ابن زبادة

أبو طالب يحيى بن أبي الفرج سعيد بن أبي القاسم هبة الله بن علي بن فرغلي بن زبادة الشيباني، الكاتب المنشيء الواسطي الأصل، البغدادي المولد والدار والوفاة، الملقب قوام الدين، وقيل عميد الدين، كان من الأعيان الماثل والصدور الأفاضل، انتهت إليه المعرفة بأمور الكتابة والإنشاء والحساب مع مشاركته في الفقه وعلم الكلام والأصول وغير ذلك، وله النظم الجيد. جالس أبا منصور ابن الجواليقي وقرأ عليه من بعده، وسمع الحديث من جماعة، وخدم الديوان من صباه إلى أن توفي عدة خدمات، وكان مليح العبارة في الإنشاء، جيد الفكرة حلو الترصيع لطيف الإشارة، وكان الغالب عليه في رسائله العناية بالمعاني أكثر من طلب التسجيع، وله رسائل بليغة وشعر رائق، وفضله أشهر من أن يذكر.

وتولى النظر بديوان البصرة وواسط والحلة، ولم يزل على ذلك إلى أن طلب من واسط والحلة، ولم يزل على ذلك إلى المحرم سنة خمس وسبعين وخمسمائة، ورتب حاجباً بباب النوبي، وقلد النظر في المظالم، ثم عزل عن ذلك في شهر ربيع الأول سنة سبع وسبعين، ثم أعيد إليه في جمادى الأولى سنة اثنتين وثمانين، فلما قتل أستاذ الدار - وهو مجد الدين أبو الفضل هبة الله بن علي بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسن المعروف بابن الصاحب، وكان قتله يوم السبت تاسع عشر ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، ترتب ابن زبادة المذكور مكانه، ثم عزل في سنة خمس وثمانين، وعاد إلى واسط فأقام بها إلى أن استدعي في شهر رمضان سنة اثنتين وتسعين، وقلد ديوان الإنشاء في يوم الاثنين والعشرين من شهر رمضان، ثم رد إليه النظر في ديوان المقاطعات، فكان على ذلك إلى حين وفاته.

وكان حسن السيرة محمود الطريقة متدنياً، حدث بشيء يسير وكتب الناس عنه كثيراً من نظمه ونثره، فمن ذلك قوله:

باضطراب الزمان ترتفع الأنذال فيه حتى يعم البلاء

وكذا الماء ساكناً فإذا حرك ثارت من قعره الأقذاء

وله أيضاً:

إني لأعظم ما تلقونني جـلـدا

 

إذا توسطت هول الحادث النكد

كذلك الشمس لا تزداد قوتهـا

 

إلا إذا حصلت في زبرة الأسد

وكتب إلى الإمام المستنجد يهنيه بالعيد:

يا ماجـداً قـدراً أن نـهـنـيه

 

لنا الهناء بظلٍ منـك مـمـدود

الدهر أنت ويوم العيد منك ومـا

 

في العرف أنا نهني الدهر بالعيد

وله أيضاً:

إن كنت تسعى للسعادة فاستـقـم

 

تنل المراد ولو سموت إلى السما

ألف الكتابة وهو بعض حروفها

 

لما استقام على الجميع تقـدمـا

وله أيضاً:

لا تغبطن وزيراً للملوك وإن

 

أناله الدهر منهم فوق همته

واعلم بأن له يوماً تمـور بـه ال

 

أرض الوقور كما مرت لهيبتـه

هرون وهو أخو موسى الشقيق له

 

لولا الوزارة لم يأخذ بلـحـيتـه

 

وله كل معنى مليح، وله ديوان رسائل وقفت عليه في بلادنا، ولم يحضرني شيء منه كي أثبته هاهنا.


وقال أبو عبد الله محمد بن سعيد الدبيثي في تاريخه، أنشدنا أبو طالب يحيى بن سعيد ابن هبة الله، يعني ابن زبادة المذكور، من حفظه، قال: أنشدني أبو بكر أحمد بن محمد الأرجاني لما قدم بغداد علينا في سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة لنفسه - قلت: وهو ناصح الدين أبو بكر أحمد الأرجاني المقدم ذكره - قوله:

ومقسومة العينين من دهش النـوى

 

وقد راعها بالعيس رجـع حـداء

تجيب بإحدى مقلتيهـا تـحـيتـي

 

وأخرى تراعي أعين الـرقـبـاء

رأت حولها الواشين طافوا فغيضت

 

لهم دمعها واستعصمت بـحـياء

فلما بكت عيني غـداة وداعـهـم

 

وقد روعتني فـرقة الـقـرنـاء

بدت في محياها خيالات أدمـعـي

 

فغاروا وظنوا أن بكت لبـكـائي

 

وكتب إليه أبو الغنائم محمد بن علي المعروف بابن المعلم الهرثي الشاعر - المقدم ذكره - وقد عزل عن نظر واسط:

ولأنت إن لم يبلل الغيث الثرى

 

تروي الورى بسماحك الهتان

لم يعزلوك عن البلاد لحـالةٍ

 

تدعو إلى النقصان والشنـآن

بل مذ رأوا آثار جودك زاخراً

 

حفظوا بلادهم من الطوفـان

قلت: وحكى لي الوجيه أبو عبد الله محمد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن سويد التاجر التكريتي قال: كان الشيخ محيي الدين أبو المظفر يوسف بن الحافظ جمال الدين أبي الفرج بن الجوزي الواعظ المشهور قد توجه رسولاً من بغداد إلى الملك العادل ابن الملك الكامل ابن الملك العادل بن أيوب سلطان مصر في ذلك الوقت، وكان أخوه الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل محبوساً في قلعة الكرك يومئذ - وقد شرحت ذلك في ترجمة الكامل في هذا التاريخ - قال الوجيه: فلما عاد محيي الدين راجعاً إلى بغداد وقدم دمشق، كنت بها، فدخلت عليه أنا والشيخ أصيل الدين أبو الفضل عباس بن عثمان بن نبهان الإربلي، وكان رئيس التجار في عصره، وجلسنا نتحدث معه فقال: قد حلفت الملك الناصر داود صاحب الكرك أن لا يخرج الملك الصالح من الحبس إلا بأمر أخيه الملك العادل، قال: فقال له الأصيل: مولانا، هذا بأمر الديوان العزيز؟ فقال محيي الدين: وهل يحتاج إلى إذن؟ هذا اقتضته المصلحة، ولكن أنت تاريخ يا أصيل، فقال: يعني مولانا أني قد كبرت وما أدري ما أقول، وأنا أحكي لمولانا حكاية في هذا المعنى أعرفها من غرائب الحكايات، قال: هات، فقال: كان ابن رئيس الرؤساء ناظر واسط يحمل في كل شهر حمل واسط وهو ثلاثون ألف دينار لا يمكن أن يتأخر يوماً واحداً عن العادة، فتعذر في بعض الأشهر كمال الحمل، فضاق صدره لذلك وذكره لنوابه، فقالوا له: يا مولانا هذا ابن زبادة عليه من الحقوق أضعاف ذلك، ومتى حاسبته قام بما يتم الحمل وزيادة، فاستدعاه وقال له: لم لا تؤدي كما يؤدي الناس؟ فقال: أنا معي خط الإمام المستنجد بالمسامحة، قال: هل معك خط مولانا الإمام الناصر؟ قال: لا، قال: قم واحمل ما يجب عليك، قال: ما ألتفت إلى أحد ولا أحمل شيئاً. ونهض من المجلس، فقال النواب لابن رئيس الرؤساء: أنت صاحب الوسادتين وناظر النظار، وما على يدك يد، ومن هو هذا حتى يقابلك بمثل هذا القول؟ ولو كبست داره وأخذت ما فيها ما قال لك أحد شيئاً، وحملوه عليه حتى ركب بنفسه وأجناده، وكان ابن زبادة يسكن قبالة واسط، وقدموا إلى ابن رؤساء السفن حتى يعبر إليه، وإذا بزبزب قد قدم من بغداد، فقال: ما قدم هذا إلا في مهم، ننظر ما هو ثم نعود إلى ما نحن بسببه، فلما دنا من الزبزب فإذا فيه خدم من خدام الخليفة، فصاحوا به: الأرض الأرض، فقبل الأرض وناولوه مطالعة، وفيها: قد بعثنا خلعة ودواة لابن زبادة، فتحمل الخلعة على رأسك والدواة على صدرك، وتمشي راجلاً إليه وتلبسه الخلعة وتجهزه إلينا وزيراً، فحمل الخلعة على رأسه والدواة على صدره ومشى إليه راجلاً، فلما رآه ابن زبادة أنشده ابن رئيس الرؤساء:  

إذا المرء حي فهو يرجي ويتقي

 

وما يعلم الإنسان ما في المغيب

 

وأخذ يعتذر إليه، فقال له ابن زبادة، فقال له ابن زبادة: لا تثريب عليكم اليوم، وركب في الزيزب إلى بغداد، وما علموا أن أحداً أرسلت إليه الوزارة غيره، فلما وصل إلى بغداد كان أول ما نظر فيه أن عزل ابن رئيس الرؤساء عن نظر واسط قال: هذا ما يصلح لهذا المنصب، ثم قال الأصيل: ولا يأمن مولانا أن يخرج الملك الصالح ويملك ويعود إليه رسولاً ويقع وجهك في وجهه وتستحيي منه، فأنشده محيي الدين قوله:

وحتى يؤوب القارظان كلاهما

 

وينشر في الموتى كليب لوائل

فما كان إلا مديدة حتى خرج الملك الصالح من حبس الكرك وملك مصر وكان ما كان. وقلت: وكنت بمصر ومحيي الدين بها رسول إلى الملك العادل، وقبض العادل، وجاء الصالح فخرج محيي الدين التقاه، وشاهدت ذلك.

هكذا ذكر لي الوجيه هذه الحكاية، وفيها غلط إما في الوجيه أو من الأصيل، فإن ابن ما ولي الوزارة ولا تولى إلا ما ذكرته في أوائل ترجمته، فإن كان هذا صحيحاً فيكون ذلك لما طلب للإنشاء كما شرحته، والله أعلم بالصواب.

قال ابن الدبيثي المذكور: سألت أبا طالب ابن زبادة عن مولده فقال: ولدت يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من صفر سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، وتوفي ليلة الجمعة السابع والعشرين من ذي الحجة سنة أربع وتسعين وخمسمائة وصلي عليه بجامع القصر، ودفن بالجانب الغربي بمشهد الإمام موسى بن جعفر رضي الله عنهما، يعني ببغداد.

وزبادة: بفتح الزاي، هو القطعة من الزباد الذي يتطيب النسوان به، والله أعلم.