أبو بكر ابن بقي الشاعر

أبو بكر يحيى بن محمد بن عبد الرحمن بن بقي الأندلسي القرطبي الشاعر المشهور صاحب الموشحات البديعة؛ قال الفتح بن محمد بن عبيد الله القيسي في كتاب " مطمح الأنفس " في حق أبي بكر المذكور: أنه كان نبيل النثر والنظام، كثير الارتباط في سلكه والانتظام، وأحرز خصالاً، وطرز محاسنه بكراً وآصالاً، وجرى في ميدان الإحسان إلى أبعد أمد، وبنى من المعارف على أثبت عمد، إلا أن الأيام حرمته، وقطعت حبل رعايته وصرمته، ولم تتم له وطراً، ولم تسجم عليه من الحظوة مطراً، ولا نولته من الحرمة نصيباً، ولا أنزلته مرعى خصيباً، فصار راكب صهوات، وقاطع فلوات، لا يستقر يوماً ولا يستحسن قوماً، مع توهم لا يظفره بأمان، وتقلب ذهن كواهي الجمان، إلا أن يحيى بن علي بن القاسم نزعه عن ذلك الطيش، وأقطعه جانباً من العيش، وأرقاه إلى سمائه، وسقاه صوب نعمائه، وفيأه ظلاله، وبوأه أثر النعمة يجوس خلاله، فصرف فيه أقواله، وشرف بقوافيه نواله، وأفرده منها بأنفس در، وقلد لبته منها بقصائد غر.

وذكر الفتح بن مدح بن عبيد الله القيسي المذكور في حقه أيضاً في كتاب " قلائد العقيان ": هو رافع راية القريض، وصاحب آية التصريح فيه والتعريض، أقام شرائعه، وأظهر روائعه، وصار عصيه طائعاً، إذا نظم أزرى بنظم العقود، وأتى بأحسن من رقم البرود، ضفا عليه حرمانه، وما صفا له زمانه، انتهى كلام الفتح.

وقد أثبت لأبي بكر المذكور هذا المقطوع من الشعر، ولم أر الفتح ذكره في واحد من كتابيه المذكورين مع أنه من أحسن شعره وأشهره، وهو:

بأبي غزال غازلته مـقـلـتـي

 

بين العذيب وبين شطي بـارق

وسألت منه زيارة تشفي الجـوى

 

فأجابني منها بـوعـد صـادق

بتنا ونحن من الدجى في خـيمةٍ

 

ومن النجوم الزهر تحت سرادق

عاطيته والليل يسـحـب ذيلـه

 

صهباء كالمسك الفتيق لناشـق

وضممته ضم الكمي لـسـيفـه

 

وذؤابتاه حمائل في عـاتـقـي

حتى إذا مالت به سنة الـكـرى

 

زحزحته عني وكان معانـقـي

أبعدته عن أضلع تـشـتـاقـه

 

كي لا ينام على وساد خـافـق

لما رأيت الليل آخـر عـمـره

 

قد شاب في لمم له ومـفـارق

ودعت من أهوى وقلت تأسـفـاً

 

أعزز علي بأن أراك مفارقـي

 

وقد ذكر بعض هذه الأبيات الحافظ أبو الخطاب ابن دحية في كتابه الذي سماه " المطرب من أشعار أهل المغرب ".


ومن شعره قصيدة يمدح بها يحيى بن علي بن القاسم المذكور في هذه الترجمة، وهي طويلة، ومن مديحها قوله:

نوران ليسا يحجبان عن الـورى

 

كرم الطباع ولا جمال المنظر

وكلاهما جمعا ليحيى فـلـيدع

 

كتمان نور علائه المتشـهـر

في كل أفق من جميل ثـنـائه

 

عرف يزيد على دخان المجمر

رد في شمائله ورد في جـوده

 

بين الحديقة والغمام الممطـر

ندب عليه من الوقار سـكـينة

 

فيها حفيظة كل ليثٍ مـخـدر

مثل الحسام إذا انطوى في غمده

 

ألقى المهابة في نفوس الحضر

أربى على الغيث الملـث لأنـه

 

أعطى كما أعطى ولم يستعبر

أزرى على البحر الخضم لأنـه

 

في كل كف منه خمسة أبحـر

أقبلت مرتـاداً لـجـودك إنـه

 

صوب الغمامة بل زلال الكوثر

ورأيت وجه النجح عندك أبيضاً

 

فركبت نحوك كل لج أخضـر

يجري إليك بنا سفـين أتـلـع

 

مثل البعير مخزم في المنخـر

وبنات أعوج قد برمن بصحبتي

 

مما قطعن من اليباب المقفـر

 

وأورد له صاحب " قلائد العقيان " مقطوعاً:

يا أقتل الناس ألحاظـاً وأطـيبـهـم

 

ريقاً متى كان فيك الصاب والعسـل

في صحن خدك وهو الشمس طالـعة

 

ورد يزيدك فيه الراح والـخـجـل

إيمان حبـك فـي قـلـبـي يجـدده

 

من خدك الكتب أو من لحظك الرسل

إن كنت تجهل أني عبـد مـمـلـكةٍ

 

مرني بما شـئت آتـيه وامـتـثـل

لو اطلعت على قلبـي وجـدت فـيه

 

من فعل عينيك جرحاً ليس ينـدمـل

 

وذكره العماد الكاتب في " الخريدة " وأورد له عدة مقاطيع، ثم أعاد ذكره في آخر الكتاب وأورد له:

ومشمولةٍ في الكأس تحسب أنها

 

سماء عقيقٍ رصعت بالكواكب

بنت كعبة اللذات في حرم الصبا

 

فحج إليها اللهو من كل جانب

محاسنه في الشعر كثيرة. وتوفي سنة أربعين وخمسمائة، رحمه الله تعالى.

وبقي: بفتح الباء الموحدة وكسر القاف وتشديد الياء.