الخطيب الحصكفي

أبو الفضل يحيى بن سلامة بن الحسين بن محمد، الملقب معين الدين، المعروف بالخطيب الحصكفي؛ صاحب الديوان الشعر والخطب والرسائل، ولد بطنزة ونشأ بحصن كيفا، وقدم بغداد فاشتغل بالأدب على الخطيب أبي زكريا التبريزي - المقدم ذكره - وأتقنه حتى مهر فيه، وقرأ الفقه على مذهب الإمام الشافعي، رضي الله عنه، وأجاد فيه، ثم رحل عن بغداد راجعاً إلى بلاده ونزل ميافارقين واستوطنها، وتولى بها الخطابة، وكان إليه أمر الفتوى بها، واشتغل عليه الناس وانتفعوا بصحبته.

وذكره العماد الأصبهاني في كتاب " الخريدة "فقال في حقه": كان علامة الزمان في علمه، ومعري العصر في نثره ونظمه، له الترصيع البديع والتجنيس النفيس، والتطبيق والتحقيق، واللفظ الجزل الرقيق، والمعنى السهل العميق، والتقسيم المستقيم، والفضل السائر المقيم. "ثم قال العماد بعد كثرة الثناء عليه وتعداد محاسنه: " وكنت أحب لقاءه، وأحدث نفسي عند وصولي إلى الموصل به، وأنا شغف بالاستفادة، كلف بمجالسة الفضلاء للاستزادة، فعاق دون لقائه بعد الشقة، وضعفي عن تحمل المشقة " ثم ذكر له عدة مقاطيع، فمن ذلك قوله:

وخـلـيعٍ بـت أعـذلــه

 

ويرى عذلي من الـعـبـث

قلت: إن الخمر مـخـبـئة

 

قال: حاشاها من الخـبـث

قلت: فالأرفاث تتـبـعـهـا

 

قال: طيب العيش في الرفث

قلت: منها القيء، قال: أجل

 

شرفت عن مخرج الحـدث

وسأجفوها، فقلت: مـتـى؟

 

قال: عند الكون في الجـدث

 

قلت أنا: ولقد أخذ الخطيب المذكور قوله: شرفت عن مخرج الحدث من قول بعضهم ولا أعرفه، لكنها أبيات سائرة، وهي:

ولائم لامني في الخمر، قلت لـه

 

إني سأشربها حياً وفي جـدثـي

فأسقني قهوةً حمراء صـافـيةً

 

صرفاً حراماً فإنني غير مكترث

فإن يكن حللوها بالطبيخ فـفـي

 

حشاي نار تبقيها على الثـلـث

قالوا: فلم تتقاياها؟ فقلت لـهـم

 

إني أنزهها عن مخرج الحـدث

 

ثم قال العماد الأصبهاني: وأنشدني له بعض الفضلاء ببغداد خمسة أبيات كالخمسة السيارات مستحسنات مطبوعات مصنوعات، وهي:

أشكو الله مـن نـارين: واحـدة

 

في وجنتيه وأخرى منه في كبدي

ومن سقامين: سقم قد أحل دمـي

 

من الجفون وسقم حل في جسدي

ومن نمومين: دمعي حين أذكـره

 

يذيع سرى، وواشٍ منه بالرصـد

ومن ضعيفين: صبري حين أذكره

 

ووده ويراه النـاس طـوع يدي

مهفهف رق حتى قلت من عجبٍ

 

أخصره خنصري أم جلده جلدي

 

ومن مليح شعره أبيات في هجو مغن وهي:

ومسـمـع غـنـاؤه

 

يبدل بالفقر الغنـى

شهدته في عـصـبةٍ

 

رضيتهم لي قـرنـا

أبصرته فلم تـخـب

 

فراستي لـمـا دنـا

وقلت من ذا وجهـه

 

كيف يكون محسنـا

ورمت أن أروح لل

 

ظن به ممتـحـنـا

فقلت من بـينـهـم

 

هات أخي غن لنـا

ويوم سلعٍ لـم يكـن

 

يومي بسلعٍ هـينـا

فانشال منه حاجـب

 

وحلجب منه انحنـى

وامتلأ المجلس مـن

 

فيه نسيماً منـتـنـا

أوقع إذ وقع في الأن

 

فس أسباب العـنـا

وقال لما قـال مـن

 

يسمع في ظل الفنـا

وما اكتفى باللحن وال

 

تخليط حتى لحـنـا

هذا وكم تكشخـن ال

 

وغد وكم تقرننـنـا

يوهـم زمـراً أنـه

 

قطـعـه ودنـدنـا

وصاح صوتاً نـافـراً

 

يخرج عن حد البـنـا

وما درى محـضـره

 

ماذا على القوم جنـى

فذا يسـد أنـفـــه

 

وذا يسـد الأذنـــا

ومـنـهـم جـمـاعة

 

تستر عنـه الأعـينـا

فاغتظت حتى كدت من

 

غيظٍ أبث الشـجـنـا

وقلت يا قوم اسمعـوا

 

إما المغـنـي أو أنـا

أقسمت لا أجـلـس أو

 

يخرج هذا من هـنـا

جروا برجل الكلب إن

 

السقم هذا والضـنـا

قالوا لقد رحمـتـنـا

 

وذدت عنا المـحـنـا

فحزت في إخـراجـه

 

راحة نفسي والثـنـا

وحين ولى شخـصـه

 

قرأت فيهم معـلـنـا

الحمـد لـلـه الـذي

 

أذهب عنا الحـزنـا

 

ولم أسمع، مع كثرة ما قيل في هذا الباب مثل هذا المقطوع في هذا المعنى.


وللخطيب المذكور أيضاً في هذا المعنى:

ومسمعٍ قوله بالكره مسـمـوع

 

محجب عن بيوت الناس ممنوع

غنى فبرق عينيه وحـرك لـح

 

ييه فقلنا الفتى لا شك مصروع

وقطع الشعر حتى ود أكثـرنـا

 

أن اللسان الذي في فيه مقطوع

لم يأت دعوة أقوامٍ بـأمـرهـم

 

ولا مضى قط إلا وهو مصفوع

 

وقد سبق له في ترجمة الشيخ الشاطبي في حرف القاف مقطوع لغز في نعش وهو معنى مليح، وأكثر شعره على هذا الأسلوب في اللطافة وجودة المقاصد، وكان يتشيع وهو في شعره ظاهر.


وكان بمدينة آمد شابان بينهما مودة أكيدة ومعاشر كثيرة، فركب أحدهما ظاهر البلد وطرد فرسه فتقنطر فمات، وقعد الآخر يستعمل الشراب، فشرق فمات في ذلك النهار، فعمل فيهما بعض الأدباء:

تقاسما العيش صفواً والردى كدراً

 

وما عهدنا المنايا قط تقـتـسـم

وحافظا الود حتى في حمامهمـا

 

وقلما في المنايا تحفظ الـذمـم

 

فلما وقف الخطيب المذكور على البيتين قال: هذا الشاعر قصر إذ لم يذكر سبب موتهما، وقد قلت فيهما:

بنفسـي أخـيان مـن أمـدٍ

 

أصيبا بيوم مشوم عبـوس

دهى ذا كميت من الصافنات

 

وهذا كميت من الخندريس

 

قلت: ولو قال:

دهى ذا كميت من الصافنات

 

وهذا كميت من الصافيات

 

لكان أحسن لأجل المجانسة، وكان يجعل البيت الأول:

بنفسي أخيان من أمـدٍ

 

أصيبا بيوم شديد الأذاة

 

أو ما يناسب هذا، ثم وجدت البيتين الأولين في كتاب " الجنان " تأليف القاضي الرشيد ابن الزبير - المقدم ذكره في حرف الهمزة - وقد نسبهما إلى الفقيه أبي علي الحسن بن أحمد المعلم المعري، لكن هذا وجدت الحكاية بخط بعض المتأدبين، والله أعلم.


وللخطيب المذكور الخطب المليحة والرسائل المنتقاة. ولم يزل على رياسته وجلالته وإفادته إلى أن توفي سنة إحدى، وقيل ثلاث، وخمسين وخمسمائة.


وكانت ولادته في حدود سنة ستين وأربعمائة، رحمه الله تعالى.


والحصكفي: بفتح الحاء وسكون الصاد المهملة وفتح الكاف وفي آخرها فاء، هذه النسبة إلى حصن كيفا، وهي قلعة حصينة شاهقة بين جزيرة ابني عمر وميافارقين، وكان القياس أن ينسبوا إليه الحصني، وقد نسبوا إليه أيضاً كذلك، لكن إذا نسبوا إلى اسمين أضيف أحدهما إلى الآخر ركبوا من مجموع الاسمين اسماً واحداً ونسبوا إليه كما فعلوا هاهنا، وكذلك نسبوا إلى رأس عين " رسعني " وإلى عبد الله وعبد شمس وعبد الدار: عبدلي وعبشمي وعبدري، وكذلك كل ما هو نظيره.


وأما طنزة: بفتح الطاء المهملة وسكون النون وفتح الزاي في آخرها هاء ساكنة، فهي بليدة صغيرة بديار بكر فوق الجزيرة العمرية، خرج منها جماعة من المحدثين وغيرهم، ونسبوا إليها.


قال عماد الدين الأصبهاني الكاتب في كتاب " الخريدة ": منها إبراهيم بن عبد الله إبراهيم الطنزي، وهو القائل:

وإني لمشتاق إلى أرض طنـزة

 

وإن خانني بعد التفرق إخوانـي

سقى الله أرضاً لو ظفرت بتربتها

 

كحلت به من شدة الشوق أجفاني

ثم قال عماد الدين المذكور بعد هذا: كان الشاعر حياً في شهر رمضان سنة ثمان وستين وخمسمائة.