يحيى بن أكثم

أبو محمد يحيى بن أكثم بن محمد بن قطن بن سمعان بن مشنج، التميمي الأسيدي المروزي، من ولد أكثم بن صيفي التميمي حكيم العرب، وكان عالماً بالفقه بصيراً بالأحكام، ذكره الدارقطني في أصحاب الشافعي، رضي الله عنه.

وقال الخطيب في " تاريخ بغداد ": كان يحيى بن أكثم سليماً من البدعة، ينتحل مذهب أهل السنة، سمع عبد الله بن المبارك وسفيان بن عيينة وغيرهما - وقد مر ذكره في ترجمة سفيان وما دار بينهما - وروى عنه أبو عيسى الترمذي وغيره.

وقال طلحة بن محمد بن جعفر في حقه: يحي بن أكثم أحد أعلام الدنيا ومن قد اشتهر أمره وعرف خبره، ولم يستتر عن الكبير والصغير من الناس فضله وعلمه ورياسته لأمره وأمر أهل زمانه من الخلفاء والملوك، واسع العلم بالفقه كثير الأدب حسن العارضة قائم بكل معضلة، وغلب على المأمون حتى لم يتقدمه أحد عنده من الناس جميعاً. وكان المأمون ممن برع في العلوم، فعرف من حال يحيى بن أكثم وما هو عليه من العلم والعقل ما أخذ بمجامع قلبه، حتى قلده قضاء القضاة وتدبير أهل مملكته فكانت الوزراء لا تعمل في تدبير الملك شيئاً إلا بعد مطالعة يحيى بن أكثم، ولا نعلم أحداً غلب على سلطانه في زمانه، إلا يحيى بن أكثم، وأحمد بن أبي داود.

وسئل رجل من البلغاء عن يحيى بن أكثم وابن أبي داود: أيهما أنبل؟ فقال: كان أحمد يجد مع جاريته وابنته، ويحيى يهزل مع خصمه وعدوه.

"وكان يحيى سليماً من البدعة ينتحل مذهب أهل السنة، بخلاف أحمد بن أبي داود، وقد تقدم في ترجمته طرف من اعتقاده وتعصبه للمعتزلة، وكان يحيى يقول: القرآن كلام الله، فمن قال إنه مخلوق يستتاب فإن تاب ولإلا ضربت عنقه".

وذكر الفقيه أبو الفضل عبد العزيز بن علي بن عبد الرحمن الأشنهي، الملقب زين الدين، في كتاب " الفرائض " في آخر المسائل الملقبات وهي الرابعة عشرة المعروفة بالمأمونية، وهي: أبوان وابنتان لم تقسم التركة حتى ماتت إحدى البنتين وخلفت من في المسألة، سميت مأمونية لأن المأمون أراد أن يولي رجلاً على القضاء فوصف له يحيى بن أكثم فاستحضره، فلما حضر دخل عليه، وكان دميم الخلق، فاستحقره المأمون لذلك، فعلم ذلك يحيى فقال: يا أمير المؤمنين، سلني إن كان القصد علمي لا خلقي، فسأله عن هذه المسألة فقال: يا أمير المؤمنين الميت الأول رجل أم امرأة، فعرف المأمون أنه قد عرف المسألة، فقلده القضاء.

وهذه المسألة إن كان الميت الأول رجلاً تصح المسألتان من أربعة وخمسين، وإن كانت امرأة لم يرث الجد في المسألة الثانية شيئاً لأنه أبو أم، فتصح المسألتان من ثمانية عشر سهماً.

وذكر الخطيب في " تاريخ بغداد " أن يحيى بن أكثم ولي قضاء البصرة وسنه عشرون سنة ونحوها، فاستصغره أهل البصرة، فقالوا: كم سن القاضي؟ فعلم أنه استصغر، فقال: أنا أكبر من عتاب بن أسيد الذي وجه به النبي صلى الله عليه وسلم قاضياً على مكة يوم الفتح، وأنا أكبر من معاذ بن جبل الذي وجه به النبي صلى الله عليه وسلم قاضياً على أهل اليمن، وأنا أكبر من كعب بن سور الذي وجه به عمر بن الخطاب رضي الله عنه قاضياً على أهل البصرة، فجعل جوابه احتجاجاً.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولى عتاب بن أسيد مكة بعد فتحها وله إحدى وعشرون سنة، وقيل ثلاث وعشرون، وكان إسلامه يوم فتح مكة، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أصحبك وأكون معك، فقال: أو ما ترضى أن أستعملك على آل الله تعالى؟ فلم يزل عليهم حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: وبقي يحيى سنة لا يقبل شاهداً، فتقدم إليه أحد الأمناء فقال: أيها القاضي، قد وقفت الأمور وتريثت الأحوال، فقال: وما السبب؟ قال: في ترك القاضي قبول الشهود، فأجاز في ذلك اليوم منها سبعين شاهداً.

وقال غير الخطيب: كانت ولاية القاضي يحيى بن أكثم القضاء بالبصرة سنة اثنتين ومائتين. وقد سبق في ترجمة حماد بن أبي حنيفة أن يحيى المذكور ولي البصرة بعد إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة، وذكر عمر بن شبة في كتاب " أخبار البصرة " أن يحيى عزل عن قضاء البصرة في سنة عشرين ومائتين، وتولى إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة. وحدث محمد بن منصور قال: كنا مع المأمون في طريق الشام فأمر فنودي بتحليل المتعة، فقال يحي بن أكثم لي ولأبي العيناء: بكرا غداً إليه، فإن رأيتما للقول وجهاً فقولا، وإلا فاسكتا إلى أن أدخل، قال: فدخلنا عليه وهو يستاك ويقول وهو مغتاظ: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى عهد أبي بكر رضي الله عنه وأنا أنهي عنهما، ومن أنت يا جعل حتى تنهي عما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه؟ فأومأ أبو العيناء إلى محمد بن منصور وقال: رجل يقول في عمر بن الخطاب ما يقول نكلمه نحن؟ فأمسكنا، فجاء يحيى بن أكثم فجلس وجلسنا، فقال المأمون ليحيى: ما لي أراك متغيراً؟ فقال: هو غم يا أمير المؤمنين لما حدث في الإسلام، قال: وما حدث فيه؟ قال: النداء بتحليل الزنا، قال: الزنا؟ قال: نعم، المتعة زنا، قال: ومن أين قلت هذا؟ قال: من كتاب الله عز وجل، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: (قد أفلح المؤمنون) إلى قوله (والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) المؤمنون: يا أمير المؤمنين زوجة المتعة ملك يمين؟ قال: لا، قال: فهي الزوجة التي عند الله ترث وتورث وتلحق الولد ولها شرائطها؟ قال: لا، قال: فقد صار متجاوز هذين من العادين، وهذا الزهري يا أمير المؤمنين روى عن عبد الله والحسن ابني محمد بن الحنيفة عن أبيهما عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي بالنهي عن المتعة وتحريمها بعد أن كان أمر بها، فالتفت إلينا المأمون فقال: أمحفوظ هذا من حديث الزهري، فقلنا: نعم يا أمير المؤمنين، رواه جماعة منهم مالك رضي الله عنه، فقال: أستغفر الله، نادوا بتحريم المتعة، فنادوا بها. قال أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد بن درهم الزدي القاضي الفقيه المالكي البصري، وقد ذكر يحيى بن أكثم فعظم أمره وقال: كان له يوم في الإسلام لم يكن لأحد مثله، وذكر هذا اليوم.

وكانت كتب يحيى في الفقه أجل كتب، فتركها الناس لطولها، وله كتب في الأصول، وله كتاب أورده على العراقيين سماه " التنبيه " وبينه، وبين داود بن علي مناظرات كثيرة.

ولقيه رجل وهو يومئذ على القضاء فقال: أصلح الله القاضي كم آكل؟ قال فوق الجوع ودون الشبع، فقال: فكم أضحك؟ قال: حتى يسفر وجهك ولا يعلو صوتك، قال: فكم أبكي؟ قال: لا تمل من البكاء من خشية الله تعالى، قال فكم أخفي عملي؟ قال: ما استطعت، قال: فكم أظهر منه؟ قال: مقدار ما يقتدي بك البر الخير ويؤمن عليك قول الناس، قال الرجل: سبحان الله قول قاطن وعمل ظاعن.

وكان يحيى من أدهى الناس وأخبرهم بالأمور، رأيت في بعض المجاميع أن أحمد بن أبي خالد الأحول وزير المأمون وقف بين يدي المأمون وخرج يحيى بن أكثم من بعض المستراحات، فوقف، فقال له المأمون اصعد، فصعد وجلس على طرف السرير معه، فقال أحمد: يا أمير المؤمنين إن القاضي يحيى صديقي، وممن أثق به في جميع أموري، وقد تغير عما عهدته منه، فقال المأمون: يا يحيى إن فساد أمر الملوك بفساد خاصتهم، وما يعدلكما عندي أحد، فما هذه الوحشة بينكما؟ فقال له يحيى: يا أمير المؤمنين والله إنه ليعلم أني له على أكثر مما وصف، ولكنه لما رأى منزلتي منك هذه المنزلة خشي أن أتغير له يوماً فأقدح فيه عندك، فأحب أن يقول لك هذا ليأمن مني، وإنه والله لو بلغ نهاية ماءتي ما ذكرته بسوء عندك أبداً، فقال المأمون: أكذلك هو يا أحمد؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: أستعين بالله عليكما، فما رأيت أتم دهاء ولا أعظم فطنة منكما.

ولم يكن فيه ما يعاب به سوى ما كان يتهم به من الهنات المنسوبة إليه الشائعة عنه، والله أعلم بحاله فيها، وذكر الخطيب في تاريخه أنه ذكر لأحمد بن حنبل رضي الله عنه ما يرميه الناس به، فقال: سبحان الله، من يقول هذا؟ وأنكر ذلك إنكاراً شديداً. وذكر عنه أيضاً أنه كان يحسد حسداً شديداً، وكان مفنناً. فكان إذا نظر إلى رجل يحفظ الفقه سأله عن الحديث، وإذا رآه يحفظ الحديث سأله عن النحو، وإذا رآه يعلم النحو سأله عن الكلام، ليقطعه ويخجله، فدخل إليه رجل من خراسان ذكي حافظ، فناظره، فرآه مفنناً، فقال له: نظرت في الحديث؟ قال: نعم، قال: ما تحفظ من الأصول؟ قال: أحفظ عن شريك عن أبي إسحاق عن الحارث أن علياً رضي الله عنه رجم لوطياً، فأمسك ولم يكلمه.

ثم قال الخطيب أيضاً: ودخل على يحيى بن أكثم ابنا مسعدة، وكانا على نهاية الجمال، فلما رآهما يمشيان في الصحن أنشأ يقول:

يا زائرينا مـن الـخـيام

 

حياكم الله بـالـسـلام

لم تأتياني وبي نهـوض

 

إلى حـلالٍ ولا حـرام

يحزنني أن وقفتمـا بـي

 

وليس عندي سوى الكلام

 

ثم أجلسهما بين يديه وجعل يمازحهما حتى انصرفا. ويقال إنه عزل عن الحكم بسبب هذه الأبيات.


ورأيت في بعض المجاميع أن يحيى بن أكثم مازح الحسن بن وهب المذكور في ترجمة أخيه سليمان بن وهب، وهو يومئذ صبي، فلاعبه ثم جمشه، فغضب الحسن، فأنشد يحيى:

أيا قمراً جمشته فتـغـضـبـا

 

وأصبح لي من تيهه متجنـبـا

إذا كنت للتجميش والعض كارهاً

 

فكن أبداً يا سيدي متـنـقـبـاً

ولا تظهر الأصداغ للناس فتـنةً

 

وتجعل منها فوق خديك عقربا

فتقتل مسكيناً وتفتـن نـاسـكـاً

 

وتترك قاضي المسلمين معذبـا

 

وقال أحمد بن يونس الضبي: كان زيدان الكاتب يكتب بين يدي يحيى بن أكثم القاضي، وكان غلاماً جميلاً متناهي الجمال، فقرص القاضي خده، فخجل الغلام واستحيا وطرح القلم من يده، فقال له يحيى: خذ القلم واكتب ما أملي عليك، ثم أملى الأبيات المذكورة، والله أعلم.


وقال إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الصفار: سمعت أبا العيناء في مجلس أبي العباس المبرد يقول: كنت في مجلس أبي عاصم النبيل، وكان أبو بكر بن يحيى بن أكثم حاضراً، فنازع غلاماً فارتفع الصوت، فقال أبو عاصم: مهيم؟ فقالوا: هذا أبو بكر بن يحيى بن أكثم ينازع غلاماً، فقال: إن يسرق فقد سرق أب له من قبل، هكذا ذكره الخطيب في تاريخه.


وذكر الخطيب أيضاً في تاريخه أن المأمون قال ليحيى المذكور من الذي يقول؟:

قاضٍ يرى الحد في الزناء ولا

 

يرى على من يلوط من باس

 

قال: أو ما يعرف أمير المؤمنين من القائل؟ قال: لا، قال: يقوله الفاجر أحمد بن أبي نعيم الذي يقول:

لا أحسب الجور ينقضي وعلى ال

 

أمة والٍ مـن آل عـبـــاس

 

قال: فأفحم المأمون خجلاً، وقال ينبغي أن ينفى أحمد بن أبي نعيم إلى السند، وهذان البيتان من جملة أبيات أولها:

أنطقني الدهـر بـعـد إخـراس

 

لنائبـات أطـلـن وسـواسـي

يا بؤس للدهـر لا يزال كـمـا

 

يرفع ناسـاً يحـط مـن نـاس

لا أفلـحـت أمة وحـق لـهـا

 

بطول نكسٍ وطـول إتـعـاس

ترضى بيحيى يكون سـائسـهـا

 

وليس يحـيى لـهـا بـسـواس

قاضٍ يرى الحد في الزنـاء ولا

 

يرى على من يلوط مـن بـاس

يحكم للأمرد الـغـرير عـلـى

 

مثل جـرير ومـثـل عـبـاس

فالحمد لله كـيف قـد ذهـب ال

 

عدل وقل الوفاء فـي الـنـاس

أميرنا يرتـشـي وحـاكـمـنـا

 

يلوط والـرأس شـر مـا راس

لو صلح الدين فاستـقـام لـقـد

 

قام على الناس كـل مـقـياس

لا أحسب الجور ينقضي وعلى ال

 

أمة والٍ مـن آل عـبـــاس

 

وظني أنها أكثر من هذا، ولكن الخطيب لم يذكر إلا هذا القدر. ونقلت من أمالي أبي بكر محمد بن القاسم الأنباري - المقدم ذكره - أن القاضي يحيى بن أكثم قال لرجل يأنس به ويمازحه: ما تسمع الناس يقولون في؟ قال: ما أسمع إلا خيراً، قال: ما أسألك لتزكيني، قال: أسمعهم يرمون القاضي بالأبنة، قال: فضحك وقال: اللهم غفراً! المشهور عنا غير هذا.


وحكى أبو الفرج الأصبهاني في كتاب " الأغاني " ليحيى المذكور وقائع في هذا الباب، وأن المأمون لما تواتر النقل عن يحيى بهذا أراد امتحانه، فأخلى له مجلساً واستدعاه، وأوصى مملوكاً خزرياً يقف عندهما وحده، فإذا خرج المأمون يقف المملوك ولا ينصرف، وكان المملوك في غاية الحسن، فلما اجتمعنا بالمجلس وتحادثا قام المأمون كأنه يقضي حاجة فوقف المملوك، فتجسس المأمون عليهما، وكان قرر معه أن يعبث بيحيى علماً منه أن يحيى لا يتجاسر عليه خوفاً من المأمون، فلما عبث به المملوك سمعه المأمون وهو يقول: لولا أنتم لكنا مؤمنين.


فدخل المأمون وهو ينشد:

وكنا نرجي أن نرى العدل ظاهراً

 

فأعقبنا بعد الـرجـاء قـنـوط

متى تصلح الدنيا ويصلح أهلهـا

 

وقاضي قضاة المسلمين يلـوط

 

وهذان البيتان لأبي حكيمة راشد بن إسحاق الكاتب، وراشد له فيه مقاطيع كثيرة.


وذكر المسعودي في " مروج الذهب " في ترجمة المأمون جملة من أخبار يحيى في هذا الباب أضربنا عن ذكرها.


ومما يناسب حكاية المأمون مع يحيى بسؤاله عن البيت لمن هو وإجابة يحيى ببيت آخر من القصيدة ما يروى أن معاوية بن أبي سفيان الأموي لما مرض مرض موته واشتدت علته وحصل اليأس منه، دخل عليه بعض أولاد علي بن أبي طالب رضي الله عنه يعوده، ولا أستحضر الآن من هو، فوجده قد استند يتجلد له لئلا يشتفي به، فضعف عن القعود فاضطجع وأنشد:

وتجلدي للشـامـتـين أريهـم

 

أني لريب الدهر لا أتضعضع

فقام العلوي من عنده وهو ينشد:

وإذا المنية أنشبت أظفارها

 

ألفيت كل تميمةٍ لا تنفـع

 

فعجب الحاضرون من جوابه.


وهذا البيتان من جملة قصيدة طويلة لأبي ذؤيب خويلد بن خالد الهذلي يرثي بها بنيه، وكان قد هلك له خمس بنين في عام واحد، أصابهم الطاعون.


وكانوا هاجروا معه إلى مصر، وهلك أبو ذؤيب المذكور في طريق مصر، وقيل في طريق إفريقية مع عبد الله بن الزبير.


ثم وجدت في كتاب " فلك المعاني " لابن الهبارية في الباب التاسع من الكتاب المذكور أن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما دخل على معاوية في علته فقال: اسندوني، ثم تمثل ببيت أبي ذؤيب، وأنشد البيت المذكور، فسلم الحسين ثم أنشد البيت الثاني، والله أعلم. وذكرها أبو بكر ابن داود الظاهري في كتاب " الزهرة " منسوبة إلى الحسين بن علي ابن أبي طالب رضي الله عنهما، والله أعلم.


قلت: ولم يذكر ابن الهبارية ولا الظاهري أنه كان في علة الموت، ولا يمكن ذلك، لأن الحسن توفي قبل معاوية، والحسين لم يحضر وفاة معاوية، لأنه كان بالحجاز ومعاوية توفي بدمشق.


ثم وجدت في أول كتاب " التعازي " تأليف أبي العباس المبرد هذه القصة جرت للحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومعاوية بن أبي سفيان، والظاهر أن ابن الهبارية منه نقلها.


ومثل ذلك أيضاً ما يحكى أن عقيل بن أبي طالب هاجر أخاه علياً رضي الله عنه والتحق بمعاوية، فبالغ معاوية في بره؛ وزاد في إكرامه إرغاماً لعلي رضي الله عنه، فلما قتل علي واستقل معاوية بالأمر ثقل عليه أمر عقيل، فكان يسمعه ما يكره لينصرف عنه فبينما هو يوماً في مجلس حفل بأهل الشام إذ قال معاوية: أتعرفون أبا لهب الذي نزل في حقه قوله تعالى (تبت يدا أبي لهب) المسد: من هو؟ فقال أهل الشام: لا، فقال معاوية: هو عم هذا، وأشار إلى عقيل، فقال عقيل في الحال: أتعرفون امرأته التي قال الله في حقها (وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد) المسد: من هي؟ فقالوا: لا، قال: هي عمة هذا، وأشار إلى معاوية، وكانت عمته أم جميل بنت حرب بن أمية بن عبد مناف زوجة أبي لهب بن عبد العزى، وهي المشار إليها في هذه السورة، فكان ذلك من الأجوبة المسكتة. ويقرب من هذا أيضاً أن بعض الملوك حاصر بعض البلاد، وكان معه عساكر عظيمة بكثرة الرجال والخيل والعدد، فكتب الملك المحاصر إلى صاحب البلد كتاباً يشير إليه بأنه يسلم البلد إليه ولا يقاتله، وذكر ما جاء به من الرجال والأموال والآلات، ومن جملة الكتاب قوله تعالى: "حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون" "النمل: " فلما وصل الكياب إلى صاحب البلد وتأمله وقرأه على خواصه قال: من يجاوب عن هذا؟ فقال بعض الكتاب: تكتب إليه فتبسم ضاحكاً من قولها "النمل: " فاستحسن الحاضرون جوابه.


ومثل هذا أيضاً ما حكاه ابن رشيق القيرواني في كتاب " النموذج " وهو أن عبد الله بن إبراهيم ابن المثنى الطوسي المعروف بابن المؤدب المهدوي الأصل القيرواني البلد الشاعر المشهور، كان مغرى بالسياحة وطلب الكيمياء والأحجار، وكان محروماً مقتراً عليه متلافاً إذا أفاد شيئاً، فخرج مرة يريد جزيرة صقلية، فأسره الروم في البحر، وأقام مدة طويلة إلى أن هادن ثقة الدولة يوسف بن عبد الله بن محمد بن أبي الحسين القضاعي صاحب صقلية الروم وبعث إليه بالأسرى، فكان عبد الله فيمن بعث، فامتدح عبد الله المذكور ثقة الدولة بقصيدة شكره فيها على صنعه، ورجا صلته، فلم يصله بشيء أرضاه، وكانت فيه رغبة، فتكلم وطلب طلباَ شديداً، وهو مستخف عند بعض م يعرف من أهل صناعته، وطالت المدة، فخرج سكران يشتري نقلاً، فما شعر إلا وقد أخذ، وحمله صاحب الشرطة حتى أدخله على ثقة الدولة، فقال له: ما الذي بلغني يا بائس؟ قال: المحال أيد الله سيدنا الأمير، قال: ومن هو الذي يقول في شعره:

فالحر ممتحن بأولاد الزنا

 

قال: هو الذي يقول:

وعداوة الشعراء بئس المقتنى

 

فتنمر ساعة ثم أمر له بمائة رباعي وأخرجه من المدينة كراهية أن تقوم عليه نفسه فيعاقبه بعد أن عفا عنه، فخرج منها.


وهذا المستشهد به عجزا بيتين من شعر المتنبي في قصيدته النونية التي يمدح بها بدر بن عمار، وأولها:

الحب ما منع الكلام الألسنا

 

وألذ شكوى عاشقٍ ما أعلنا

 

وهي من مشاهير قصائده، وأول العجز الأول:

وأنه المشير عليك في بضلةٍ

 

فالحر ممتحن بأولاد الزنـا

 

وأول العجز الثاني:

ومكايد السفهاء واقعة بـهـم

 

وعداوة الشعراء بئس المقتنى

وإذا قد ذكرنا ثقة الدولة المذكور فنذكر قصيدة أبي محمد عبد الله بن محمد التنوخي المعروف بابن قاضي ميلة التي مدحه بها في عيد النحر، وهي قصيدة بديعة لا توجد بكمالها في أيدي الناس، ولقد ظفرت بها في ظهر كتاب، ولم يكن عندي منها سوى البعض، ولا سمعت أحداً يروي منها إلا ذلك القدر، فأحببت إثباتها لحسنها وغرابتها وهي هذه:

يذيل الهوى دمعي وقلبي المعنـف

 

وتجني جفوني الوجد وهو المكلف

وإني ليدعوني إلى ما شـنـفـتـه

 

وفارقت مغناه الأغن المشـنـف

وأحور ساجي الطرف أما وشاحـه

 

فصفر وأما وقفـه فـمـوقـف

يطيب أجاج الماء من نحو أرضـه

 

يحيي ويندى ريحه وهو حرجـف

وأيأسني مـن وصـلـه أن دونـه

 

متالف تسري الريح فيها فتتـلـف

وغير أن يجفو النوم كي لا يرى لنا

 

إذا نام شملاً في الكرى يتـألـف

يظل على ما كان من قرب دارنـا

 

وغفلته عما مـضـى يتـأسـف

وجون بمزن الرعد يستـن ودقـه

 

يرى برقه كالحية الصل تطـرف

كأني إذا ما لاح والرعد مـعـول

 

وجفن السحاب الجون بالماء يذرف

سليم وصوت الرعـد راقٍ وودقـه

 

كنفث الرقى من سوء ما أتكلـف

ذكرت به ريا وما كنـت نـاسـياً

 

فأذكر لكن لوعة تـتـضـعـف

ولما التقينا محـرمـين وسـيرنـا

 

بلبيك رباً والركـائب تـعـسـف

نظرت إليها والمطـي كـأنـمـا

 

غواربها منها معاطـس رعـف

فقالت أما منكن من يعرف الفتـى

 

فقد رابني من طول منا يتشـوف

أراه إذا سـرنـا يسـير حـذاءنـا

 

ونوقف أخفاف المطي فـيوقـف

فقلت لتربيها أبلـغـاهـا بـأنـنـي

 

بها مستهام قـالـتـا نـتـلـطـف

وقولا لهـا يا أم عـمـرو ألـيس ذا

 

منىً والمنى في خيفه ليس يخلـف

تفاءلت في أن تبذلي طارف الـوفـا

 

بأن عنّ لي منك البنان المـطـرف

وفي عرفات مـا يخـبـر أنـنـي

 

بعارفةٍ من عطف قلبـك أسـعـف

وأما دماء الهدي فهي هـدىً لـنـا

 

يدوم ورأي في الـهـوى يتـألـف

وتقبيل أركان البـيت إقـبـال دولة

 

لنا وزمان بـالـمـودة يعـطـف

فأوصلتا ما قلتـه فـتـبـسـمـت

 

وقالت أحاديث الـعـيافة زخـرف

بعيشي ألم أخبركـمـا أنـه فـتـىً

 

على لفظه برد الكلام الـمـفـوف

فلا تأمنا ما استطعتما كيد نـطـقـه

 

وقولا ستدري أينـا الـيوم أعـيف

إذا كنت ترجو في منى الفوز بالمنى

 

ففي الخيف من إعراضنا نتخـوف

وقد أنـذر الإحـرام أن وصـالـنـا

 

حرام وأنا عن مـزارك نـصـدف

وهذا وقذفي بالحصى لك مـخـبـر

 

بأن النوى بي عـن ديارك تـقـذف

وحاذر نفارى لـيلة الـنـفـر إنـه

 

سريع فقلل من بالـعـيافة أعـرف

فلم أر مثيلـنـا خـلـيلـي مـودةٍ

 

لكلٍ لسان ذو غـرارين مـرهـف

أما إنه لـولا أغـن مـهـفـهـف

 

وأشنـف بـراق وأحـور أوطـف

لراجع مشـتـاق ونـام مـسـهـد

 

وأيقن مرتاب وأقـصـر مـدنـف

وعاذلةٍ في بذل مـا مـلـكـت يدي

 

لراجٍ رجاني دون صحبي تعـنـف

تقول إذا أفـنـيت مـالـك كـلـه

 

وأحوجت من يعطيكه؟ قلت: يوسف

أغـر قـضـاعـي يكـاد نـوالـه

 

لكثرة ما يدعو إلى الشكر يجحـف

إذا نحن أخلـفـنـا مـخـايل ديمة

 

وجدنا حيا معروفه لـيس يخـلـف

سعى وسعى الملاك في طلب العـلا

 

ففاز وأكدوا إذ أخف وأقـطـفـوا

ويقظان شاب البطش باللين والتقـى

 

بكفيه ما يرجـى ومـا يتـخـوف

حسام على من ناصب الدين مصلـت

 

وستر على من راقب الله مـغـدف

يسـايره جـيشـان: رأي وفـيلـق

 

ويصحبه سيفان: عزم ومـرهـف

مطل على من شـاءه فـكـأنـمـا

 

على حكمه صرف الردى يتصرف

يرى رأيه ما لا تـرى عـين غـيره

 

ويفري به ما ليس يفري المثـقـف

رعى الله من ترعى حمى الدين عينه

 

ويحمي حمى الإسلام والليل أغضف

ومن وعده في مسرح الحمد مطلـق

 

وإيعاده في ذمة الحـلـم مـوقـف

ومن يضرب الأعداء هبراً فينثـنـي

 

صناديدهم والبيض بالهـام تـقـذف

رماهم بمجرٍ ضعضع الأرض رزة

 

كأن الروابي منه بالنـبـل تـدلـف

كأن الردينيات في رونق الضـحـى

 

أراقم في طامٍ مـن الآل تـزحـف

يعود الدجى من بيضه وهـو أبـيض

 

ويبدو الضحى من نفعه وهو أكلـف

ويحجب نور الشمس بالنقع عنـهـم

 

ففعل الظبا في هامـهـم لا يكـيف

لهم كل عام منـك جـاءوك فـيلـق

 

يسائل عنهم بالعوالـي فـيلـحـف

إذا ما طووا كشحاً على قرح عامهم

 

وبلوا من الآلام أنـشـأت تـقـرف

فكم من أغم الوجه غـاوٍ تـركـتـه

 

وهاديه من عثنون لحـييه أكـثـف

هوى المقضب الماضي بمهواه فانثنى

 

صريعاً تراه حبتراً وهـو أسـقـف

لعمري لقد عاديت في الله طـالـبـاً

 

رضاه وقد أبليت ما الـلـه يعـرف

أطالبتهم في الأهل حتى تركـتـهـم

 

فرادى وفي الأديان حتى تحنـفـوا

فيا ثقة الملك الذي الملك سـهـمـه

 

يراش لأكباد الـعـادي ويرصـف

هنيئاً لك العيد الذي منك حـسـنـه

 

يروق ومن أوصافك الغر يوصـف

بدا معلم الرجاء يزهـى كـأنـمـا

 

على عطفه وشي العراق المشفـف

أتى بعد حول زائراً عن تشـوق

 

وقد كان ذا طرف للقياك يطرف

فطوقته عزاً وشـنـفـتـه بـه

 

فلاح لنا وهو المحلى المشنـف

وقابله بالسعد نجلـك جـعـفـر

 

فيا لك من عيد بملكين تتـحـف

فلا زلت تستجدى فتولي، وترتجى

 

فتكفي، وتستدعى لخطب فتكشف

 

نجزت القصيدة.


وكان لثقة الدولة المذكور ولد يدعى تاج الدولة جعفر بن ثقة الدولة، وكان أديباً شاعراً، وله من الأبيات السائرة في غلامين، على أحدهما ثوب ديباج أحمر، وعلى الآخر ثوب ديباج أسود، وهي:

أرى بدرين قد طلعـا

 

على غصنين في نسق

وفي ثوبين قد صبغـا

 

صباغ الخد والحـدق

فهذا الشمس في شفق

 

وهذا البدر في غسق

 

وكان عمله لهذه الأبيات في سنة سبع وعشرين وخمسمائة.


ولما توجه المأمون إلى مصر، وذلك في سنة سبع عشرة ومائتين، دخلها لعشر خلون من المحرم، وخرج منها سلخ صفر من السنة، كان معه القاضي يحيى بن أكثم، فولاه قضاء مصر، وحكم بها ثلاثة أيام، ثم خرج مع المأمون، وعده ابن زولاق في جملة قضاة مصر لذلك.


وروي عن يحيى بن أكثم أنه قال: اختصم إلي في الرصافة الجد الخامس يطلب ميراث ابن ابن ابن ابنه.


وكان عبد الصمد بن أبي مروة بن المعذل بن غيلان بن المحارب بن البحتري العبدي البصري الشاعر المشهور، يلازم الترداد إلى القاضي يحيى المذكور ويغشى مجلسه، وكان بعض الأحيان لا يقدر على الوصول إليه إلا بعد مشقة ومذلة يقاسيها، فانقطع عنه، فلامته زوجته في ذلك مراراً، فأنشدها:

تكلفني إذلال نفسـي لـعـزهـا

 

وهان عليها أن أهان لتكـرمـا

تقول سل المعروف يحيى بن أكثم

 

فقلت سليه رب يحيى بن أكثمـا

ولم تزل الأحوال تختلف عليه وتتقلب به إلى أيام المتوكل على الله، فلما عزل القاضي محمد بن القاضي أحمد بن أبي داود عن القضاء، فوض إليه الولاية إلى القاضي يحيى وخلع عليه خمس خلع، ثم عزله في سنة أربعين ومائتين وأخذ أمواله، وولى في رتبته جعفر بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس الهاشمي. فجاء كاتبه إلى القاضي يحيى فقال له: سلم الديوان، فأبى، فقال: شاهدان عدلان على أمير المؤمنين أنه أمرني بذلك، فأخذ منه الديوان قهراً، وغضب عليه المتوكل فأمر بقبض أملاكه وألزم منزله، ثم حج وحمل أخته معه وعزم على أن يجاور، فلما اتصل به رجوع المتوكل له بدا له في المجاورة، ورجع يريد العراق، فلما وصل إلى الربذة توفي بها يوم الجمعة منتصف ذي الحجة سنة اثنتين وأربعين ومائتين، وقيل غرة سنة ثلاث وأربعين، ودفن هناك، رحمه الله تعالى، وعمره ثلاث وثمانون سنة.

وأكثم: بفتح الهمزة وسكون الكاف وفتح الثاء المثلثة وبعدها ميم، وهو العظيم البطن، والشبعان أيضاً، يقال بالثاء المثلثة والتاء المثناة من فوقها، ومعناهما واد، ذكره في كتاب " المحكم ".

وحكى أبو عبد الله الحسين بن عبد الله بن سعيد قال: كان يحيى بن أكثم القاضي صديقاً لي، وكان يودني وأوده، فمات يحيى، فكنت أشتهي أن أراه في المنام فأقول: ما فعل الله بك، فرأيته ليلة المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي إلا أنه وبخني ثم قال لي: يا يحيى خلطت علي في الدنيا، فقلت: يا رب اتكلت على حديث حدثني به أبو معاوية الضرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنك قلت " إني لأستحيي أن أعذب ذا شيبة بالنار " فقال: قد عفوت عنك يا يحيى، وصدق نبيي، إلا أنك خلطت علي في الدنيا، هكذا ذكره أبو القاسم القشيري في " الرسالة ".

وقطن: بفتح القاف والطاء المهملة وبعدها نون.

وسمعان: بفتح السين المهملة.

ومشنج: كشفت عنه كثيراً من الكتب وأرباب هذه الصناعة فلم أقف منه على حقيقة، ثم وجدت في نسخة من " تاريخ بغداد " للخطيب وهي صحيحة مسموعة، وقد قيد هذا الاسم بضم الميم وفتح الشين المعجمة وفتح النون المشددة وفي آخره جيم، هذا أقصى ما قدرت عليه، والله أعلم بالصواب.

ثم وجدته في " المختلف والمؤتلف " لعبد الغني بن سعيد كما قيل هاهنا. الأسيدي: بضم الهمزة وفتح السين المهملة وكسر الياء المثناة من تحتها وتشديدها وبعدها دال مهملة، هذه النسبة إلى أسيد، وهو بطن من تميم يقال له أسيد بن عمرو بن تميم.

وقد تقدم الكلام على التميمي والمروزي.

والربذة: بفتح الراء والباء الموحدة والذال المعجمة وبعدها هاء ساكنة، وهي قرية من قرى المدينة على طريق الحاج ينزلونها عند عبورهم عليها، وهي التي نفى عثمان بن عفان أبا ذر الغفاري رضي الله عنهما إليها، وأقام بها حتى مات، وقبره ظاهر هناك يزار.

وميلة: بكسر الميم وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح اللام وبعدها هاء ساكنة، وهي بليدة من أعمال إفريقية.

وتوفي جعفر بن عبد الواحد القاضي المذكور، ويكنى أبا عبد الله، سنة ثمان وخمسين ومائتين، وقيل سنة ثمان وستين، وقيل سنة تسع وستين، بطرسوس رحمه الله تعالى.