـوة

 

بل كان ذلك للخيال تـعـرضـا

لا تأسفي إن زار طيفك في الكرى

 

ما كان إلا مثل شخصك معرضا

 

ثم وجدت هذه الأبيات لأبي العلاء بن أبي الندى المعروف.

 

ولما هجا قاضي القضاة جلال الدين الزينبي بالقصيدة الكافية - المقدم ذكرها في ترجمة ابن السوادي - ولولا طولها لذكرتها، سير إليه أحد الغلمان فأحضره وصفعه وحبسه، فلما طال حبسه كتب إلى مجد الدين ابن صاحب أستاذ الدار:

إليك أظل مجد الدين أشـكـو

 

بلاء حل لست له طـلـيقـا

وقوموا بلغو عنـي مـحـالا

 

إلى قاضي القضاة الندب سيقا

فأحضرني بباب الحكم خصـم

 

غليظ جرني كـمـا وزيقـا

وأخفق نعله بالصفع رأسـي

 

إلى أن أوجس القلب الخفوقا

على الخصم الأداء وقد صفعنا

 

إلى أن ما تهدينا الطـريقـا

فيا مولاي هب ذا الإفك حقـا

 

أيحبس بعد ما استوفى الحقوقا

 

ولما خرج من الحبس أنشد:

عند الذي طرف بـي أنـه

 

قد غض من قدري وآذاني

فالحبس ما غير لي خاطراً

 

والصفع ما لـين آذانـي

 

وقد سبق في ترجمة الحيص أبياته الميمية في هجوه، وجواب الحيص عنها.


ولما ولي الزينبي المذكور الوزارة دخل عليه ابن الفضل المذكور والمجلس محتفل بأعيان الرؤساء، وقد اجتمعوا للهناء، فوقف بين يديه ودعا له وأظهر الفرح والسرور ورقص، فقال الوزير لبعض من يفضي إليه بسره: قبح الله هذا الشيخ، فإنه يشير إلى ما تقول العامة في أمثالها " ارقص للقرد في زمانه ". وقد نظم هذا المعنى في أبيات وكتبها إلى بعض الرؤساء، وهي:

يا كمال الدين الـذي

 

هو شخص مشخص

والرئيس الـذي بـه

 

ذنب دهري يمحص

خذ حديثـي فـإنـه

 

بنأ سوف يرخـص

كلما قلت قد تـبـغ

 

دد قومي تحمصصوا

ليس إلا ستـر يشـا

 

ل وباب مجصـص

وغواش على الـرؤو

 

س عليها المقرنص

والرواشين والمـنـا

 

ظر والخيل ترقص

وأنا القـرد كـل يو

 

م لكلب أبصـبـص

كل من صفق الزمـا

 

ن له قمت أرقـص

محن لا يفيد ذا النـو

 

ن منها التبرصـص

فمتى أسمع الـنـدا

 

ء وقد جا مخلـص

 

ومثل هذا قول بعضهم:

إذا رأيت امرءاً وضيعـاً

 

قد رفع الدهر من مكانه

فكن له سامعاً مطـيعـاً

 

معظماً من عظيم شانـه

فقد سمعنا بأن كـسـرى

 

قد قال يوماً لترجمانـه

إذا زمان السبـاع ولـى

 

فارقص للقرد في زمانه

 

وحكي أنه دخل على بعض بغداد وقد تولى ولاية كبيرة لم يكن من أهلها، فسلم عليه ودعا له وهنأه بالولاية، وأطهر الفرح والسرور، ثم خرج، فقال بعض الحاضرين: هذا يشير إلى قول الناس في أمثالهم: " ارقص للقرد في زمانه ".


وله القصيدة الرائية المشهورة التي جمع فيها خلقاً من الأكابر ونبز كل واحد منهم بشيء، وفيها يقول:

تكريت تعجزنا ونحن بجهلنـا

 

نمضي لنأخذ ترمذاً من سنجر

ومنها البيت السائر وهو:

 

نسب إلى العباس ليس شـبـيهـه

 

في الضعف غير الباقلاء الأخضر

 

وأنشدني له بعض أصحابنا المتأدبين قوله:

سعى إحسانه بينـي

 

وبين الدهر بالصلح

أياد مـلأت بـيتـي

 

على بيت من المدح

ودخل يوماً على الوزير ابن هبيرة وعنده نقيب الأشراف، وكان ينسب إلى البخل، وكان في شهر رمضان والحر شديد، فقال له الوزير: أين كنت؟ فقال: في مطبخ سيدي النقيب، فقال له: ويحك! أيش عملت في شهر رمضان في المطبخ؟ فقال: وحياة مولانا كسرت الحر، فتبسم الوزير وضحك الحاضرون وخجل النقيب. وهذا الكلام على اصطلاح أهل تلك البلاد، فإنهم يقولون: كسرت الحر في الموضع الفلاني، إذا اختار موضعاً بارداً يقيل فيه. وقصد دار بعض الأكابر في بعض الأيام فلم يؤذن له في الدخول، فعز عليه فأخرجوا من الدار طعاماً وأطعموه كلاب الصيد وهو يبصره، فقال: مولانا يعمل بقول الناس: لعن الله شجرة لا تظل أهلها.

وقعد يوماً مع زوجته يأكل طعاماً، فقال لها: اكشفي رأسك، ففعلت، وقرأ (قل هو الله أحد) الإخلاص، فقالت له: ما الخبر؟ فقال: إن المرأة إذا كشفت رأسها لم تحضر الملائكة عليهم السلام، وإذا قرئ (قل هو الله أحد) هربت الشياطين، وأنا أكره الزحمة على المائدة.

وأخباره كثيرة، وكانت ولادته سنة سبع وسبعين وأربعمائة، وقال السمعاني: سألته عن مولده فقال: ولدت ضاحي نهار يوم الجمعة السابع من ذي الحجة سنة ثمان وسبعين. وتوفي يوم السبت الثامن والعشرين من رمضان سنة ثمان وخمسين وخمسمائة ببغداد، ودفن بمقبرة معروف الكرخي، رحمه الله تعالى، وقال السمعاني: توفي يوم عيد الفطر، والله أعلم.

ولولا إيثار الاختصار لذكرت من أحواله ومضحكاته شيئاً كثيراً، فإنه كان آية في هذا الباب.

وقوله في الأبيات الدالية " ولم يكن ببواء عنه في القود " فالبواء - بفتح الباء الموحدة وبعدها الواو والهمزة ممدودة - ومعناها السواء، ويقال: دم فلان بواء لدم فلان، إذا كان مكافئاً له.

وجعدة المذكورة في هذه الأبيات أيضاً - بفتح الجيم والدال المهملة وبينهما عين مهملة ساكنة وفي الأخير هاء ساكنة - وهو اسم من أسماء الكلبة، هكذا سمعته ولم أره في شيء من كتب اللغة، بل الذي قالاه أرباب اللغة إن " أبا جعدة " كنية الذئب، وجعدة " اسم النعجة "، كني الذئب بها لمحبته إياها، والله أعلم.

"والمتوثي: بفتح الميم وتشديد التاء المثناة من فوقها وسكون الواو وبعدها ثاء مثلثة، هذه النسبة إلى متوث، وهي بلدة بين قرقوب وكورة الأهواز".