الحافظ بن معين

أبو زكريا يحيى بن معين بن عون بن زياد بن بسطام بن عبد الرحمن المري البغدادي، الحافظ المشهور، كان إماماً عالماً حافظاً متقناً، قيل إنه من قرية نحو النبار تسمى نقياي. وكان أبوه كاتباً لعبد الله بن مالك، وقيل إنه كان على خراج الري فمات، فخلف لابنه يحيى المذكور ألف ألف درهم وخمسين ألف درهم، فأنفق جميع المال على الحديث حتى لم يبق له نعل يلبسه.

وسئل يحيى المذكور: كم كتبت من الحديث؟ فقال: كتبت بيدي هذه ستمائة ألف حديث، وقال راوي هذا الخبر، وهو أحمد بن عقبة: وإني أظن أن المحدثين قد كتبوا بأيديهم ستمائة ألف وستمائة ألف. وخلف م الكتب مائة قمطر وثلاثين قمطراً وأربعة حباب شرابية مملوءة كتباً، وهو صاحب الجرح والتعديل. وروى عنه الحديث كبار الأئمة منهم: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري وأبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري وأبو داود السجستاني، وغيرهم من الحفاظ، وكان بينه وبين الإمام أحمد بن حنبل، رضي الله عنه، من الصحبة والألفة والاشتراك في الاشتغال بعلوم الحديث ما هو مشهور، ولا حاجة إلى الإطالة فيه، وروى عنه هو وأبو خيثمة وكانا من أقرانه.

وقال علي بن المديني: انتهى العلم بالبصرة إلى يحيى بن أبي كثير وقتادة، وعلم الكوفة إلى أبي إسحاق والأعمش، وانتهى علم الحجاز إلى ابن شهاب وعمرو بن دينار، وصار علم هؤلاء الستة بالبصرة إلى سعيد بن أبي عروبة وشعبة ومعمر وحماد بن سلمة وأبي عوانة، ومن أهل الكوفة إلى سفيان الثوري وسفيان بن عيينة، ومن أهل الحجاز إلى مالك بن أنس، ومن أهل الشام إلى الوزاعي، وانتهى علو هؤلاء إلى محمد بن إسحاق وهشيم ويحيى بن سعيد وابن أبي زائدة ووكيع وابن المبارك وهو أوسع هؤلاء علماً، وابن مهدي ويحيى ابن آدم، وصار علم هؤلاء جميعاً إلى يحيى بن معين.

وقال أحمد بن حنبل: كل حديث لا يعرفه يحيى بن معين فليس هو بحديث. وكان يقول: صاحبنا رجل خلقه الله لها الشأن، ويظهر كذب الكذابين، يعني يحيى بن معين.

وقال ابن الرومي: ما سمعت أحداً قط يقول الحق في المشايخ، غير يحيى بن معين، وغيره كان يتحامل بالقول.

وقال يحيى: ما رأيت على رجل قط خطأ إلا سترته عليه وأحببت أن أبين أمره، وما استقبلت رحلاً في وجهه بأمر يكرهه، ولكن أبين له خطأه، فيما بيني وبينه، فإن قبل ذلك وإلا تركته وكان يقول: كتبنا عن الكذابين، وسجرنا به التنور، وأخرجنا به خبزاً نضيجاً، وكان ينشد:

المال يذهب حلـه وحـرامـه

 

طراً وتبقى في غـدٍ آثـامـه

ليس التقي بـمـتـق لأهـلـه

 

حتى يطيب شرابه وطعـامـه

ويطيب ما يحوي وتكسب كفـه

 

ويكون في حسن الحديث كلامه

نطق النبي لنا بـه عـن ربـه

 

فعلى النبي صلاته وسـلامـه

 

وقد ذكره الدارقطني فيمن روى عن الإمام الشافعي، رضي الله عنه، وقد سبق في ترجمة الشافعي خبره معه، وما جرى بينه وبين الإمام أحمد بن حنبل في ذلك، وسمع أيضاً من عبد الله بن المبارك وسفيان بن عيينة.


وكان يحج فيذهب إلى مكة على المدينة ويرجع إلى المدينة، فلما كان آخر حجة حجها خرج على المدينة، ورجع على المدينة فأقام بها ثلاثة أيام، ثم خرج حتى نزل المنزل مع رفقائه، فباتوا فرأى في النوم هاتفاً يهتف به: يا أبا زكريا، أترغب في جواري؟ فلما أصبح قال لرفقائه: امضوا فإني راجع إلى المدينة، فمضوا ورجع، فأقام بها ثلاثاً، ثم مات فحمل على أعواد النبي صلى الله عليه وسلم.


وكانت وفاته لسبع ليال بقين من ذي القعدة سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، هكذا قاله الخطيب في  " تاريخ بغداد " وهو غلط قطعاً، لما تقدم ذكره، وهو أنه خرج إلى مكة للحج، ثم رجع إلى المدينة ومات بها، ومن يكون قد حجج كيف يتصور أن يموت بذي القعدة من تلك السنة؟ فلو ذكر أنه توفي في ذي الحجة لأمكن، وكان يحتمل أن يكون هذا غلطاً من الناسخ، لكني وجدته في نسختين على هذا الصورة، فيبعد أن يكون من الناسخ، والله أعلم. ثم ذكر بعد ذلك أن الصحيح أنه مات قبل أن يحج، وعلى هذا يستقيم ما قاله من تاريخ الوفاة.


ثم نظرت في كتاب " الإرشاد في معرفة علماء الحديث " - تأليف أبي يعلى الخليل بن عبد الله ابن أحمد بن إبراهيم بن الخليل الخليلي الحافظ - أن يحيى بن معين المذكور توفي لسبع ليالٍ بقين من ذي الحجة من السنة المذكورة فعلى هذا يكون قد حج، وذكر الخطيب أيضاً أن مولده كان آخر سنة ثمان وخمسين ومائة، ثم قال بعد ذكر وفاته: إنه بلغ سبعاً وسبعين سنة إلا عشرة أيام، وهذا أيضاً لا يصح من جهة الحساب فتأمله. ورأيت في بعض التواريخ أنه عاش خمساً وسبعين سنة، والله أعلم بالصواب، وصلى عليه والي المدينة. ثم صلي عليه مراراً ودفن بالبقيع، وكان بين يدي جنازته رجلاً ينادي: هذا الذي كان ينفي الكذب عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورثاه بعض المحدثين فقال:

ذهب العليم بعيب كل محـدثٍ

 

وبكل مختلفٍ من الإسـنـاد

وبكل وهمٍ في الحديث ومشكلٍ

 

يعيا به علمـاء كـل بـلاد

رضي الله عنه.

ومعين: بفتح الميم وكسر العين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون.

وبسطام: بكسر الباء الموحدة وسكون السين المهملة وفتح الطاء المهملة وبعد الألف ميم، والباقي معروف فلا حاجة إلى ضبطه.

ورأيت في بعض التواريخ أنه يحيى بن معين بن غياث بن زياد بن عون بن بسطام مولى الجنيد بن عبد الرحمن الغطفامي المري أمير خراسان من قبل هشام بن عبد الملك الأموي، والأول أشهر وأصح، أعني النسب.

والمري: بضم الميم وتشديد الراء، هذه النسبة إلى مرة غطفان، وهو مرة بن عوف بن سعد بن بغيض بن ريث بن غطفان، وهي قبيلة كبيرة مشهورة، وفي العرب عدة قبائل تنسب إليها يقال لكل واحدة منها مرة.

وأما نقياي: فقال ابن السمعاني في كتاب " الأنساب " إنها بفتح النون وكسر القاف أو فتحها وبعدها ياء مفتوحة تحتها نقطتان وبعد الألف ياء ثانية، وهي من قرى الأنبار منها يحيى بن معين النقيايي، قال الخطيب: ويقال إن فرعون كان من أهل هذه القرية. والله أعلم.