ياقوت الرومي أبو الدر

أبو الدر ياقوت بن عبد الله الرومي، الملقب مهذب الدين، الشاعر المشهور، مولى أبي منصور الجيلي التاجر، اشتغل بالعلم وأكثر من الأدب، واستعمل قريحته في النظم فأجاد فيه، ولما تميز ومهر سمى نفسه عبد الرحمن، وكان مقيماً بالمدرسة النظامية ببغداد، وعده ابن الدبيثي في كتاب " الذيل " في جملة من اسمه عبد الرحمن، وذكر أنه نشأ ببغداد، وحفظ القرآن العزيز وقرأ شيئاً من الأدب وكتب خطاً حسناً وقال الشعر وأكثر النظم منه في الغزل والتصابي وذكر المحبة، وراق شعره وتحفظه الناس، وأورد له مقطوعاً من الشعر وذكر أنه أنشده إياه، وهو:

خليلي لا والله ما جن غاسق

 

وأطلم إلا حن أو جن عاشق

 

وبقيته في المجموع الصغير وأشعاره سائرة يتغنى بها، وهي رقيقة لطيفة فمن ذلك قوله:

إن غـاض دمـعـك والأحـبـاب قـد بــانـــوا

 

فكـل مـا تـدعــي زور وبـــهـــتـــان

وكـيف تـأنـس أو تـنـسـى خــيالـــهـــم

 

وقـد خـلا مـنــهـــم ربـــع وأوطـــان

لا أوحـش الـلـه مـن قـومٍ نــأوا فـــنـــأى

 

عن الـنـواظـر أقـمـــار وأغـــصـــان

ساروا فـسـار فـؤادي إثـر ظـعــنـــهـــم

 

وبـان جـيش اصـطـبـاري سـاعة بــانـــوا

لا افـتـر ثـغـر الـثـرى مـن بـعـد بـعـدهـم

 

ولا تـــرنــــــح أيك لا ولا بـــــــان

أجـرى دمـوعـي وأذكـى الـنـار فـي كـبـدي

 

غداة بـــينـــهـــم هـــم وأحــــزان

طوفـان نـوحٍ ثـوى فـي مـقـلـتــي وفـــي

 

طي الـحـشـا لـخـلـيل الــلـــه نـــيران

لو كـابـد الـصـخـر مـا كـابـدت مـن كـمـدٍ

 

فتـكـم لـجـاد لـه أحــد ولـــبـــنـــان

وذاب يذبـل مـن وجـــدي ورض عـــلـــى

 

رضـوى ولان لـمـا ألـقـــاه ثـــهـــلان

يا من تملك رقي حسن سلطان حسنك مالي منه إحسان

 

 

كن كيف شئت فمالي بدلاً عنك من بدلٍ

 

أنـت الـزلال لـقـلـبـي وهـو ظـــمـــآن

 

ومن شعره أيضاً:

ألا مبلغ وجدي بها وغـرامـي

 

ومهدٍ إلى دار السلام سلامـي

نسيم الصبا بلغ تحـية مـشـئم

 

إلى معرق لم يرع عهد ذمامي

وصف بعض أشواقي إليه لعلـه

 

يرق لذلي في الهوى وهيامـي

أيا رحبة الزوراء لي فيك شادن

 

نفى بعده من مقلتي منـامـي

بديع جمالٍ بان صبري لبـينـه

 

وعرضني إعراضه لحمامـي

يصد إذا ما صد عن عيني الكرى

 

ويمزج دمعي هجره بمدامـي

حياتي وموتي في يديه وجنـتـي

 

وناري وريي في الهوى وأوامي

ففي بعده عني وفاتي، وقـربـه

 

حياتي وإسعادي ونيل مـرامـي

ومن وجنتيه نار وجدي، وخصره

 

نحولي، ومن سقم الجفون سقامي

فكـن عـاذلـي فــدلالـــه

 

دليل على وجدي به وغـرامـي

 

ورأيت كثيراً من الفقهاء بالشام وبلاد الشرق يحفظون له قصيدة أولها:

جسدي لبعـدك يا مـثـير بـلابـلـي

 

دنف بحبك مـا أبـل، بـلـى بـلـي

يا مـن إذا مـا لام فـيه لـوائمــي

 

أوضحت عذري بالـعـذار الـسـائل

أأجيز قتلي في " الوجيز " لـقـاتـلـي

 

أم حل في " التهذيب " أم في " الشامل "

أم في " المهذب " أن يعـذب عـاشـق

 

ذو مقلة عـبـرى ودمـع هـاطـل

أم طرفك الفتـاك قـد أفـتـاك فـي

 

تلف النفوس بسحر طرف بـابـلـي

 

وهي أكثر من هذا، لكن هذا هو الذي أستحضره في هذا الوقت منها.


وأنشدني له بعض الأدباء بمدينة حلب أبياتاً، منها قوله:

ألست من الولدان أحلى شمائلا

 

فكيف سكنت القلب وهو جهنم

 

ثم قال: وقد انتقدوا عليه في بغداد في هذا البيت، فأفكر فيه ثم قلت له: لعل الانتقاد من جهة أنه يلزم من كونه أحلى شمائل من الولدان أنه لا يكون في جهنم، فإنه قد يكون أحلى شمائل منهم، وليس الممتنع إلا لأن يكون الولدان في جهنم، فقال: نعم هذا هو الذي أخذ عليه.


وأخبرني بعض الأفاضل بمدينة أربل في سنة خمس وعشرين وستمائة، قال: كنت ببغداد ف سنة عشرين وستمائة بالمدرسة النظامية، فقعدت يوماً على بابها إلى جانب أبي الدر المذكور ونحن نتذاكر الأدب، إذ جاء شيخ ضعيف القوى والحال يتوكأ على عصا، فجلس قريباً منا، فقال لي أبو الدر: أتعرف هذا؟ فقلت: لا، فقال: هذا مملوك الحيص بيص، الذي يقول فيه:

تشرب أو تقمص أو تقبى

 

فلن تزداد عندي قط حبا

تملك بعض حبك كل قلبي

 

فإن ترد الزيادة هات قلبا

 

قال: فجعلت أنظر إليه، وأفكر فيما كان عليه، وما آل حاله إليه، ولقد طلبت أنا هذين البيتين في ديوان الحيص بيص فلم أجدهما فيه، والله أعلم.


ولأبي الدر المذكور ديوان شعر سمعت أنه صغير ولم أقف عليه، بل على مقاطيع كثيرة منه، وشعره متداول بالعراق وبلاد الشرق والشام، ويكفي منه هذا القدر - وقد تقدم في حرف الخاء في ترجمة الشيخ الخضر بن عقيل الإربلي له ثلاثة أبيات دالية - ثم إني ملكت من ديوانه نسختين في سنة سبع وستين بدمشق المحروسة، وهو صغير الحجم يدخل في عشر كراريس.


ورأيت في بعض التواريخ المتأخرة أن أبا الدر المذكور وجد ميتاً بمنزله ببغداد في الثاني عشر من جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وقال الناس: إنه توفي قبل ذلك بأيام، رحمه الله تعالى.


وقال ابن النجار في " تاريخ بغداد " وجد أبو الدر في داره ميتاً، يوم الأربعاء خامس عشر جمادى الأولى من السنة، وكان قد أخرج من النظامية فسكن في دار بدرب دينار الصغير، ولم يعلم متى مات، وأظنه ناطح الستين، والله أعلم.


والرومي: بضم الراء وسكون الواو وبعدها ميم، هذه النسبة إلى بلاد الروم، وهو إقليم مشهور متسع كثير البلاد.


وها هنا نكتة غريبة يحتاج إليها ويكثر السؤال عنها، وهي: أن أهل الروم يقال لهم " بنو الأصفر "، واستعملته الشعراء في أشعارهم، فمن ذلك قول عدي بن زيد العبادي من جملة قصيدته المشهورة:

وبنو الأصفر الكرام ملوك الرو

 

م لم يبق منـهـم مـذكـور

ولقد تتبعت ذلك كثيراً فلم أجد ما يشفي الغليل، حتى ظفرت بكتاب قديم اسمه " اللفيف " ولم يكتب عليه اسم مؤلفه، فنقلت من ما صورته:  عن العباس عن أبيه قال: انخرم ملك الروم في الزمان الأول، فبقيت منه امرأة، فتنافسوا في الملك حتى وقع بينهم شر، فاصطلحوا على أن يملكوا أول من يشرف عليهم، فجلسوا مجلساً لذلك، وأقبل رجل من اليمن معه عبد له حبشي يريد الروم، فأبق العبد منه، فأشرف عليهم فقالوا: انظروا في أي شيء وقعتم؟ فزوجوه تلك المرأة، فولدت غلاماً فسموه " الأصفر "، فخاصمهم المولى، فقال الغلام: صدق أنا عبده فارضوه، فأعطوه حتى رضي، فبسبب ذلك قيل للروم بنو الأصفر، لصفرة لون الولد، لكونه مولداً بين الحبشي والمرأة البيضاء، والله أعلم.