الخطيب التبريزي اللغوي

أبو زكريا يحيى بن علي بن محمد بن الحسن بن بسطام الشيباني التبريزي المعروف بالخطيب؛ أحد أئمة اللغة، كانت له معرفة تامة بالأدب من النحو واللغة وغيرهما، قرأ على الشيخ أبي العلاء المعري وأبي القاسم عبيد الله بن علي الرقي وأبي محمد الدهان اللغوي وغيرهم من أهل الدب. وسمع الحديث بمدينة صور من الفقيه أبي الفتح سليم بن أيوب الرازي ومن أبي القاسم عبد الكريم بن محمد بن عبد الله بن يوسف الدلال البغدادي وأبي القاسم عبيد الله بن ثابت علي، وغيرهم. وروى عنه الخطيب الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت صاحب " تاريخ بغداد "، والحافظ أبو الفضل محمد بن ناصر وأبو منصور موهوب بن أحمد الجواليقي وأبو الحسن سعد الخير بن محمد بن سهل الأندلسي، وغيرهم من الأعيان، وتخرج عليه خلق كثير وتتلمذوا له.

وذكره الحافظ أبو سعد السمعاني في كتاب " الذيل "، وكتاب " الأنساب "، وعدد فضائله، ثم قال: سمعت أبا منصور محمد بن عبد الملك بن الحسن بن خيرون المقرئ يقول: أبو زكريا يحيى بن علي التبريزي ما كان بمرضي الطريقة، وذكر عنه أشياء ثم قال: وذاكرت أنا مع أبي الفضل محمد بن ناصر الحافظ بما ذكره ابن خيرون، فسكت وكأنه ما أنكر ما قال، ثم قال: ولكن كان ثقة في اللغة وما كان ينقله.

وصنف في الأدب كتباً مفيدة، منها " شرح الحماسة " وكتاب " شرح ديوان المتنبي "، وكتاب " شرح سقط الزند " وهو ديوان أبي العلاء المعري، و" شرح المعلقات السبع " و" شرح المفضليات " وله " تهذيب غريب الحديث " و" تهذيب إصلاح المنطق "، وله في النحو مقدمة حسنة، والمقصود منها أسرار الصنعة وهي عزيزة الوجود، وله كتاب " الكافي في علم العروض والقوافي " وكتاب في إعراب القرآن سماه " الملخص " رأيته في أربع مجلدات، وشروحه لكتاب الحماسة ثلاثة: أكبر وأوسط وأصغر، وله غير ذلك من التواليف، وقد سبق في ترجمة الخطيب أب بكر أحمد بن علي بن ثابت الحافظ ذكره وما دار بينهما عند قراءته عليه بدمشق، فلينظر هناك ودرس الأدب بالمدرسة النظامية ببغداد.

وكان سبب توجهه إلى أبي العلاء المعري أنه حصلت له نسخة من كتاب " التهذيب " في اللغة، تأليف أبي منصور الأزهري في عدة مجلدات لطاف، وأراد تحقيق ما فيها وأخذها عن رجل عالم باللغة، فدل على المعري، فجعل الكتاب في مخلاة وحملها على كتفه من تبريز إلى المعرة، ولم يكن له ما يستأجر به مركوباً، فنفذ العرق من ظهره إليها فأثر فيها البلل، وهي ببعض الوقوف ببغداد، وإذ رآها من لا يعرف صورة الحال فيها ظن أنها غريقة، وليس بها سوى عرق الخطيب المذكور، هكذا وجدت هذه الحكاية مسطورة في كتاب " أخبار النحاة " الذي ألفه القاضي الأكرم ابن القفطي الوزير بمدينة حلب، كان، رحمه الله تعالى، والله أعلم بصحة ذلك.

وكان الخطيب المذكور قد دخل مصر في عنفوانه شبابه، فقرأ عليه بها الشيخ أبو الحسن طاهر بن بابشاذ النحوي - المقدم ذكره - شيئاً من اللغة، ثم عاد إلى بغداد واستوطنها إلى الممات، وكان يروي عن أبي الحسن محمد بن المظفر بن نحرير البغدادي جملة من شعره، فمن ذلك قوله على ما حكاه السمعاني في كتاب " الذيل " في ترجمة الخطيب، وهي من أشهر أشعاره:

خليلي ما أحلى صبوحي بـدجـلةٍ

 

وأطيب منه بالصراة غبـوقـي

شربت على الماءين من ماء كرمةٍ

 

فكـانـا كـدر ذائب وعـقـيق

على قمري أفقٍ وأرض تقـابـلا

 

فمن شائق حلو الهوى ومشـوق

فما زلت أسقيه وأشـرب ريقـه

 

وما زال يسقيني ويشرب ريقـي

وقلت لبدر التم: تعرف ذا الفتـى؟

 

فقال: نعم، هذا أخي وشقـيقـي

 

وهذه الأبيات من أملح الشعر وأطرفه، والبيت الأخير منها يستمد من معنى قول أبي بكر محمد بن عيسى الداني المعروف بابن اللبانة الأندلسي في مدح المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية - المقدم ذكره - من جملة قصيدة طويلة:

سألت أخاه البحر عنه فقال لي

 

شقيقي إلا أنه الساكن العذب

ما كفاه أنه جعله شقيق البحر حتى رجحه عليه، فقال " الساكن العذب " والبحر مضطرب ملح، وهذا من خالص المدح وأبدعه، وأول هذه القصيدة:

بكت عن توديعي فما علم الركب

 

أذاك سقيط الطل أم لؤلؤ رطب

وتابعها سرب، وإني لمخطـئ

 

نجوم الدياجي لا يقال لها سرب

 

وهي قصيدة طويلة ولولا خوف الإطالة والخروج عما نحن بصدده لذكرتها كلها، ولكن يكفي منها هذا الأنموذج.


وكان الخطيب أيضاً يروي عن ابن نحرير المذكور من شعره قوله:

يا نساء الحي من مـضـر

 

إن سلمى ضرة القـمـر

إن سلمى لا فجعت بـهـا

 

أسلمت طرفي إلى السهر

فهي إن صدت وإن وصلت

 

مهجتي منها على خطـر

وبياض الشعر أسكـنـهـا

 

من سواد القلب والبصـر

 

وللخطيب المذكور شعر فمن ذلك قوله:

فمن يسأم من الأسفار يوماً

 

فإني قد سئمت من المقام

أقمنا بالعراق على رجالٍ

 

لئامٍ ينتمـون إلـى لـئام

 

وقال الخطيب المذكور: كتب إلي العميد الفياض:

قل ليحيى بن عـلـيٍ

 

والأقـاويل فـنـون

غير أني لست من يك

 

ذب فيهـا ويخـون

أنت عين الفضل إن م

 

د إلى الفضل عـيون

أنت من عز به الفض

 

ل وقد كـاد يهـون

فقت من كان واتعـب

 

ت لعمري من يكون

قد مضى فيك قـران

 

ومضت فيه قـرون

وإذا قيس بـك الـك

 

ل فصحـو ودجـون

وإذا فتش عـنـهـم

 

فالأحاديث شـجـون

قد سمعـنـا ورأينـا

 

فسهـول وحـزون

ووزنا بـك مـن كـا

 

ن فـقـيل وقـيون

أين شـيبــان وأزد

 

كل ما زال ظنـون

إنك الأصل ومـن دو

 

نك في العلم غصون

إنك البـحـر وأعـيا

 

ن ذوي الفضل عيون

ليس كالسيف وإن حل

 

ي في الحكم الجفون

ليس كالفذ المعـلـى

 

ليس كالبيت الحجون

ليس كالـجـد وإن آ

 

نس هزل ومجـون

ليس في الحسن سواءً

 

أبداً بـيض وجـون

ليس كالأبكار في اللط

 

ف وإن راقتك عون

قلت للحساد كـونـوا

 

كيف شئتم أن تكونوا

سبق الزائد بالـفـض

 

ل فعزوا أو فهونـوا

دمت ما خالف في الح

 

د حراك وسـكـون

وتلقاك المـنـى مـا

 

قر بالطير الوكـون

إن ودي لـك عـمـا

 

يصم الود مـصـون

ليس لي فيه ظهـور

 

تتنافـى أو بـطـون

بل لقلبي فيك صـب

 

بالمصـافـاة يكـون

غلق الرهن وقد تغل

 

ق في الحب رهون

ومن الـنـاس أمـين

 

في هـواه وخـؤون

 

وقال ابن الجواليقي: قال لنا شيخنا الخطيب أبو زكريا: فكتبت أنا إلى العميد الفياض المذكور هذه الأبيات:

قل للعميد أخي العـلا الـفـياض

 

أنا قطرة من يحرك الـفـياض

شرفتني ورفعت ذكرى بـالـذي

 

ألبستنيه من الثنا الفـضـفـاض

ألبستني حلل القريض تـفـضـلاً

 

فرفلت منها فـي عـلا ورياض

إني أتيتك بالحصى عـن لـؤلـؤ

 

أبرزته من خاطـر مـرتـاض

وبخاطري عن مثل ذاك تـوقـف

 

ما إن يكاد يجود بـالأبـعـاض

أيعارض البحر الغطامط جـدول

 

أو درة تنقاس بـالـرضـراض

يا فارس النظم المرصع جوهـراً

 

والنثر يكشف غـنة الأمـراض

يرمي بع الغرض البعيد وقد غـدا

 

فكري يقصر عن مدى الأغراض

لا تلزمني من ثنـائك مـوجـبـاً

 

حقاً فلست لحقه بـالـقـاضـي

فلقد عجزت عن القريض وربمـا

 

أعرضت عنـه أيمـا إعـراض

أنعم علي ببسط عـذري إنـنـي

 

أقررت عند نداك بـالإنـفـاض

وكانت ولادته سنة إحدى وعشرين وأربعمائة، وتوفي فجأة يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسمائة ببغداد، ودفن في مقبرة باب أبرز، رحمه الله تعالى.

وبسطام: بكسر الباء الموحدة وسكون السين المهملة وفتح الطاء المهملة وبعد الألف ميم. وقد تقدم الكلام على الشيباني والتبريزي فأغنى عن الإعادة.