الهيثم بن عدي

أبو عبد الرحمن الهيثم بن عدي بن عبد الرحمن بن زيد بن أسيد بن جابر بن عدي بن خالد بن خيثم بن أبي حارثة بن جدي بن تدول بن بحتر بن عتود بن عنين بن سلامان بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن جلهمة، وهو طيء، الطائي الثعلي البحتري الكوفي، كان راوية أخبارياً، نقل من كلام العرب وعلومها وأشعارها ولغاتها المثير، وكان أبوه نازلاً بواسط، وكان خيراً. وكان الهيثم يتعرض لمعرفة أصول الناس ونقل أخبارهم، فأورد معايبهم وأطهرها وكانت مستورة فكره لذلك، ونقل عنه أنه ذكر العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه بشيء، فحبس لذلك عدة سنين، ويقال إنه نقل زوراً، ولبسوا عليه ما لم يقل، وكان قد صاهر قوماً فلم يرضوه، فأذاعوا ذلك عنه، وحرفوا الكلام. وكان يرى رأي الخوارج.

وله من الكتب المصنفة كتاب " المثالب "، وكتاب " المعمرين "، وكتاب " بيوتات العرب "، وكتاب " هبوط آدم عليه السلام "، و" افتراق العرب ونزول منازلها، وكتاب " نزول العرب بخراسان والسواد "، وكتاب " نسب طي "، وكتاب " مديح أهل الشام "، وكتاب " تاريخ العجم وبني أمية "، وكتاب " الوفود "، وكتاب " خطط الكوفة "، وكتاب " ولاة الكوفة "، وكتاب " تاريخ الأشراف الكبير "، وكتاب " تاريخ الأشراف الصغير "، وكتاب " طبقات الفقهاء والمحدثين "، وكتاب " كنى الأشراف "، وكتاب " خواتيم الخلفاء "، وكتاب " قضاة الكوفة والبصرة "، وكتاب " المواسم "، وكتاب " الخوارج "، وكتاب " النوادر "، وكتاب " التاريخ على السنين "، وكتاب " أخبار الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ووفاته" وكتاب " أخبار الفرس "، وكتاب " عمال الشرط لأمراء العراق " وغير ذلك من التصانيف.

واختص بمجالسة المنصور والمهدي والهادي والرشيد وروى عنهم.

قال الهيثم: قال لي المهدي: ويحك يا هيثم، إن الناس يخبرون عن الأعراب شحاً ولؤماً وكرماً وسماحاً، وقد اختلفوا في ذلك، فما عندك؟ فقلت: على الخبير سقطت، خرجت من عند أهلي أريد ديار فرائد لي، ومعي ناقة أركبها، إذ ندت فذهبت، فجعلت أتبعها حتى أمسيت فأدركتها، ونظرت فإذا خيمة أعرابي فأتيتها، فقالت ربة الخباء: من أنت؟ فقلت: ضيف، فقالت: وما يصنع الضيف عندنا؟ إن الصحراء لواسعة، ثم قامت إلى بر فطحنته، ثم عجنته وخبزته وقعدت فأكلت، ولم ألبث أن أقبل زوجها ومعه لبن، فسلم ثم قال: من الرجل؟ فقلت: صيف، فقال: مرحباً حياك الله، فدخل الخباء وملأ قعباً من لبن، ثم أتاني به وقال: اشرب، فشربت شراباً هنيئاً، فقال: ما أراك أكلت شيئاً، وما أراها أطعمتك، فقلت: لا والله، فدخل إليها مغضباً وقال: ويلك أكلت وتركت ضيفك، فقالت: وما أصنع به؟ أطعمه طعامي؟ وجاراها في الكلام حتى شجها، ثم أخذ شفرة وخرج إلى ناقتي فنحرها فقلت: ما صنعت عافاك الله؟ لا والله لا يبيت ضيفي جائعاً، ثم جمع حطباً وأجج ناراً، وأقبل يكبب ويطعمني ويأكل ويلقي إليها ويقول: كلي لا أطعمك الله، حتى إذا أصبح تركني ومضى، فقعدت مغموماً، فلما تعالى النهار أقبل ومعه بعير ما يسأم الناظر أن ينظر إليه، فقال: هذا مكان ناقتك، ثم زودني من ذلك اللحم ومما حضره، وخرجت من عنده، فضمني الليل إلى خباء، فسلمت، فردت صاحبة الخباء السلام وقالت: من الرجل؟ فقلت: ضيف، فقالت: مرحباً بك وحياك الله وعافاك، فنزلت، ثم عمدت إلى بر فطحنته وعجنته، ثم خبزته خبزة روتها بالزبد واللبن، ثم وضعته بين يدي فقالت: كل واعذر، فلم ألبث أن أقبل أعرابي كريه الوجه، فسلم فرددت عليه السلام، فقال: من الرجل؟ قلت: ضيف، قال: وما يفعل الضيف عندنا، ثم دخل إلى أهله، فقال: أين طعامي؟ فقالت: أطعمته للضيف، فقال: أتطعمين الضيف طعامي؟ فتجاريا الكلام، فرفع عصاه وضرب بها رأسها فشجها، فجعلت أضحك، فخرج إلي فقال: ما يضحكك؟ قلت: خير، فقال: والله لتخبرني، فأخبرته بقضية المرأة والرجل اللذين نزلت عندهما قبله، فأقبل علي وقال: إن هذه التي عندي هي أخت ذلك الرجل، وتلك التي عنده أختي. فبت ليلتي متعجباً وانصرفت.

ويقرب من هذه الحكاية ما روي أن رجلاً من الأولين كان يأكل وبين يديه دجاجة مشوية، فجاءه سائل فرده خائباً، وكان الرجل مترفاً فوقع بينه وبين امرأته فرقة، وذهب ماله، وتزوجت امرأته، فبينما الزوج الثاني يأكل وبين يديه دجاجة مشوية جاءه سائل فقال لامرأته: ناوليه الدجاجة، فناولته، ونظرت إليه فإذا هو زوجها الأول، فأخبرته بالقصة، فقال الزوج الثاني: أنا والله ذلك المسكين الأول الذي خيبني، فحول الله نعمته وأهله إلي لقلة شكره.

وحكى الهيثم أيضاً قال: صار سيف عمرو بن معديكرب الزبيدي الذي يسمى بالصمصامة إلى موسى الهادي بن المهدي، وكان عمرو قد وهبه لسعيد بن العاص الأموي، فتوارثه ولده، إلى أن مات المهدي واشتراه موسى الهادي منهم بمال جليل، وكان من أوسع بني العباس كفا وأكثرهم عطاء، فجرد الصمصامة وجعلها بين يديه وأذن للشعراء فدخلوا عليه، ودعا بمكتل فيه بدرة، وقال: قولوا في هذا السيف، فبدر ابن يامين البصري وأنشد:

حاز صمصامة الزبيدي من بـي

 

ن جميع الأنام موسـى الأمـين

سيف عمرو وكان فيما سمعـنـا

 

خير ما أغمدت عليه الجـفـون

أخضر اللون بـين حـديه بـرد

 

من ذباح تبين فـيه الـمـنـون

أوقدت فوقه الصـواعـق نـاراً

 

ثم شابت فيه الزعاف الـقـيون

فإذا ما سللـتـه بـهـر الـشـم

 

س ضياء فلم تكد تـسـتـبـين

ما يبالي من انتضـاه لـضـرب

 

أشـمـال بـــه أم يمـــين

يستطير الأبصار كالقبس المـش

 

عل ما تستقـر فـيه الـعـيون

وكأن الفرند والجوهـر الـجـا

 

ري في صفحتيه مـاء مـعـين

نعم مخراق ذي الحفيظة في الهي

 

جاء بعصى به ونعـم الـقـرين

 

فقال الهادي: أصبت والله ما في نفسي، واستخفه السرور، فأمر له بالمكتل والسيف، فلما خرج من عنده قال للشعراء: إنما حرمتم من أجلي، فشأنكم والمكتل، ففي السيف غنائي، فاشترى منه السيف بمال جزيل، وقال المسعودي في كتاب " مروج الذهب ": اشتراه منه بخمسين ألفاً، ولم يذكر هذه الأبيات إلا بعضها.


والذباح: بضم الذال المعجمة وفتح الباء الموحدة وبعد الألف حاء مهملة، وهو نبت قتال لسميته، وقد جاء كثيراً في الشعر.


ويعصى - بفتح الصاد - يقال: عصي بكسر الصاد يعصى إذا ضرب بالسيف، وهو خلاف عصى يعصي إذا ارتكب الذنب.


وحكى المسعود في " مروج الذهب " في ولاية هشام بن عبد الملك أن الهيثم بن عدي المذكور روى عن عمر بن هانئ الطائي قال: خرجت مع عبد الله بن علي، وهو عم السفاح والمنصور، فانتهينا إلى قبر هشام بن عبد الملك، فاستخرجناه صحيحاً ما فقد منه إلا خرمة أنفه، فضربه عبد الله ثمانين سوطاً، ثم أحرقه، واستخرجنا سليمان بن عبد الملك من أرض دابق، فلم نجد منه شيئاً إلا صلبه وأضلاعه ورأسه، فأحرقناه، وفعلنا ذلك بغيرهما من بني أمية، وكانت قبورهم بقنسرين. ثم انتهينا إلى دمشق فأخرجنا الوليد بن عبد الملك فما وجدنا في قبره لا قليلاً ولا كثيراً، وأحتفرنا عن عبد الملك فما وجدنا إلا رأسه، ثم احتفرنا عن يزيد بن معاوية فما وجدنا منه إلا عظماً واحداً، ووجدنا مع لحده خطاً أسود كأنما خط بالرماد بالطول في لحده، ثم تتبعنا قبورهم في جميع البلدان فأحرقنا ما وجدنا فيها منهم.


وكان سبب فعل عبد الله ببني أمية هذا الفعل أن زيد بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم - وقد سبق ذكره في ترجمة الوزير محمد بن بقية - خرج على هشام بن عبد الملك وسمت نفسه إلى طلب الخلافة، وتبعه خلق من الأشراف والقراء، فحاربه يوسف بن عمر الثقفي أمير العراقين - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - فانهزم أصحاب زيد وبقي في جماعة يسيرة، فقاتلهم أشد قتال وهو يقول متمثلاً:

ذل الحياة وعـز الـمـمـات

 

وكلا أراه طـعـامـاً وبـيلا

فإن كـان لا بـد مـن واحـد

 

فسيري إلى الموت سيراً جميلا

 

وحال المساء بين الفريقين، فانصرف زيد مثخناً بالجراح، وقد أصابه سهم في جبهته، فطلبوا من ينزع النصل، فأتي بحجام من بعض القرى، فاستكتموه أمره فاستخرج النصل، فمات من ساعته، فدفنوه في ساقية ماء وجعلوا على قبره التراب والحشيش وأجروا الماء على ذلك، وحضر الحجام مواراته فعرف الموضع، فلما أصبح مضى إلى يوسف منتصحاً له، فدله على موضع قبره، فاستخرجه يوسف وبعث رأسه إلى هشام، فكتب إليه هشام: أن اصلبه عرياناً، فصلبه يوسف كذلك، ففي ذلك يقول بعض شعراء بني أمية يخاطب آل أبي طالب وشيعتهم من جملة أبيات:

صلبنا لكم زيداً على جذع نخـلة

 

ولم أر مهدياً على الجذع يصلب

 

وبنى تحت خشبته عموداً، ثم كتب هشام إلى يوسف يأمره بإحراقه وتذريته في الرياح، وكان ذلك في سنة إحدى وعشرين، وقيل اثنتين وعشرين ومائة.


وذكر أبو بكر ابن عياش وجماعة من الأخباريين أن زيداً أقام مصلوباً خمس سنين فلم ير له عورة ستراً من الله سبحانه وتعالى له، وقال بعضهم: إن العنكبوت نسج على عورته، وذلك بالكناسة بالكوفة. فلما كان في أيام الوليد بن يزيد وظهر ولده يحيى بن زيد بخراسان، وهي واقعة مشهورة، كتب الوليد إلى عامله بالكوفة: أن أحرق زيدأ بخشبته، ففعل ذلك، وأذرى رماده في الرياح على شاطئ الفرات، والله تعالى أعلم أي ذلك كان. فهذا الذي حمل عبد الله ابن علي على ما فعله ببني أمية، انتصاراً لبني عمه وانتقاماً لهم بنظير ما فعل بهم.


وقال الهيثم أيضاً: استعلمت على صدقات بني فزارة، فجاءني رجل منهم فقال: أريك عجباً؟ فقلت: بلى، فانطلق إلى جبل شاهق فإذا فيه صدع، فقال لي: ادخل، فقلت: إنما يدخل الدليل، قال: فدخل فاتبعته، ودخل معنا أناس، فكان ربما ضاق الجبل واتسع، فإذا نحن بضوء، فدنونا منه، وإذا خرق ذاهب في الأرض، وإذا عكاكيز في الجبل، فجذبناها فإذا هي سهام عاد، وإذا كتاب منقور في الجبل مقدار إصبعين أو أكثر، وإذا هو كتاب بالعربية، وهو:

ألا هل أبيات سفح بذي الـلـوى

 

لوى الرمل فاصدقن النفوس معاد

بلاد لنا كانت وكنا نحبهـا

 

إ للناس ناس، والبلاد بلاد

 

وروي أن أبا نواس الحسن بن هانئ الحكمي الشاعر - المقدم ذكره - حضر مجلس الهيثم بن عدي في حداثته، والهيثم لا يعرفه، فلم يستدنه ولا قرب مجلسه، فقام مغضباً، فسأل الهيثم عنه، فخبر باسمه، فقال: إنا لله! هذه والله بلية لم أجنها على نفسي، قوموا بنا إليه لنعتذر، فصاروا إليه، ودق الباب عليه وتسمى له، فقال: ادخل، فدخل هو قاعد يصفي نبيذاً له، وقد أصلح بيته بما يصلح به مثله، فقال: المعذرة إلى الله تعالى وإليك، والله ما عرفتك وما الذنب إلا لك حيث لم تعرفنا نفسك فنقضي حقك ونبلغ الواجب من برك، فأظهر له قبول العذر، فقال الهيثم: أستعهدك من قول يسبق منك في، فقال: ما قد مضى فلا حيلة فيه، ولك الأمان فيما استأنف، فقال: وما الذي مضى جعلت فداك؟ قال: بيت مر وأنا فيما ترى -يعني من الغضب- قال: فتنشدنيه، فدافعه، فألح عليه فأنشده:

يا هيثم بن عدي لست للعـرب

 

ولست من طيئ إلا على شغب

إذا نسبت عدياً في بني ثـعـل

 

فقدم الدال قبل العين في النسب

 

فقام من عنده، ثم بلغه بعد ذلك بقية الأبيات وهي:

للهيثم بن عـدي فـي تـلـونـه

 

في كل يوم له رجل على خشب

فما زال أخا حـل ومـرتـحـل

 

إلى الموالي وأحيانا إلى العـرب

له لسـان يزجـيه بـجـوهـره

 

كأنه لم يزل يغدى على قـتـب

كأنني بك فوق الجسر منتصـبـاً

 

على جواد قريب منك في الحسب

حتى نراك وقد درعته قـمـصـاً

 

من الصديد مكان الليف والكرب

لله أنت فما قربـى تـهـم بـهـا

 

إلا اجتلبت لها النساب من كثـب

 

فعاد الهيثم إلى أبي نواس، وقال له: يا سبحان الله! أليس قد أمنتني وجعلت لي عهداً أن لا تهجوني! فقال: إنهم يقولون ما لا يفعلون.


وأخبار الهيثم كثيرة وقد أطلنا الشرح.


وكانت ولادته قبل سنة ثلاثين ومائة. وتوفي غرة المحرم سنة ست، وقيل سبع ومائتين، وقال ابن قتيبة في كتاب " المعارف ": سنة تسع ومائتين، والله تعالى أعلم بالصواب، رحمه الله تعالى. وله عقب ببغداد. وقال السمعاني في كتاب " الأنساب " في ترجمة البحتري: إنه توفي سنة تسع ومائتين بفم الصلح، وله ثلاث وتسعون سنة، وزاد غيره أن وفاته كانت عند الحسن بن سهل، وقد تقدم في ترجمة بوران أن زواجها بالمأمون كان في هذا التاريخ بهذا الموضع، والظاهر أنه كان في جملة من حضر فتوفي هناك.


وقد تقدم الكلام على الطائي والبحتري.


والثعلي: بضم الثاء المثلثة وفتح العين المهملة وبعدها لام، هذه النسبة إلى ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيء - وقد تقدم تتمة هذه النسبة في ترجمة البحتري في حرف الواو فلتنظر هناك - وتنسب إلى ثعل المذكور عدة بطون: منها بحتر وسلامان وغيرهما.


ومن هذه القبيلة عمرو بن المسبح الثعلي الذي قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفود العرب، فأسلم بالمدينة وهو ابن مائة وخمسين سنة، وكان أرمى العرب وفيه يقول امرؤ القيس حندج بن حجر الكندي الشاعر المشهور:

رب رامٍ من بني ثعلٍ

 

مخرج كفيه من ستره

وهذا من جملة ما استشهد به ابن قتيبة في كتاب " طبقات الشعراء " على قرب زمن امرئ القيس من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه كان قبله بمقدار أربعين سنة. هذا خلاصة ما قاله، والله أعلم.