ابن الشجري

الشريف أبو السعادات هبة الله بن علي بن محمد بن حمزة الحسني، المعروف بابن الشجري البغدادي، كان إماماً في النحو واللغة وأشعار العرب وأيامها وأحوالها كامل الفضائل، متضلعاً من الآداب صنف فيها عدة تصانيف، فمن ذلك كتاب " الأمالي "، وهو أكبر تواليفه وأكثرها إفادة، أملاه في أربعة وثمانين مجلساً، وهو يشتمل على فوائد جمة الأدب، وختمه بمجلس قصره على أبيات من شعر أبي الطيب المتنبي تكلم عليها وذكر ما قاله الشراح فيها وزاد من عنده ما سنح له، وهو من الكتب الممتعة، ولما فرغ من إملائه حضر إليه أبو محمد بن عبد الله المعروف بابن الخشاب - المقدم ذكره - والتمس منه سماعه عليه فلم يجبه إلى ذلك، فعاداه ورد عليه في مواضع من الكتاب ونسبه فيها إلى الخطأ، فوقف أبو السعادات المذكور على ذلك الرد، فرد عليه في رده وبين وجوه غلطه، وجمعه كتاباً سماه " الانتصار " وهو على صغر حجمه مفيد جداً، وسمعه عليه الناس، وجمع أيضاً كتاباً سماه " الحماسة " ضاهى به حماسة أبي تمام الطائي، وهو كتاب غريب مليح أحسن فيه، وله في النحو عدة تصانيف وله " ما اتفق لفظه واختلف معناه " وشرح " اللمع " لابن جني، وشرح " التصريف الملوكي ".

وكان حسن الكلام حلو الألفاظ فصيحاً جيد البيان والتفهيم، وقرأ الحديث بنفسه على جماعة من الشيوخ المتأخرين مثل أبي الحسن المبارك بن عبد الجبار بن أحمد بن القاسم الصيرفي، وأبي علي محمد بن سعيد بن نبهان الكاتب وغيرهما.

وذكره الحافظ أبو سعج بن السمعاني في كتاب " الذيل "، وقال: اجتمعنا في دار الوزير أبي القاسم علي بن طراد الزينبي وقت قراءتي عليه الحديث، وعلقت عنه شيئاً من الشعر في المدرسة، ثم مضيت إليه وقرأت عليه جزءاً من أمالي أبي العباس ثعلب النحوي.

وحكى أبو البركات عبد الرحمن بن الأنباري النحوي - المقدم ذكره - في كتابه الذي سماه " مناقب الأدباء " أن العلامة أبا القاسم محمود الزمخشري - المقدم ذكره - لما قدم بغداد قاصداً الحج في بعض أسفاره مضى إلى زيارة شيخنا أبي السعادات ابن الشجري ومضينا معه إليه، فلما اجتمع به أنشده قول المتنبي:

واستكبر الأخبار قبل لـقـائه

 

فلما التقينا صغر الخبر الخبر

ثم أنشده بعد ذلك:

كانت مساءلة الركبان تخبـرنـا

 

عن جعفر بن فلاح أحسن الخبر

ثم التقينا فلا والله ما سـمـعـت

 

أذني بأحسن مما قد رأى بصري

 

وهذان البيتان قد تقدم ذكرهما في ترجمة جعفر بن فلاح، وهما منسوبان إلى أبي القاسم محمد ابن هانئ الأندلسي - وقد تقدم ذكره أيضاً - وينسبان إلى غيره أيضاً، والله أعلم.


قال ابن الأنباري، فقال العلامة الزمخشري: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قدم عليه زيد الخيل قال له: " يا زيد، ما وصف لي أحد في الجاهلية فرأيته في الإسلام إلا دون ما وصف لي، غيرك ". قال ابن الأنباري، فخرجنا من عنده ونحن نعجب، كيف يستشهد الشريف بالشعر والزمخشري بالحديث وهو رجل عجمي؟ وهذا الكلام، وإن لم يكن عين كلام ابن الأنباري، فهو في معناه، لأني لم أنقله من الكتاب، بل وقفت عليه منذ زمان وعلق بخاطري، وإنما ذكرت هذا لأن الناظر قد يقف على كتاب ابن الأنباري فيجد بين الكلامين اختلافاً فيظن أني تسامحت في النقل.


 وكان أبو السعادات المذكور نقيب الطالبيين بالكرخ نيابة عن والده الطاهر، وله شعر حسن فمن ذلك قصيدة يمدح بها الوزير نظام الدين أبا نصر المظفر بن علي بن محمد بن جهير، أولها:

هذي السديرة والغدير الـطـافـح

 

فاحفظ فؤادك إنني لك نـاصـح

يا سدرة الوادي الذي إن ضلـه ال

 

ساري هداه نشره المـتـفـاوح

هل عائد قبل الممات لـمـغـرمٍ

 

عيش تقضى في ظلالك صالـح

ما أنصف الرشأ الضنين بنـظـرة

 

لما دعا مصغي الصبابة طامـح

شط المزار بـه وبـوئ مـنـزلاً

 

بصميم قلبك فـهـو دانٍ نـازح

غصن يعطفه النـسـيم وفـوقـه

 

قمر يحف بـه ظـلام جـانـح

وإذا العيون تساهمته لحـاظـهـا

 

لم يرو منه الناظر الـمـتـراوح

ولقد مررنا بالعقيق فـشـاقـنـا

 

فيه مراتع للمـهـا ومـسـارح

ظلنا به نبكي فكم من مـضـمـرٍ

 

وجداً أذاع هواه دمـع سـافـح

مرت الشؤون رسومها فكأنـمـا

 

تلك العراص المقفرات نواضـح

يا صاحبـي تـأمـلا حـييتـمـا

 

وسقى دياركما المـلـث الـرائح

أدمى بدت لعـيونـنـا أم ربـرب

 

أم خرد أكـفـالـهـن رواجـح

أم هذه مقل الصوار رنـت لـنـا

 

خلل البراقع أم قنـا وصـفـائح

لم يبق جارحة وقد واجـهـتـنـا

 

إلا وهن لهـا بـهـن جـوارح

كيف ارتجاع القلب من أسر الهوى

 

ومن الشقاوة أن يراض القـارح

لو بله من مـاء ضـارج شـربة

 

ما أثرت للوجـد فـيه لـواقـح

 

ومن هاهنا يخرج إلى المديح فأضربت عنه خوف الإطالة، ولم يكن المقصود إلا إثبات شيء من نظمه ليستدل به على طريقه فيه.


ومن شعره أيضاً:

هل الوجد خافٍ والدموع شهود

 

وهل مكذب قول الوشاة جحود

وحتى متى تفي شؤونك بالبكـا

 

وقد حد حداً للبـكـاء لـبـيد

وإني وإن جفت قناتي كـبـرة

 

لذو مرة في النائبات جـلـيد

 

وفيه إشارة إلى أبيات لبيد بن ربيعة العامري:

تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهـمـا

 

وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر

فقوما فنوحا بالذي تعـلـمـانـه

 

ولا تخمشا وجهاً ولا تحلقا شعر

وقولا: هو المرء الذي لا صديقه

 

أضاع، ولا خان العهود ولا غدر

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما

 

ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر

 

وإلى هذا أشار أبو تمام الطائي بقوله:

ظعنوا فكان بكاي حولاً بعدهم

 

ثم ارعويت وذاك حكم لبـيد

 

وقال الشريف أبو السعادات المذكور: أنشدني أبو إسماعيل الحسين الطغرائي - قلت: قد تقدم ذكره - لنفسه:

وإذا لم تكن ملكاً مـطـاعـاً

 

فكن عبداً لمالكه مطـيعـاً

وإن لم تملك الدنيا جمـيعـاً

 

كما تهواه فاتركها جمـيعـا

هما سببان من ملك ونسـكٍ

 

ينيلان الفتى الشريف الرفيعا

فمن يقنع من الدنيا بـشـيء

 

سوى هذين عاش بها وضيعا

 

وكان بين أبي السعادات المذكور وبين أبي محمد الحسن بن أحمد بن محمد بن جكينا البغدادي الحريمي الشاعر المشهور - وهو المذكور في ترجمة أبي محمد القاسم بن علي الحريري صاحب المقامات - تنافس جرت العادة بمثله بين أهل الفضائل، فلما وقف على شعره عمل فيه قوله:

يا سيدي والذي يعيذك مـن

 

نظم قريض يصدا به الفكر

مالك من جدك النبي سـوى

 

أنك ما ينبغي لك الشعـر

وشعره وماجراياته كثيرة، والاختصار أولى.

وكانت ولادته في شهر رمضان سنة خمسين وأربعمائة. وتوفي في يوم الخميس السادس والعشرين من شهر رمضان سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، ودفن من الغد في داره بالكرخ من بغداد، رحمه الله تعالى. والشجري: بفتح الشين المعجمة والجيم وبعدها راء، هذه النسبة إلى شجرة، وهي قرية من أعمال المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وشجرة أيضاً اسم رجل، وقد سمت به العرب ومن بعدها، وقد انتسب إليه خلق كثير من العلماء وغيرهم ولا أدري إلى من ينتسب الشريف المذكور منهما هل نسبته إلى القرية، أم إلى أحد أجداده كان اسمه شجرة، والله أعلم.

وقد تقدم الكلام على الكرخ في ترجمة معروف الكرخي، رضي الله عنه، فأغنى عن إعادته.