البديع الاسطرلابي

أبو القاسم هبة الله بن الحسين بن يوسف، وقيل أحمد، المنعوت بالبديع الاسطرلابي الشاعر المشهور، وأحد الأدباء الفضلاء، كان وحيد زمانه في عمل الآلات الفلكية، متقناً لهذه الصناعة، وحصل له من جهة عملها مال جزيل في خلافة الإمام المسترشد، ولما مات لم يخلفه في شغله مثله. وقد ذكره أبو المعالي الحظيري في كتابه الذي سماه " زينة الدهر " وذكره العماد الأصبهاني في كتاب " الخريدة " وكل منهما أثنى عليه، وأورد عدة مقاطيع من شعره، فمن ذلك قوله:

أهدي لمجلسه الكريم، وإنمـا

 

أهدي له ما حزت من نعمائه

كالبحر يمطره السحاب وما له

 

فضل عليه لأنه مـن مـائه

 

وهذان البيتان من أسير شعره، وقد قيل إنهما لغيره.


وله أيضاً:

أذاقني حمرة الـمـنـايا

 

لما اكتسى خضرة العذار

وقد تبدى الـسـواد فـيه

 

وكارتي بعد في العـيار

 

هكذا وجدت هذين البيتين في " زينة الدهر " تأليف أبي المعالي الحظيري منسوبين إلى البديع المذكور، ورأيت في موضع آخر أنهما لأبي محمد بن جكينا - في ترجمة الشريف أبي السعادات ابن الشجري - والله أعلم. وهذه العبارة من اصطلاح البغاددة يقولون: " كارتي في العيار " بمعنى أنه ناشب معه لم يتخلص منه، والكارة عندهم في الدقيق بمثابة الجملة في ديار مصر. ومن شعره:

قال قوم عشقـتـه أمـرد الـخ

 

د وقد قـيل: إنـه نـكـريش

قلت فرخ الطاووس أحسن ما كا

 

ن إذا ما عملا علـيه الـريش

قوله " نكريش " لفظة عجمية، والأصل فيها نيك ريش، معناها لحية جيدة، وهو على ما تقرر من اصطلاح العجم أنهم يقدمون ويؤخرون في ألفاظهم المركبة، فنيك: جيد، وريش: لحية.

وكان كثير الخلاعة يستعمل المجون في أشعاره حتى يفضي به إلى الفحش في اللفظ، فلهذا اقتصرت على هذه النبذة مع كثرة شعره، وكان قد جمعه ودونه، واختار ابن حجاج ورتبه على مائة وأحد وأربعين باباً، وجعل كل بابا في فن من فنون شعره، وقفاه وسماه " درة التاج من شعر ابن حجاج " وكان ظريفاً في جميع حركاته، وتوفي سنة أربع وثلاثين وخمسمائة، بعلة الفالج، ودفن بمقبرة الوردية بالجانب الشرقي من بغداد، رحمه الله تعالى. والأسطرلابي: بفتح الهمزة وسكون السين المهملة وضم الطاء المهملة وبعدها راء ثم لام ألف ثم باء موحدة، هذه النسبة إلى الأسطرلاب، وهو الآلة المعروفة، قال كوشيار بن لبابة بن باشهري الجيلي صاحب كتاب " الزيج " في رسالته التي وضعها في علم الأسطرلاب: إن الأسطرلاب كلمة يونانية معناها ميزان الشمس، وسمعت بعض المشايخ يقول: إن لاب اسم الشمس بلسان اليونان فكأنه قال: أسطر الشمس، إشارة إلى الخطوط التي فيه، وقيل إن أول من وضعه بطليموس صاحب المجسطي، وكان سبب وضعه له أنه كان معه كرة فلكية وهو راكب، فسقطت منه، فداستها دابته فخسفتها، فبقيت على هيئة الأسطرلاب، وكان أرباب علم الرياضة يعتقدون أن هذه الصورة لا ترسم إلا في جسم كري على هيئة الأفلاك، فلما رآه بطليموس على تلك الصورة علم أنه يرتسم في السطح ويكون نصف دائرة ويحصل منه ما يحصل من الكرة، فوضع الأسطرلاب، ولم يسبق إليه، وما اهتدى أحد من المتقدمين إلى أن هذا القدر يتأتى في الخط. ولم يزل الأمر مستمراً على استعمال الكرة والأسطرلاب إلى أن استنبط الشيخ شرف الدين الطوسي - المذكور في ترجمة الشيخ كمال الدين بن يونس رحمهما الله تعالى، وهو شيخه في فن الرياضة - أن يضع المقصود من الكرة والأسطرلاب في خط فوضعه وسماه " العصا " وعمل له رسالة بديعة. وكان قد أخطأ في بعض هذا الوضع، فأصلحه الشيخ كمال الدين المذكور، وهذبه، والطوسي أول من أظهر هذا في الوجود، ولم يكن أحد من القدماء يعرفه. فصارت الهيئة توجد في الكرة التي هي جسم لأنها تشتمل على الطول والعرض والعمق، وتوجد في السطح الذي هو مركب من الطول والعرض بغير عمق، وتوجد في الخط الذي هو عبارة عن الطول فقط بغير عرض ولا عمق، ولم يبق سوى النقطة، ولا يتصور أن يعمل فيها شيء لأنها ليست جسماً ولا سطحاً، ولا خطاً بل هي طرف السطح، والسطح طرف الجسم، والنقطة لا تتجزأ، فلا يتصور أن يرتسم فيها شيء، وهذا وإن كان خروجاً عما نحن بصدده لكنه أيضاً فائدة، والاطلاع عليه أولى من إهماله، وسياق الكلام جره والله تعالى أعلم.