يحيى بن يحيى الليثي

أبو محمد يحيى بن يحيى بن كثير بن وسلاس - وقيل وسلاسن - ابن شمال بن منغايا الليثي، أصله من البربر من قبيلة يقال لها مصمودة، تولى بني ليث فنسب إليهم، وجده كثير يكنى أبا عيسى، وهو الداخل إلى الأندلس، وسكن قرطبة، وسمع بها من زياد بن عبد الرحمن بن زياد اللخمي المعروف بشبطون القرطبي " موطأ " مالك بن أنس رضي الله عنه، وسمع من يحيى بن مضر القيسي الأندلسي. ثم رحل إلى المشرق وهو ابن ثمان وعشرين سنة، فسمع من مالك بن أنس " الموطأ " غير أبواب في كتاب الاعتكاف، شك في سماعه فيها فأثبت فيها عن زياد، وسمع بمكة من سفيان بن عيينة، وبمصر من الليث بن سعد وعبد الله بن وهب وعبد الرحمن بن القاسم، وتفقه بالمدنيين والمصريين من أكابر أصحاب مالك بعد انتفاعه بمالك وملازمته له، وكان مال يسميه عاقل الأندلس، وسبب ذلك فيما يروى أنه كان في مجلس مالك مع جماعة من أصحابه، فقال قائل قد حضر الفيل، فخرج أصحاب مالك كلهم لينظروا إليه، ولم يخرج يحيى، فقال له مالك: مالك لا تخرج فتراه لأنه لا يكون بالأندلس؟ فقال: إنما جئت من بلدي لنظر إليك وأتعلم من هديك وعلمك، ولم أجئ لأنظر إلى الفيل، فأعجب به مالك وسماه عاقل أهل الأندلس.

ثم إن يحيى عاد إلى الأندلس وانتهت إليه الرياسة بها، وبه انتشر مذهب مالك في تلك البلاد، وتفقه به جماعة لا يحصون عدداً وروى عنه خلق كثير، وأشهر روايات " الموطأ " وأحسنها رواية يحيى المذكور، وكان مع إمامته ودينه معظماً عند المراء مكيناً، عفيفاً عن الولايات متنزهاً، جلت رتبته عن القضاء، فكان أعلى قدراً من القضاة عند ولاة الأمر هناك لزهده في القضاء وامتناعه عنه.

قال أبو محمد علي بن أحمد المعروف بابن حزم الأندلسي - المقدم ذكره: مذهبان انتشرا في مبدأ أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة، فإنه لما ولي قضاء القضاة أبو يوسف يعقوب صاحب أبي حنتفة - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى - كانت القضاة من قبله، فكان لا يولي قضاء البلدان من أقصى المشرق إلى أقصى إفريقية إلا أصحابه والمنتمين إليه وإلى مذهبه، ومذهب مالك بن أنس عندنا في بلاد الأندلس، فإن يحيى بن يحيى كان مكيناً عند السلطان مقبول القول في القضاة، فكان لا يلي قاض في أقطار بلاد الأندلس إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه، والناس سراع إلى الدنيا فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به، على أن يحيى بن يحيى لم يل قضاء قط ولا أجاب إليه، وكان ذلك زائداً في جلالته عندهم وداعياً إلى قبول رأيه لديهم.

وحكى أحمد بن أبي الفياض في كتابه قال: كتب الأمير عبد الرحمن بن الحكم الأموي المعروف بالربضي صاحب الأندلس إلى الفقهاء يستدعيهم إليه، فاتوا إلى القصر، وكان عبد الرحمن المذكور قد نظر في شهر رمضان إلى جارية له كان يحبها حباً شديداً، فعبث بها، ولم يملك نفسه أن وقع عليها، ثم ندم ندماً شديداً، فسأل الفقهاء عن توبته من ذلك وكفارته، فقال يحيى بن يحيى: يكفر ذلك بصوم شهرين متتابعين، فلما بدر يحيى بهذه الفتيا سكت بقية الفقهاء حتى خرجوا من عنده، فقال بعضهم لبعض وقالوا ليحيى: ما لك لم تفته بمذهب مالك، فعنده أنه مخير بين العتق والطعام والصيام؟ فقال: لو فتحنا له هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل ويعتق رقبة، ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود.

ولما انفصل يحيى عن مالك ليعود إلى بلاده ووصل إلى مصر، رأى عبد الرحمن بن القاسم يدون سماعه عن مالك، فنشط للرجوع إلى مالك ليسمع منه المسائل التي كان ابن القاسم دونها عنه، فرحل رحلة ثانية، فألفى مالكاً عليلاً، فأقام عنده إلى أن مات وحضر جنازته، فعاد إلى ابن القاسم، وسمع منه سماعه من مالك، ذكر ذلك أبو الوليد ابن الفرضي في تاريخه، وذكر أيضاً فيه ما مثاله: وانصرف يحيى بن يحيى إلى الأندلس، فكان إمام وقته، وواحد بلاده، وكان رجلاً عاقلاً. قال محمد بن عمر بن لبابة: فقيه الأندلس عيسى بن دينار، وعالمها عبد الملك بن حبيب، وعاقلها يحيى بن يحيى وكان يحيى ممن اتهم ببعض الأمر في الهيج، فخرج إلى طليطلة، ثم استأمن، فكتب الأمير الحكم أماناً، وانصرف إلى قرطبة. وكان أحمد بن خالد يقول: لم يعط أحد من أهل العلم بالأندلس، منذ دخلها الإسلام، من الحظوة وعظم القدر وجلالة الذكر ما أعطيه يحيى بن يحيى.

وقال ابن بشكوال في تاريخه: كان يحيى بن يحيى مجاب الدعوة، وكان قد أخذ في نفسه وهيئته ومقعده هيئة مالك.

وحكي عنه أنه قال: أخذت ركاب الليث بن سعد، فأراد غلامه أن يمنعني فقال: دعه، ثم قال لي الليث: خدمك أهل العلم، فلم تزل بي الأيام حتى رأيت ذلك. ثم قال: وتوفي يحيى بن يحيى في رجب سنة أربع وثلاثين ومائتين، وقبره بمقبرة ابن عياش يستسقى به، وهذه المقبرة بظاهر قرطبة، وزاد أبو عبد الله الحميدي في كتاب " جذوة المقتبس " أن وفاته كانت لثمان بقين من الشهر المذكور، وقال أبو الوليد ابن الفرضي في تاريخه: إنه سنة ثلاث وثلاثين، وقيل سنة أربع وثلاثين في رجب، والله أعلم بالصواب.

وأما وسلاس: فه بكسر الواو وسينين مهملتين الأولى منهما ساكنة وبينهما لام ألف، ويزاد فيه نون فيقال وسلاسن، ومعناه بالبربرية: يسمعهم.

وشمّال: بفتح الشين المعجمة وتشديد الميم وبعد الألف لام.

ومنغايا: بفتح الميم وسكون النون وفتح الغين المعجمة وبعد الألف ياء معجمة باثنتين من تحتها وبعدها ألف مقصورة ومعناه عندهم: قاتل هذا، والله أعلم.

وقد تقدم الكلام على الليثي والبربري ومصمودة، والله أعلم.