أمين الدولة ابن التلميذ

أبو الحسن هبة الله بن أبي الغنائم صاعد بن هبة الله بن إبراهيم بن علي، المعروف بابن التلميذ النصراني الطبيب، الملقب أمين الدولة البغدادي، ذكره العماد الأصبهاني في كتاب " الخريدة " فقال: سلطان الحكماء، وبالغ في الثناء عليه وقال: هو مقصد العالم في علم الطب، بقراط عصره وجالينوس زمانه، ختم به هذا العلم، ولم يكن في الماضين من بلغ مداه في الطب، عمر طويلاً وعاش نبيلاً جليلاً، ورأيته وهو شيخ بهي المنظر، حسن الرواء، عذب المجتلى والمجتنى، لطيف الروح ظريف الشخص، بعيد الهم عالي الهمة، ذكي الخاطر مصيب الفكر حازم الرأي، شيخ النصارى وقسيسهم ورأسهم ورئيسهم، وله في النظم كلمات رائقة، وحلاوة جنية، وغزارة بهية، ومن شعره في الميزان لغزاً:

ما واحد مختلـف الأسـمـاء

 

يعدل في الأرض وفي السماء

يحكم بالـقـسـط بـلا رياء

 

أعمى يري الإرشاد كـل راء

أخـرس لا مـن عـلةٍ ودواء

 

يغني عن التصريح بالإيمـاء

يجيب إن نـاداه ذو امـتـراء

 

بالرفع والخفض عن النـداء

يفصح إن علق في الهـواء

 

 

 

فقوله " مختلف الأسماء " يعني ميزان الشمس، وهو الاسطرلاب، وسائر آلات الرصد، وهو معنى قوله " يحكم في الأرض وفي السماء "، وميزان الكلام النحو، وميزان الشعر العروض، وميزان المعاني المنطق، وهذه الميزان والمكيال والذراع وغير ذلك، ثم بعد ذلك جملة من مقاطيع شعره نأتي بذكر بعضها إن شاء الله تعالى.


وذكر في ترجمة الحكيم معتمد الملك أبي الفرج يحيى بن التلميذ النصراني الطبيب ما مثاله: وكان ابن صاعد حين توفي معتمد الملك أبو الفرج قام مقامه، وهو ابن بنته، فنسب إليه وعرف به.


وذكر في كتاب " أنموذج الأعيان من شعراء الزمان، فيمن أدرك بالسماع أو بالعيان " أن ابن التلميذ المذكور كان متفنناً في العلوم ذا رأي رصين وعقل متين، وطالت خدمته للخلفاء والملوك، وكانت منادمته أحسن من التبر المسبوك والدر في السلوك، اجتمعت به مراراً في آخر عمره، وكنت أعجب في أكره، كيف حرم الإسلام مع كمال فهمه، وغزارة عقله وعلمه، والله يهدي من يشاء بفضله، ويضل من يريد بحكمه. وكان إذا ترسل استطال وسطا، وإذا نظم وقع بين أرباب النظم وسطا، وأورد شيئاً من شعره أيضاً.


وذكره أبو المعالي الحظيري - المقدم ذكره في حرف السين - في كتابه " زينة الدهر " وأورد له مقاطيع، فمن ذلك قوله:

يا من رماني عن قوس فرقته

 

بسهم هجر علـى تـلافـيه

ارض لمن غاب عنك غيبتـه

 

فذاك ذنب عـقـابـه فـيه

 

وذكر العماد في " الخريدة " البيت الثاني منسوباً إلى أبي محمد بن جكينا البغدادي، وضم إليه بعده:

لو لم ينله من العقاب سوى

 

بعدك عنه لكان يكـفـيه

 

وذكر له الحظيري أيضاً:

عاتبت إذ لم يزر خيالك وال

 

نوم بشوقي إليك مسلـوب

فزارني منعماً وعاتبـنـي

 

كما يقال المنام مقـلـوب

 

ومما ذكر له العماد في " الخريدة " قال: وأنشدني أبو المعالي هبة الله بن الحسن بن محمد بن المطلب قال: أنشدني أبو الحسن ابن التلميذ لنفسه:

كانت بلهنية الشبـيبة سـكـرة

 

فصحوت واستأنفت سيرة مجمل

وقعدت أرتقب الفناء كـراكـبٍ

 

عرف المحل فبات دون منـزل

 

والثاني منهما ذكره ابن المنجم في كتاب " البارع " لمسلم بن الوليد الأنصاري.


وذكره أن أبا محمد ابن جكينا المذكور مرض فقصده ليعالجه فعالجه، فلما عوفي أعطاه دراهم، فعمل فيه:

لما تيممته وبـي مـرض

 

إلى التداوي والبرء محتاج

آسى وواسى فعدت أشكره

 

فعل امرئ للهموم فراج

فقلت إذ برني وأبـرأنـي

 

هذا طبيب عليه زربـاج

 

وعمل فيه أيضاً في المعنى:

جاد واستنقذ المريض وقد كا

 

د أن يلف ساقـاً بـسـاق

والذي يدفع المنون عن النف

 

س جدير بقسـمة الأرزاق

 

وقصد مرة أن يعبر إليه ليداويه، فكتب إليه:

إن امرأ القيس الذي

 

هام بذات المحمل

كان شفاه عـبـرة

 

وعبرة تصلح لـي

 

 وكان ابن جكينا المذكور قد عمي في آخر عمره، وجرت بينهما منافرة في أمر واشتهى مصالحته، فكتب إليه:

وإذا شئت أن تصالح بـشـا

 

ر بن برد فاطرح عليه أباه

 

فسير إليه ما طلب واسترضاه، وكانت له معه وقائع كثيرة، وإنما كتب إليه هذا البيت لأن بشار بن برد كان أعمى، - كما تقدم ذكره في ترجمته - فلما عمي شبه نفسه به، وكان مطلوبه برداً.


ومعنى قوله " فاطرح عليه أباه " لأن عادة أهل بغداد إذا أراد الإنسان أن يصالح من خاصمه، والخصم ممتنع، يقال له: اطرح عليه فلاناً، بمعنى ادخل عليه به، ليشفع له، وقد حصلت له التورية في هذا البيت.


ومن الشعر المنسوب إليه وهو مشهور قوله، ثم وجدتهما للناصح ابن الدهان النحوي الموصلي:

تعس القياس فللغرام قضـية

 

ليست على نهج الحجى تنقاد

منها بقاء الشوق وهو بزعمهم

 

عرض وتفنى دونه الأجساد

 

وقوله أيضاً، وذكر العماد في " الخريدة " أن هذين البيتين لأبي علي المهندس المصري، وهما:

تقسم قلبي في محبة معشرٍ

 

بكل فتى منهم هواي منوط

كأن فؤادي مركز وهم لـه

 

محيط وأهوائي إليه خطوط

 

وقوله أيضاً:

جوده كـالـطـــبـــيب فـــينـــا يداوي

 

سوء أحـوالـنـا بـحـسـن الـصـــنـــيع

فهـو كـالـمـومـيا إذا انـكـسـر الـعـــظ

 

م، ومـثـل الـتـرياق لـلـمــلـــســـوع

ثم وجدت هذين البيتين في ديوان ابن حجاج الشاعر.

 

 

 

وقوله في ولده سعيد:

حبي سعيداً جوهر ثابـت

 

وحبه لي عـرض زائل

به جهاتي الست مشغولة

 

وهو إلى غيري بها ماثل

 

وكان أبو القاسم علي بن أفلح الشاعر - المقدم ذكره - قد نقه من المرض وهو يعالجه، فكتب إليه يشكو جوعه، وقد نهاه عن استعمال الغذاء إلا بأمره، والذي كتبه:

أنا جوعـان فـأنـقـذ

 

ني من هذي المجاعـه

فرجي في الكسرة الخب

 

ز ولو كانت قطـاعـه

لا تقل لي ساعة تـص

 

بر، مالي صبر ساعـه

فخـواي الــيوم لا يق

 

بل في الخبز شفاعـه

 

فوقف ابن التلميذ على هذه الأبيات وكتب إليه جوابها:

هكذا أضياف مثلـي

 

يتشاكون المجاعـه

غير أني لست أعطي

 

ك مضراً بشفاعـه

فتعـلـل بـسـويقٍ

 

فهو خير من قطاعه

بحياتي قل كما نـر

 

سمه سمعاً وطاعـه

فلما وصلت الأبيات إلى ابن أفلح كتب:

 

إن مرسومك عندي

 

قد توخيت استماعه

غير أني لم أقل من

 

نيتي سمعاً وطاعه

ودفعت الجوع والل

 

ه فلم أسطع دفاعه

فاكفني كلفـتـه الآ

 

ن وأربحني صداعه

 

فكتب إليه ابن التلميذ:

أنا في الشعر ضعيف الط

 

بع منزور البضـاعـه

ولك الخـاطـر قـد أو

 

تي طبعاً وصـنـاعـه

ومتى لم تكـف شـر ال

 

جوع لم أكف صداعـه

فعلى اسـم الـلـه قـدم

 

أخذه من بعـد سـاعـه

 

وكان بين ابن التلميذ المذكور وبين أوحد الزمان أبي البركات هبة الله بن علي بن ملكان الحكيم المشهور صاحب كتاب " المعتبر " في الحكمة تنافر وتنافس كما جرت العادة بمثله بين أهل كل فضيلة وصنعة، ولهما في ذلك أمور ومجالس مشهورة، وكان يهودياً ثم أسلم في آخر عمره، وأصابه الجذام فعالج نفسه بتسليط الأفاعي على جسده بعد أن جوعها، فبالغت في نهشه، فبرئ من الجذام وعمي، وقصته في ذلك مشهورة، فعمل فيه ابن التلميذ المذكور:

لنا صديق يهودي حماقـتـه

 

إذا تكلم تبدو فيه من فـيه

يتيه والكلب أعلى منه منزلةً

 

كأنه بعد لم يخرج من التيه

وكان ابن التلميذ كثير التواضع، وأوحد الزمان متكبراً، فعمل فيهما البديع الأسطرلابي المقدم ذكره:

أبو الحسن الطبيب ومقتفـيه

 

أبو البركات في طرفي نقي

فهذا التواضع في الـثـريا

 

وهذا بالتكبر في الحضيض

ولابن التلميذ في الطب تصانيف مليحة، فمن ذلك كتاب " أقراباذين " وهو نافع في بابه، وبه عمل أطباء هذا الزمان، وله كناش وحواش على كليات ابن سينا، وغير ذلك. وكان شيخه في الطب أبا الحسن هبة الله بن سعيد صاحب التصانيف المشهورة، منها كتاب " التلخيص " و" المغني " في الطب وهو جزء واحد، وكتاب " الإقناع " وهو اربعة أجزاء، وقد انتقدوا عليه هذه التسمية وقالوا: كان أن يكون الأمر بالعكس، لأن المغني هو الذي يغني عن غيره، فكان الكتاب الأكبر أولى بهذا الاسم، والإقناع هو الذي تقع القناعة به، فالمختصر أولى بهذا الاسم. وله كل شيء مليح من تصنيف في طب وأدب.

وكان حسن السمت كثير الوقار، حتى قيل أنه لم يسمع منه بدار الخلافة مدة تردده إليها من المجون سوى مرة واحدة بحضرة المقتفي الخليفة، وذلك أنه كان له راتب بدار القوارير ببغداد، فقطع ولم يعلم به الخليفة، فاتفق أنه كان عنده يوماً، فلما عزم على القيام لم يقدر عليه إلا بكلفة ومشقة من الكبر، فقال له المقتفي: كبرت يا حكيم، فقال: نعم يا مولانا، وتكسرت قواريري، وهذا في اصطلاح أهل بغداد أن الإنسان إذا كبر يقال " تكسرت قواريره " فلما قال الحكيم هذه اللفظة، قال الخليفة: هذا الحكيم لم أسمع منه هزلاً منذ خدمنا، فاكشفوا قضيته، فكشفوها راتبه بدار القوارير قد انقطع، فطالعو الخليفة بذلك فتقدم بردها عليه، وكان الذي قد قطعه الوزير عون الدين بن هبيرة، وزاده إقطاعاً آخر، وأخباره كثيرة.

وتوفي في صفر سنة ستين وخمسمائة ببغداد، وقد ناهز المائة من عمره، وقال ابن الأزرق الفارقي في تاريخه: مات ابن التلميذ في عيد النصارى. وكان قد جمع من سائر العلوم ما لم يجتمع في غيره، ولم يبق ببغداد من الجانبين من لم يحضر البيعة وشهد جنازته.

وليس في هذه الترجمة ما يحتاج إلى التقييد سوى ملكان جد أوحد الزمان - وهو بفتح الميم والكاف وبينهما لام ساكنة وبعد الألف نون.

وقد تقدم في الترجمة ابن الجواليقي ما دار بينهما بحضرة الإمام المقتفي.

قلت وبعد فراغي من ترجمة أمين الدولة ابن التلميذ المذكور وقفت على كتاب جمعه شيخنا موفق الدين أبو محمد عبد اللطيف بن يوسف البغدادي، وجعله سيرة لنفسه، وجميعه بخطه، وذكر في اوائله ابن التلميذ، ووصفه بالعلم في صناعة الطب وإصابته، ثم قال: ومنها أنه أحضرت إليه امرأة محمولة لا يعرف أهلها في الحياة هي أم في الممات، وكان الزمان شتاء، فأمر بتجريدها، وصب عليها الماء المبرد صباً متتابعاً كثيراً، ثم أمر بنقلها إلى مجلس دفيئ قد بخر بالعود والند، ودفئت بأصناف الفراء ساعة، فعطست وتحركت وقعدت وخرجت ماشية مع اهلها إلى منزلها.

ومنها: أنه أتي مرة بمريض يعرق دماً في زمن الصيف، فسأل تلاميذه قدر خمسين نفساً، فلم يعرفوا المرض، فأمره بأكل خبز شعير مع باذنجان مشوي، ففعل ذلك ثلاثة أيام، فبرئ، وسأله أصحابه عن العلة، فقال: إن دمه قد رق ومسامه قد انفتحت، وهذا الغذاء من شأنه تغليط الدم وتكثيف المسام.

ومن مروءته أن ظهر داره كان يلي المدرسة النظامية، فإذا مرض فقيه نقله إليه وقام في مرضه عليه، فإذا أبل وهب له دينارين وصرفه.

وذكر شيخنا موفق الدين قبل هذا أن ولد أمين الدولة المذكور كان شيخه وانتفع به، وكان شيخاً قد ناهز ثمانين سنة، ولديه تجربة فاضلة وغوص على أسرار الطبيعة، يرى الأمراض كأنها من وراء زجاج، لا يعتريه فيها ولا في مداواتها شك، وكان أكثر ما يصف المفردات أو ما يقل تركيبه، ولم أر من يستحق اسم الطب غيره. وكن يقول: ينبغي للعاقل أن يختار من اللباس ما لا تحسده عليه العامة، ولا تحتقره فيه الخاصة، وكذا كان لباسه البيض الرفيع.

ثم قال: وخنق في دهليز داره اللث الأول من الليل، وكان قد أسلم قبل موته، وفي نفسي عليه حسرات، رحمه الله تعالى، نقلته ملخصاً.