يحيى بن المنجم النديم

أبو أحمد يحيى بن علي بن أبي منصور، المعروف بالمنجم واسمه أبان حسيس بن وريد بن كاد بن مهابنداد حسيس بن فروخ داد بن أساد بن مهرحسيس بن يزدجرد؛ وكان في أول أمره نديم الموفق أبي أحمد طلحة ابن المتوكل على الله، والموفق المذكور هو والد المعتضد بالله، ولم يل الموفق الخلافة بل كان نائباً عن أخيه المعتمد على الله، ولم يزل في محاربة القرامطة، وأمره في ذلك مشهور وقصته طويلة وليس هذا موضع ذكرها.

ثم إن يحيى المذكور نادم الخلفاء بعد الموفق واختص بمنادمة المكتفي بالله ابن المعتضد، وعلت رتبته على خواصه وجلسائه، وكان متكلماً معتزلي الاعتقاد وله في ذلك كتب كثيرة، وكان له مجلس يحضره جماعة من المتكلمين بحضرة المكتفي، وصنف كتباً كثيرة، فمن ذلك كتاب " الباهر " في أخبار شعراء مخضرمي الدولتين، ابتدأ فيه ببشار بن برد، وآخر من أثبت فيه مروان بن أبي حفصة، ولم يتمه، وتممه ولده أبو الحسن أحمد بن يحيى، وعزم على أن يضيف إلى كتاب أبيه سائر الشعراء المحدثين فذكر منهم أبا دلامة ووالبة بن الحباب ويحيى بن زياد ومطيع بن إياس وأبا علي البصير.

وكان أبو الحسن أحمد المذكور متكلماً فقيهاً على مذهب أبي جعفر الطبري، وله كتب صنفها منها كتب أخبار أهله ونسبهم في الفرس، وكتاب " الإجماع في الفقه " على مذهب أبي جعفر الطبري، وكتاب " المدخل إلى مذهب الطبري ونصرة مذهبه " وكتاب " الأوقات " وغير ذلك وليحيى المذكور مع المعتضد وقائع ونوادر، فمن ذلك ما حكاه أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي في كتاب " مروج الذهب " عن يحيى المذكور أنه قال: كنت يوماً بين يدي المعتضد وهو مغضب، فأقبل بدر مولاه، وكان شديد الغرام به، فلما رآه من بعيد ضحك وقال: يا يحيى، من الذي يقول من الشعراء:

في وجهه شافع يمحو إساءته

 

من القلوب وجيه حيثما شفعا

 

فقلت: يقوله الحكم بن عمرو الشاري، فقال: لله دره! أنشدني هذا الشعر، فأنشدته:

ويلي على من أطار النوم فامتنعا

 

وزاد قلبي على أوجاعه وجعـا

كأنما الشمس من أعطافه لمعت

 

حسناً أو البدر من أزراره طلعا

مستقبل بالذي يهوى وإن كثرت

 

منه الذنوب ومعذور بما صنعا

في وجهه شافع يمحو إساءتـه

 

من القلوب وجيه حيثما شفعـا

 

وذكر أبو الفتح كشاجم الشاعر المشهور في كتابه الذي سماه " المصايد والمطارد " في الفصل الذي يذكر فيه صيد الأسد بالنشاب، ما مثاله: حدث أبو أحمد يحيى بن علي بن يحيى المنجم النديم نديم المكتفي بالله قال: وجد علي أمير المؤمنين المكتفي بالله منصرفه من الرقة لركوبي الماء منها إلى المرحلة الأولى قبل أن يركبه هو، وذلك أن أبا العباس أحمد بن عبد الصمد حملني على ذلك، وسألني أن أكون معه في سفينة، ففعلت، ولم أظن أن المكتفي ينكر ذلك، ولا يحتمل تأخيري عنه وإخلالي به، فلما صرنا إلى الدالية أمر بأن أرد منها إلى قرقيسيا وأقيم بها حتى أصيد سبعاً وأحدره إليه، فردني ورد معي عدة من المغنين كانوا قد ركبوا الماء، فكتب إليه بأبيات فلم تعطفه، فرجعت إلى الرحبة، وأقمت عند أبي محمد عبد الله بن الحسين بن سعد القطربلي في قصف وشرب وصبوح وغبوق، وهو على غاية السرور بمقامي عنده، وكان معنا أبو جعفر محمد بن سليمان بن محمد بن عبد الملك الزيات، فكتبت من الرحبة كتاباً إلى الوزير أبي الحسين القاسم بن عبيد الله، وأنفذت فيه شعراً أسأله أن يقرأه على المكتفي، وهو:

نفـس الــدهـــر أن نـــســـر وأن يس

 

عدنـا، بــالأحـــبة الاجـــتـــمـــاع

فرمـانـي وإخـوةً لـــي بـــســـهـــم

 

نفـر الـنـفـس فـهـي مـنـه شــعـــاع

فرددنـــا إلــــى وراءٍ ومـــــــر ال

 

ناس قـدمـاً فــاشـــتـــدت الأوجـــاع

لو سـمـعـنـا بـمـثـل مـا نـالــنـــا أف

 

زعـنـا مـنـه فـي سـوانـا الـســمـــاع

كلـفـونـا صـيد الــســـبـــاع وإنـــا

 

لبـخـيرٍ إن لـم تـصـدنـا الــســـبـــاع

إن عـصـينــا فـــواجـــب، أي قـــومٍ

 

كلـفـوا فـوق طـوقـهـم فـأطــاعـــوا؟

كل شيء يجوز تكليفه الإنسان إلا ما كان لا يستطاع

 

 

لم تزل تمزح الملوك ولكن

 

مع ذاك الـــمـــزاح جـــود وســــاع

وتـوانـى الـوزير عـنـا فـضــعـــنـــا

 

في سـبـيل الإلــه حـــق مـــضـــاع

قد مـددنــا الأيدي إلـــيه وأضـــحـــت

 

عائذاتٍ بـفـضـــلـــه الأطـــمـــاع

شافـــع لا يخــــاف رداً إذا مـــــــا

 

رد عـمـــا تـــريده الـــشـــفـــاع

عبـثـات الـمـلـوك ينـبــعـــهـــا الأن

 

س وأثـمـارهـا عــطـــايا تـــبـــاع

أولـنـــا يا ولـــي دولـــتـــه خـــي

 

راً لـديه فـالــخـــير الـــنـــفـــاع

 

وأنفذ الكتاب مع محمد بن سليمان الخرائطي في الخرائط، فلم يضعه القاسم من يده حتى دخل على المكتفي، فقرأه عليه وأنشده الأبيات، فاستحسنها وقال: يكتب الساعة بتخلية سبيله وحمله إلينا، فلم يكن أسرع من أن وافاني الرسول، فوافيت وأنشدت المكتفي ببغداد:

عاد ليلي القصير في كرخ بغدا

 

د بقرقيسـيا عـلـي طـويلا

أجميلاً أن تتركوني وتمـضـو

 

ن رهيناً بها غـريبـاً ذلـيلاً؟

مفرداً بالعقاب مشتـرك الـذن

 

ب فصبراً حسبي بربي وكيلا

إن قضى الله لي رجوعاً إلى بغ

 

داد لا هالكاً بغـمـي قـتـيلا

وأراني الخليفة المكتفي بالـلـه

 

وابن الخـلائف الـمـأمـولا

كالذي قد عهدت لا معرضاً عن

 

ي ولا واجداً ولا مستـحـيلا

كل شيء أسامـه هـين عـن

 

دي إذا الرأي منه كان جمـيلا

فاستحسنها ورق لشكواي بها حتى تبينت ذلك في وجهه وكلامه.

وأخبار يحيى ومحاسنه كثيرة. وكانت ولادته سنة إحدى وأربعين ومائتين؛ وتوفي ليلة الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة ثلثمائة رحمه الله تعالى.

وقد تقدم ذكر والده علي وأخيه هارون وابن أخيه علي، ولم أرفع في نسبهم إلا في هذه الترجمة لأني لم أظفر بالنسب على هذه الصورة إلا لما وصلت إلى هذا الموضع فنقلته كما وجدته من كتاب " الفهرست " لأبي الفرج محمد بن إسحاق النديم، ولم أضبط شيئاً من أسماء أجداده، لأني لم أتحقق فيها شيئاً فنقلتها كما وجدتها.