الفرزدق

أبو فراس همام - وقال ابن قتيبة في " طبقات الشعراء ": هميم بالتصغير - ابن غالب، وكنيته أبو الأخطل، ابن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم، واسمه بحر، بن مالك، واسمه عوف سمي بذلك لجوده، ابن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر، التميمي، المعروف بالفرزدق، الشاعر المشهور صاحب جرير.

كان أبوه غالب من جلة قومه وسرواتهم، وأمه ليلى بنت حابس أخت الأقرع بن حابس. ولأبيه مناقب مشهورة ومحامد مأثورة، فمن ذلك أنه أصاب أهل الكوفة مجاعة وهو بها فخرج أكثر الناس إلى البوادي، فكان هو رئيس قومه، وكان سحيم بن وثيل الرياحي رئيس قومه، واجتمعوا بمكان يقال له صوأر في أطراف السماوة من بلاد كلب على مسيرة يوم الكوفة - وهو بفتح الصاد المهملة وسكون الواو وفتح الهمزة وبعدها راء - فعقر غالب لأهله ناقة وصنع منها طعاماً، وأهدى إلى قوم من بني تميم لهم جلالة جفاناً من ثريد، ووجه إلى سحيم جفنة، فكفأها وضرب الذي أتاه بها وقال: أنا مفتقر إلى طعام غالب؟ إذا نحر هو ناقة نحرت أنا أخرى، فوقعت المنافرة بينهما، وعقر سحيم لأهله ناقة، فلما كان من الغد عقر لهم غالب ناقتين، فعقر سحيم لأهله ناقتين، فلما كان اليوم الثالث عقر غالب ثلاثاً، فعقر سحيم ثلاثاً، فلما كان اليوم الرابع عقر غالب مائة ناقة، فلم يكن عند سحيم هذا القدر، فلم يعقر شيئاً وأسرها في نفسه. فلما انقضت المجاعة ودخل الناس الكوفة قال بنو رياح لسحيم: جررت علينا عار الدهر، هلا نحرت مثل ما نحر، وكنا نعطيك مكان كل ناقة ناقتين؟ فاعتذر بأن إبله كانت غائبة، وعقر ثلثمائة ناقة، وقال للناس: شأنكم والأكل، وكان ذلك في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فاستفتي في حل الأكل منها فقضى بحرمتها وقال: هذه ذبحت لغير مأكلة، ولك يكن المقصود منها إلا المفاخرة والمباهاة، فألقيت لحومها على كناسة الكوفة فأكلتها الكلاب والعقبان والرخم، وهي قصة مشهورة، وعمل فيها الشعراء أشعاراً كثيرة. فمن ذلك قول جرير يهجو الفرزدق، وهو بيت تستشهد به النحاة في كتبهم، وهو من جملة قصيدة:

تعدون عقر النيب أفضل مجدكـم

 

بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا

 

ومن ذلك قول المحل، أخي بني قطن بن نهشل:

وقد سرني أن لا تعد مجاشـع

 

من المجد إلا عقر نابٍ بصوأر

 

وكان غالب المذكور أعور.
وسحيم المذكور، وهو ابن وثيل بن عمرو بن جوين بن وهيب بن حميري الشاعر الذي يقول:

أنا ابن جلا وطلاع الثـنـايا

 

متى أضع العمامة تعرفوني

 

وهذا البيت من جملة أبيات، وله ديوان شعر صغير. والوثيل الرشاء الضعيف، وقيل الليف.
وكان الفرزدق كثير التعظيم لقبر أبيه، فما جاءه أحد واستجار به إلا نهض معه وساعده على بلوغ غرضه. فمن ذلك ما حكاه المبرد في كتاب " الكامل " أن الحجاج بن يوسف الثقفي لما ولى تميم بن زيد القيني بلاد السند دخل البصرة، فجعل يخرج من أهلها من شاء، فجاءت عجوز إلى الفرزدق فقالت: إني استجرت بقبر أبيك، وأتت منه بحصيات، فقال: ما شأنك؟ قالت: إن تميم بن زيد خرج بابن لي معه، ولا قرة لعيني ولا كاسب علي غيره، فقال لها: وما اسم ابنك؟ فقالت: خنيس، فكتب إلى تميم مع بعض من شخص:

تميم بن زيد لا تكونن حاجـتـي

 

بظهرٍ فلا يعيا علي جوابـهـا

وهب لي خنيساً واحتسب فيه منة

 

لعبرة أم ما يسوغ شـرابـهـا

أتتني فعاذت يا تميم بـغـالـبٍ

 

وبالحفرة السافي عليها تربهـا

وقد علم الأقـوام أنـك مـاجـد

 

وليث إذا ما الحرب شب شهابها

 

فلما ورد الكتاب على تميم تشكك في الاسم فلم يعرف أخنيس أم حبيش. ثم قال: انظروا من له مثل هذا الاسم في عسكرنا، فأصيب ستة ما بين خنيس وحبيش، فوجه بهم إليه.


وحضر يوماً الفرزدق ونصيب الشاعر المشهور، عند سليمان بن عبد الملك الأموي وهو يومئذ خليفة، فقال سليمان للفرزدق: أنشدني شيئاً، وإنما أراد سليمان أن ينشده مدحاً له، فأنشده في مدح أبيه:

وركب كأن الريح تطلب عندهم

 

لها ترةً من جذبها بالعصـائب

سروا يخبطون الريح وهي تلفهم

 

إلى شعب الأكوار ذات الحقائب

إذا آنسوا ناراً يقولـون إنـهـا

 

وقد حضرت أيديهم نار غالـب

فأعرض سليمان عنه كالمغضب، فقال نصيب: يا أمير المؤمنين، ألا أنشدك في رويها ما لعلها لا يتضع عنها، قال: هات، فأنشده:

أقول لركبٍ صادرين لقيتهـم

 

قفا ذات أوشالٍ ومولاك قارب

قفوا خبروني عن سليمان إنني

 

لمعروفه من أهل ودان طالب

فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهلـه

 

ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب

 

فقال سليمان للفرزدق: كيف تراه؟ فقال: هو أشعر أهل جلدته، ثم قام وهو يقول:

وخير الشعر أشرفه رجالاً

 

وشر الشعر ما قال العبيد

 

وكان نصيب عبداً أسود لرجل من أهل وادي القرى، فكاتب على نفسه ومدح عبد العزيز بن مروان، فاشترى ولاءه، وكنيته أبو الحجناء، وقيل أبو محجن.


وللفرزدق في مفاخر أبيه أشياء كثيرة.


وأما جده صعصعة بن ناجية فإنه كان عظيم القدر في الجاهلية، واشترى ثلاثين موءودة، منهن بنت لقيس بن عاصم المنقري، وفي ذلك يقول الفرزدق يفتخر به:

وجدي الذي منع الوائدات

 

وأحيا الوئيد فـلـم يوأد

 

وهو أول من أسلم من أجداد الفرزدق، وقد ذكره في كتاب " الاستيعاب " في جملة الصحابة، رضوان الله عليهم اجمعين.


وقد اختلف العلماء أهل المعرفة بالشعر في الفرزدق وجرير والمفاضلة بينهما، والأكثرون على أن جريراً أشعر منه، وكان بينهما من المهاجاة والمعاداة ما هو مشهور، وقد جمع لهما كتاب يسمى " النقائض " وهو من الكتب المشهورة.


وكان جرير قد هجاه بقصيدته الرائية، التي من جملتها:

وكنت إذا حللت بدار قـوم

 

ظعنت بخزية وتركت عارا

 

فاتفق بعد ذلك أن الفرزدق نزل بامرأة من أهل المدينة، وجرى له معها قضية يطول شرحها. وخلاصة الأمر أنه راودها عن نفسها بعد أن كانت قد أضافته وأحسنت إليه فامتنعت عليه، فبلغ الخبر عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه وهو يومئذ والي المدينة، فأمر بإخراجه من المدينة، فلما أخرج وأركبوه ناقته ليسفروه قال: قاتل الله ابن المراغة - يعني جريراً - كأنه شاهد هذا الحال، حيث قال: وكنت إذا حللت بدار قوم... وأنشد البيت المذكور.


وشهد الفرزدق عند بعض القضاة شهادة فقال له: قد أجزنا شهادتك، ثم لأصحاب القضية: زيدونا في الشهود، فقيل للفرزدق حين انفصل عن مجلس القاضي: إنه لم يجز شهادتك، فقال: وما يمنعه من ذلك، وقد قذفت ألف محصنة؟ ومن شعره المشهور قوله، وهو مقيم بالمدينة:

هما دلتاني مـن ثـمـانـين قـامة

 

كما انقض بازٍ أقتم الريش كاسـره

فلما استوت رجلاي في الأرض قالتا

 

أحي فيرجى أم قـتـيل نـحـاذره

فقلت: ارفعا الأسباب لا يشعروا بنـا

 

وأقبلت في أعجـاز لـيل أبـادره

أحاذر بـوابـين قـد وكـلا بـنـا

 

وأسود من ساجٍ تصر مـسـامـره

 

فلما بلغت جريراً الأبيات عمل من جملة قصيدة طويلة:

لقد ولدت أم الفـرزدق فـاجـراً

 

فجاءت بوزوازٍ قصير الـقـوادم

يوصل حبـلـيه إذا جـن لـيلـه

 

ليرقى إلى جاراته بالـسـلالـم

تدليت تزني من ثمـانـين قـامة

 

وقصرت عن باع العلا والمكارم

هو الرجس يا أهل المدينة فاحذروا

 

مداخل رجسٍ بالخبيثـات عـالـم

لقد كان إخراج الفرزدق عنـكـم

 

طهوراً لما بين المصلـى وواقـم

 

فلما وقف الفرزدق على هذه القصيدة جاوبه بقصيدة طويلة يقول في جملتها:

وإن حراماً أن أسب مقاعـسـاً

 

بآبائي الشم الكرام الخـضـارم

ولكن نصفاً لو سببت وسبـنـي

 

بنو عبد شمس من مناف وهاشم

أولئك أمثالي فجئني بمثـلـهـم

 

وأعبد أن أهجو كليبـاً بـدارم

 

ولما سمع أهل المدينة أبيات الفرزدق المذكورة أولاً، اجتمعوا وجاءوا إلى مروان بن الحكم الأموي، واكن يومئذ والي المدينة من قبل معاوية بن أبي سفيان الأموي، فقالوا له: ما يصلح أن يقال مثل هذا الشعر بين أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أوجب على نفسه الحد، فقال مروان: لست أحده أنا، ولكن أكتب إلى من يحده، ثم أمره بالخروج من المدينة وأجله ثلاثة أيام، وفي ذلك يقول الفرزدق:

توعدني وأجلني ثـلاثـاً

 

كما وعدت لمهلكها ثمود

 

ثم كتب مروان إلى عامله يأمره فيه أن يحده ويسجنه، وأوهمه أنه قد كتب له بجائزة، ثم ندم مروان على ما فعل، فوجه عنه سفيراً، وقال: إني قلت شعراً فاسمعه، ثم أنشده:

قل للفرزدق والسفاهة كاسمهـا

 

إن كنت تارك ما أمرتك فاجلس

ودع المدينة إنهـا مـرخـوبة

 

واقصد لمكة أو لبيت مقـدس

وإذا اجتنيت ممن الأمور عظيمة

 

فخذن لنفسك بالزماع الأكـيس

 

- قوله " فاجلس " أي اقصد الجلساء، وهي نجد، وسميت بذلك لارتفاعها، لأن الجلوس في اللغة هو الارتفاع، ولما وقف الفرزدق على الأبيات فطن لما أراد مروان، فرمى الصحيفة وقال:

يا مروان إن مطية محبـوسة

 

ترجو الحباء وربها لـم يأس

وحبوتني بصحيفة محـتـومة

 

يخشى علي بها حباء النقرس

ألق الصحيفة يا فرزدق لا تكن

 

نكداً كمثل صحيفة المتلمـس

 

وإذ ذكرنا صحيفة المتلمس فقد يتشوف الواقف على هذا الكتاب أن يعلم قصتها: ومن خبرها أن المتلمس، واسمه جرير بن عبد المسيح بن عبد الله بن زيد بن دوفن بن حرب بن وهب بن جلى بن احمس بن ضبيعة الأضجم بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، وإنما لقب لقوله من جملة قصيدة:

فهذا أوان العرض حي ذبابه

 

زنابير والأزر المتلـمـس

 

- وهو بضم الميم وفتح التاء المثناة من فوقها واللام وكسر الميم الثانية وتشديدها وبعدها سين مهملة - كان قد هجا عمرو بن هند اللخمي ملك الحيرة، وهجاه أيضاً طرفة بن العبد البكري الشاعر المشهور، وهو ابن أخت المتلمس المذكور، فاتصل هجوهما بعمرو بن هند، فلم يظهر لهما شيئاً من التغير، ثم مدحاه بعد ذلك فكتب لكل واحدٍ منهما كتاباً إلى عامله بالحيرة، وأمره بقتلهما إذا وصلا إليه، وأوهمهما أنه قد كيت لهما بصلة، فلما وصلا إلى الحيرة قال المتلمس لطرفة: كل منا قد هجا الملك، ولو أراد أن يعطينا لأعطاناولم يكتب لنا إلى الحيرة، فهلم ندفع كتبنا إلى من يقرؤها، فإن كان فيها خير دخلنا الحيرة، وإن كان فيها شر فررنا قبل أن يعلم بمكاننا، فقال طرفة بن العبد: ما كنت لأفتح كتاب الملك، فقال المتلمس: والله لأفتحن كتابي ولأعلمن ما فيه ولا أكون كمن يحمل حتفه بيده، فنظر المتلمس فإذا غلام قد خرج من الحيرة، فقال له: أتقرأ يا غلام؟ فقال: نعم، فقال: هلم فاقرأ هذا الكتاب. فلما نظر إليه الغلام قال: ثكلت المتلمس أمه، فقال لطرفة: افتح كتابك فما فيه إلا مثل ما في كتابي، فقال: إن كان اجترأ عليك فلم يكن ليجترئ علي ويوغر صدور قومي بقتلي. فألقى المتلمس صحيفته في نهر الحيرة وفر إلى الشام، ودخل طرفة الحيرة فقتل، وقصته في ذلك مشهورة، فصار يضرب المثل بصحيفة المتلمس لكل من قرأ صحيفة فيها قتله، وإلى هذا أشار الحريري في المقامة العاشرة بقوله: " ففضضتها فعل المتلمس من مثل صحيفة المتلمس ". وللأبله الشاعر، - المقدم ذكره في المحمدين - قصيدة يقول فيها:

يقرا المتيم من صـحـيفة خـده

 

في الهجر مثل صحيفة المتلمس

 

رجعنا إلى تتمة خبر الفرزدق: ثم خرج هارباً حتى أتى سعيد بن العاص الأموي، وعنده الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم، فأخبرهم الخبر، فأمر له كل واحد منهم بمائة دينار وراحلة، وتوجه إلى البصرة، وقيل لمروان: أخطأت فيما فعلت فإنك عرضت عرضك اشاعر مضر، فوجه وراءه رسولاً ومعه مائة دينار وراحلة، خوفاً من هجائه.

 

ومن أخبار الفرزدق أنه حكى أن نزل في بعض أسفاره في بادية وأوقد ناراً فرآها ذئب فأتاه فأطعمه من زاده وأنشد:

وأطلس عسال وما كان صاحبـاً

 

دعوت بناري موهناً فـأتـانـي

فلما أتى قلت ادن دونك إنـنـي

 

وإياك في زادي لمشـتـركـان

فبت أقـد الـزاد بـين وبـينـه

 

على ضوء نارٍ مرةً ودخـانـي

وقلت له لما تكشر ضـاحـكـاً

 

وقائم سيفي في يدي بـمـكـان

تعش، فإن عاهدتني لا تخوننـي

 

نكن مثل من، يا ذئب، يصطحبان

وأنت امرؤ يا ذئب والغدر كنتمـا

 

اخيين كانا أرضعـا بـلـبـان

ولو غيرنا بنهت تلتمس الـقـرى

 

رماك بسهم أو شبـاة سـنـان

 

وكان قد أنشد سليمان بن عبد الملك الأموي قصيدة ميمية، فلما انتهى منها إلى قوله:

ثلاث واثنتان فهن خمس

 

وسادسة تميل إلى شمام

فبتن بجانبي مصرعـاتٍ

 

وبت أفض أغلاق الختام

كأن مفالق الـرمـان فـيه

 

وجمر غضاً قعدن عليه حام

 

فقال له سليمان: قد أقررت عندي بالزنا وأنا إمام، ولا بد من إقامة الحد عليك، فقال الفرزدق: ومن أين أوجبت علي يا أمير المؤمنين؟ فقال: بقول الله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة) النور: فقال الفرزدق: إن كتاب الله يدرؤه عني بقوله تعالى: (والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في كل واد يهيمون. وأنهم يقولون ما لا يفعلون) الشعراء: فأنا قلت ما لم أفعل، فتبسم سليمان، وقال: أولى ذلك.


وتنسب إليه مكرمة يرجى له بها الجنة، وهي أنه لما حج هشام بن عبد الملك في أيام أبيه، فطاف وجهد أن يصل إلى الحجر ليستلمه، فلم يقدر عليه لكثرة الزحام، فنصب له منبر وجلس عليه ينظر إلى الناس، ومعه جماعة من أعيان أهل الشام، فبينما هو كذلك إذ أقبل زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وقد تقدم ذكره - وكان من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم أرجاً، فطاف بالبيت، فلما انتهى إلى الحجر تنحى له الناس حتى استلم، فقال رجل من أهل الشام: من هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة؟ فقال هشام: لا أعرفه، مخافة أن يرغب فيه أهل الشام، وكان الفرزدق حاضراً فقال: أنا أعرفه، فقال الشامي: من هذا يا أبا فراس؟ فقال:

هذا الذي تعرف البطحاء وطـأتـه

 

والبيت يعرفه والحـل والـحـرم

هذا ابن خير عباد الـلـه كـلـهـم

 

هذا التقي النقي الطاهر الـعـلـم

إذا رأته قـريش قـال قـائلـهـا:

 

إلى مكارم هذا ينتـهـي الـكـرم

ينمي إلى ذروة العز التي قصـرت

 

عن نيلها عرب الإسلام والعـجـم

يكاد يمسكـه عـرفـان راحـتـه

 

ركن الحطيم إذا ما جاء يسـتـلـم

في كفه خـيزران ريحـه عـبـق

 

من كف أروع في عرنينه شـمـم

يغضي حياء ويغضى من مهابـتـه

 

فمـا يكـلـم إلا حـين يبـتـسـم

ينشق نور الهدى عن نور غـرتـه

 

كالشمس ينجاب عن إشراقها الظلم

مشتقة من رسول اللـه نـبـعـتـه

 

طابت عناصره والخـيم والـشـيم

هذا ابن فاطمة إن كنت جـاهـلـه

 

بجده أنبياء الـلـه قـد خـتـمـوا

الله شـرفـه قـدمـاً وعـظـمـه

 

جرى بذاك له في لوحه الـقـلـم

فليس قولك مـن هـذا بـضـائره

 

العرب تعرف من أنكرت والعجـم

كلتا يديه غـياث عـم نـفـعـهـا

 

تستوكفان ولا يعـروهـمـا عـدم

سهل الخليقة لا تخـشـى بـوادره

 

يزينه اثنان حسن الخلـق والـشـيم

حمال أثـقـال أقـوام إذا فـدحـوا

 

حلو الشمائل تحلو عـنـده نـعـم

ما قـال إلا فـي تـشــهـــده

 

لولا التشهـد كـانـت لاءه نـعـم

لا يخلف الوعد مأمون نـقـيبـتـه

 

رحب الفناء أريب حـين يعـتـزم

عم البرية بالإحسان فانـقـشـعـت

 

عنها الغياية والإمـلاق والـعـدم

من معشر حبهم دين وبغـضـهـم

 

كفر وقربهم منجى ومـعـتـصـم

إن عد أهل التقى كانوا أئمـتـهـم

 

أوقيل من خير أهل الأرض قيل هم

لا يستطيع جواد بـعـد غـايتـهـم

 

ولا يدانيهـم قـوم وإن كـرمـوا

هم الغـيوث إذا مـا أزمة أزمـت

 

والأسد أسد الشرى والبأس محتـدم

لا ينقص العسر بسطاً من أكفـهـم

 

سيان ذلك إن ثـروا وإن عـدمـوا

مقدم بعـد ذكـر الـلـه ذكـرهـم

 

في كل بدء ومختوم بـه الـكـلـم

يأبى أن يحـل الـذم سـاحـتـهـم

 

خيم كريم وأيدٍ بالـنـدى هـضـم

أي الخلائق ليست فـي رقـابـهـم

 

لأولـية هـذا أو لـه نــعـــم

من يعرف اللـه يعـرف أولـية ذا

 

والدين من بيت هذا نـالـه الأمـم

 

فلما سمع هشام هذه القصيدة غضب وحبس الفرزدق، وأنفذ له زين العابدين اثني عشر ألف درهم، فردها وقال: مدحته لله تعالى لا للعطاء، فقال: إنا أهل بيت إذا وهبنا شيئاً لا نستعيده، فقبلها. وقال محمد بن حبيب المقدم ذكره: صعد الوليد بن عبد الملك المنبر، فسمع صوت ناقوس فقال: ما هذا؟ قيل البيعة، فأمر بهدمها، وتولى بعض ذلك بيده، فتتابع الناس يهدمون، فكتب إليه الأخرم ملك الروم: إن هذه البيعة قد أقرها من قبلك، فإن يكونوا أصابوا فقد أخطأت وإن تكن أصبت فقد أخطأوا، فقال: من يجيبه؟ فقال الفرزدق: تكتب إليه: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيهم غنم القوم، وكنا لحكمهم شاهدين، ففهمناها سليمان، وكلا آتينا حكماً وعلماً - الآية).


وأخبار الفرزدق مثيرة والاختصار أولى.


وتوفي بالبصرة سنة عشر ومائة قبل جرير بأربعين يوماً، وقيل بثمانين يوماً، وقال أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب " شذوذ العقود ": إنهما توفيا سنة إحدى عشرة ومائة. وقال السكري: إن الفرزدق لقي علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وتوفي سنة عشر، وقيل اثنتي عشرة، قيل أربعة عشر وومائة.


وقال ابن قتيبة في " طبقات الشعراء ": إن الفرزدق أصابته الدبيلة، فقدم به البصرة، وأتى الطبيب فسقاه قاراً أبيض، فجعل يقول: أتعجلون لي القار وأنا في الدنيا، ومات وقد قارب المائة، والله أعلم. وقد سبق في ترجمة جرير ما قاله لما بلغه وفاة الفرزدق، فأغنى عن الإعادة، رحمهما الله تعالى.


وذكر المبرد في كتاب " الكامل " قال: التقى الحسن البصري والفرزدق في جنازة، فقال الفرزدق للحسن: أتدري ما يقول الناس يا أبا سعيد؟ يقولون: اجتمع في هذه الجنازة خير الناس وشر الناس، قال الحسن: ملا، لست بخيرهم ولست بشرهم، ولكن ما أعددت لهذا اليوم؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدأ رسول الله مذ ستون سنة. فيزعم بعض التميمية أن الفرزدق رؤي في المنام فقيل له: ما صنع بك ربك؟ فقال: غفر لي، فقيل: بأي شيء؟ فقال: بالكلمة التي نازعتها الحسن.


وهمام: بفتح الهاء وتشديد الميم الأولى.


وناجية: بالنون والجيم المكسورة وبعدها ياء مثناة من تحتها.


وعقال: بكسر العين المهملة وفتح القاف.


ومحمد بن سفيان: هو أحد الثلاثة الذين سموا بمحمد في الجاهلية، وذكرهم ابن قتيبة في كتاب " المعارف ". وقال السهيلي في كتاب " الروض الأنف ": لا يعرف في العرب من تسمى بهذا الاسم قبله صلى الله عليه وسلم، إلا ثلاثة طمع آباؤهم حين سمعوا بذكر محمد صلى الله عليه وسلم، وبقرب زمانه وأنه يبعث في الحجاز، أن يكون ولداً لهم، ذكرهم ابن فوزك في كتاب " الفصول " وهم: محمد بن سفيان بن مجاشع جد جد الفرزدق الشاعر، والآخر محمد بن أحيحة بن الجلاح، وهو أخو عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمه، والآخر محمد بن حمران من ربيعة، وكان آباؤهم هؤلاء الثلاثة قد وفدوا على بعض الملوك، وكان عنده علم الكتاب الأول، فأخبرهم بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وباسمه، وكان كل واحد منهم قد خلف امرأته حاملاً، فنذر كل واحد منهم إن ولد له ذكر يسميه محمداً، ففعلوا ذلك.


وأما مجاشع: فهو بضم الميم وفتح الجيم وبعد الألف شين معجمة مكسورة ثم عين مهملة.


ودارم: بفتح الدال المهملة وبعد الألف راء مكسورة وبعدها ميم. وبقية النسب معروف.


والفرزدق: بفتح الفاء والراء وسكون الزاي وفتح الدال المهملة وبعدها قاف، وهو لقب عليه. واختلف كلام ابن قتيبة في تلقيبه به، فقال في " أدب الكاتب ": الفرزدق: قطع العجين، واحدتها فرزدقة، وإنما لقب به لأنه كان جهم الوجه، وقال في كتاب " طبقات الشعراء ": إنما لقب بالفرزدق لغلظه وقصره، شبه بالفتيتة التي تشربها النساء، وهي الفرزدقة. والقول الأول أصح، لأنه كان أصابه الجدري في وجهه ثم برأ منه، فبقي وجهه جهماً متغضناً، ويروى أن رجلاً قال له: يا أبا فراس، كأن وجهك أحراح مجموعة، فقال له: تأمل، هل فيها حر أمك،. والأحراح - بحاءين مهملتين - جمع حرح، وهو الفرج، فحذفت في المفرد حاؤه الثانية، فبقي حراً، ومتى عادت الحاء الثانية، فقالوا: أحراح لأن الجموع ترد الأشياء إلى أصولها.


 وكانت زوجة الفرزدق ابنة عمه، وهي النوار - بفتح النون - ابنة أعين بن ضبيعة بن عقال المجاشعي، وجدها ضبيعة الذي عقر الجمل الذي كانت عليه عائشة أم المؤمنين يوم وقعة الحمل، رضي الله عنها، وكان قد خطبها - يعني النوار - رجل من قريش، فبعثت إلى الفرزدق تسأله أن يكون وليها إذ كان ابن عمها، فقال: إن بالشام من هو أقرب من إليك، وما أنا آمن أن يقدم قادم منهم فينكر ذلك علي، فأشهدي أنك قد جعلت أمرك إلي، ففعلت، فخرج بالشهود، وقال لهم: قد أشهدتكم أنها جعلت أمرها لي، وأنا أشهدكم أني قد تزوجتها على مائة ناقة حمراء سود الحدق، فغضبت من ذلك واستعدت عليه، وخجي إلى عبد الله ابن الزبير، وأمر الحجاز والعراق يومئذ إليه، وخرج الفزردق أيضاً، فأما النوار فنزلت على خولة بنت منظور بن زبان، الفزاري، امرأة عبد الله بن الزبير فرققتها وسألتها الشفاعة لها، وأما الفرزدق فنزل على حمزة بن عبد الله بن الزبير، وهو ابن خولة المذكورة، ومدحه فوعده، الشفاعة، فتكلمت خولة في النوار وتكلم حمزة في الفرزدق، فأنجحت خولة، وأمر عبد الله بن الزبير أن لا يقربها، حتى يصيرا إلى البصرة، فيحتكما إلى عامله عليها، فخرجا، وقال الفرزدق في ذلك:

أما بنوه فلم تنجح شفاعتـهـم

 

وشفعت بنت منظور بن زبانا

ليس الشفيع الذي يأتيك متزراً

 

مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا

 

ثم إن الفرزدق اتفق معها، وبقي زماناً لا يواد له ولد، ثم ولد له بعد ذلك عدة أولاد وهم: لبطة وسبطة وحبطة وركضة وزمعة وكلهم من النوار، وليس لواحد من ولده عقب إلا من النساء. وقال ابن خالويه: ومن أولاد الفرزدق: كلطة وجلطة، والله أعلم.
ثم إن الفرزدق طلق النوار لأمر يطول شرحه فندم على ذلك. وله فيها أشعار، فمنها قوله:

ندمت ندامة الكسعي لمـا

 

غدت مني مطلقة نـوار

وكانت جنتي فخرجت منها

 

كآدم حين أخرجه الضرار

 

وله في ذلك أخبار ونوادر يطول شرحها، وليس هذا موضع استيفائه ومات للفرزدق ابن صغير، فصلى عليه، ثم التفت إلى الناس وقال:

وما نحن إلا مثلهم غير أننا

 

أقمنا قليلاً بعدهم وترحلوا

فمات بعد ذلك بأيام قلائل.