يحيى بن خالد البرمكي

أبو الفضل يحيى بن خالد بن برمك وزير هارون الرشيد - وقد تقدم ذكر ولديه جعفر والفضل كل واحد منهما في بابه؛ وكان جدهم برمك من مجوس بلخ، وكان يخدم النوبهار وهو معبد كان للمجوس بمدينة بلخ توقد فيه النيران، واشتهر برمك المذكور وبنوه بسدانته، وكان برمك عظيم المقدار عندهم، ولم أعلم هل أسلم أم لا.

وساد ابنه خالد وتقدم في الدولة العباسية، وتولى الوزارة لأبي العباس بعد أبي سلمة حفص الخلال - المقدم ذكره - وقد ذكرته في ترجمة جعفر وذكرت هناك تاريخ وفاته، وقال أبو الحسن المسعودي في كتاب " مروج الذهب ": لم يبلغ مبلغ خالد بن برمك أحد من ولده في جوده ورأيه وبأسه وعلمه وجميع خلاله، لا يحيى في رأيه ووفور عقله، ولا الفضل بن يحيى في جوده ونزاهته، ولا جعفر بن يحيى في كتابته وفصاحة لسانه، ولا محمد بن يحيى في سروه وبعد همته، ولا موسى بن يحيى في شجاعته وبأسه.

ولما بعث أبو مسلم الخراساني قحطبة بن شبيب الطائي لمحاربة يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري عامل مروان بن محمد على العراقين، وكان خالد بن برمك في جملة من كان معه، فنزلوا في طريقهم بقرية، فبينما هم على سطح بعض دورها يتغدون إذ نظروا إلى الصحراء وقد أقبلت منها أقاطيع الوحش من الظباء وغيرها، حتى كادت تخالط العسكر، فقال خالد لقحطبة: أيها الأمير، ناد في الناس ومرهم أن يسرجوا ويلجموا قبل أن تهجم عليهم الخيل، فقام قحطبة مذعوراً، فلم ير شيئاً يروعه، فقال: يا خالد ما هذا الرأي؟ إن وراءها لجمعاً كثيفاً، فما ركبوا حتى رأوا الغبار، ولولا خالد لهلكوا. وأما يحيى فإنه كان من النبل والعقل وجميع الخلال على أكمل حال، وكان المهدي بن أبي جعفر المنصور قد ضم إليه ولده هارون الرشيد، وجعله في حجره، فلما استخلف هارون عرف له حقه، وقال له: يا أبت، أنت أجلستني في هذا المجلس ببركتك ويمنك وحسن تدبيرك، وقد قلدتك الأمر، ودفع له خاتمه، وفي ذلك يقول الموصلي، وأظنه إبراهيم النديم أو ابنه إسحاق:

ألم تر أن الشمس كانت سقيمةً

 

فلما ولي هارون أشرق نورها

بيمن أمين الله هارون ذي الندى

 

فهارون واليها ويحيى وزيرها

 

وكان يعظمه، وإذا ذكره قال " أبي " وجعل إصدار الأمور وإيرادها إليه، إلى أن نكب البرامكة فغضب عليه، وخلده في الحبس إلى أن مات فيه، وقتل ابنه جعفراً - حسبما تقدم شرحه في ترجمته.


وكان من العقلاء الكرماء البلغاء، ومن كلامه: ثلاثة أشياء تدل على عقول أربابها: الهدية والكتاب والرسول. وكان يقول لولده: اكتبوا أحسن ما تسمعون، واحفظوا أحسن ما تكتبون، وتحدثوا بأحسن ما تحفظون. وكان يقول: الدنيا دول والمال عارية، ولنا بمن قبلنا أسوة، وبمن بعدنا عبرة.


وقال الفضل بن مروان - المقدم ذكره: سمعت يحيى بن خالد يقول: من لم أحسن إليه فأنا مخير فيه، ومن أحسنت إليه فأنا مرتهن به.


وقال القاضي يحيى بن أكثم، سمعت المأمون يقول: لم يكن كيحيى بن خالد وكولده أحد في الكفاية والبلاغة والجود والشجاعة، ولقد صدق القائل حيث يقول:

أولاد يحيى أربع

 

كأربع الطبائع

فهم إذا اختبرتهم

 

طبائع الصنائع

 

قال القاضي: فقلت له يا أمير المؤمنين، أما الكفاية والبلاغة والسماحة فنعرفها فيهم، ففي من الشجاعة؟ فقال: في موسى بن يحيى، وقد رأيت أن أوليه ثغر السند. وقال إسحاق بن إبراهيم النديم الموصلي - المقدم ذكره: حدثني أبي قال: أتيت يحيى بن خالد بن برمك فشكوت إليه ضيقة فقال: ويحك، ما أصنع بك؟ ليس عندنا في هذا الوقت شيء، ولكن هاهنا أمر أدلك عليه فكن فيه رجلاً، قد جاءني خليفة صاحب مصر يسألني أن أستهدي صاحبه شيئاً، وقد أبيت ذلك عليه، فألح علي، وقد بلغني أنك قد أعطيت بجاريتك فلانة ثلاثة آلاف دينار، فهو ذا أستهديه إياها وأخبره أنها قد أعجبتني فإياك أن تنقصها من ثلاثين ألف دينار وانظر كيف تكون، قال: فوالله ما شعرت إلا بالرجل وافاني فساومني بالجارية، فقلت له: لا أنقصها من ثلاثين ألف دينار، فلم يزل يساومني حتى بذل لي عشرين ألف دينار، فلما سمعتها ضعف قلبي عن ردها، فبعتها وقبضت العشرين ألفاً، ثم صرت إلى يحيى بن خالد فقال لي: كيف صنعت في بيعك الجارية؟ فأخبرته وقلت: والله ما ملكت نفسي أن أجبت إلى العرين ألفاً حين سمعتها، فقال: إنك لخسيس فخذ جاريتك بارك الله لك فيها، وهذا خليفة صاحب فارس قد جاءني في مثل هذا، فإذا ساومك بها فلا تنقصها من خمسين ألف دينار، فإنه لا بد أن يشتريها منك بذلك، فجاءني الرجل فاستمت عليه خمسين ألف دينار، فلم يزل يساومني حتى أعطاني ثلاثين ألف دينار، فضعف قلبي عن ردها ولم أصدق بها، فأوجبتها ثم صرت إلى يحيى بن خالد فقال لي: بكم بعت الجارية؟ فأخبرته، فقال: ويحك! ألم تؤدبك الأولى عن الثانية، قال: فقلت: والله ضعفت عن رد شيء لم أطمع فيه، قال فقال: هذه جاريتك فخذها إليك، قال: فقلت: جارية أفدت بها خمسين ألف دينار، ثم أملكها، أشهدك أنها حرة، أني قد تزوجتها. هكذا رأيت هذه الحكاية، ثم نظرت في كتاب " أخبار الوزراء " تأليف الجهشياري فقال: إن يحيى قال لإبراهيم الموصلي: لا تقبل أقل من مائة ألف دينار، وأنه باعها بخمسين ألف دينار، وقال له في المرة الثانية لا تقبل أقل من خمسين ألف دينار فباعها بثلاثين ألف دينار.


وقال الأصمعي: دخلت على يحيى يوماً فقال: يا أصمعي، هل لك زوجة؟ فقلت: لا، فقال: فجارية؟ فقلت: لكم منة، فأمر بإخراج جارية غاية في الحسن والجمال والظروف، فقال لها قد وهبتك لهذا، وقال: يا أصمعي، خذها فشكرته ودعوت له، فلما رأت الجارية ذلك بكت وقالت: يا سيدي، تدفعني إلى هذا، فما ترى سماجته وقبحه؟ فقال لي: هل لك أن أعوضك عنها ألفي دينار؟ قلت: ما أكره ذلك، ودخلت الجارية إلى داره فقال لي: أنكرت على هذه الجارية أمراً فأردت أن أعاقبها بك ثم رحمتها، فقلت له: هلا أعلمتني حتى كنت لحق بالباب على صورتي الأصلية من غير أن أسرح لحيتي وأصلح عمتي وأتطيب وأتجمل، فضحك، وأمر لي بألف دينار أخرى.


وحكى إسحاق النديم أيضاً قال: كانت صلات يحيى بن خالد إذا ركب لمن تعرض له مائتي درهم، فركب ذات يوم فتعرض لد أديب شاعر وأنشده:

يا سمي الحصور يحيى أتيحت

 

لك من فضل ربنا جنـتـان

كل من مر في الطريق عليكم

 

فله من نوالـكـم مـائتـان

مائتا درهم لمثـلـي قـلـيل

 

هي منكم للقابس العجـلان

 

قال له يحيى: صدقت، وأمر بحمله إلى داره، فلما رجع من دار الخلافة سأله عن حاله، فذكر أنه تزوج وقد أخذ بواحدة من ثلاث: إما أن يؤدي المهر وهو أربعة آلاف، وإما أن يطلق، وإما أن يقيم جارياً للمرأة يكفيها إلى أن يتهيأ له نقلها، فأمر يحيى بأربعة آلاف للمهر، وبأربعة آلاف لثمن منزل، وبأربعة آلاف لما يحتاج إليه المنزل، وبأربعة آلاف للبنية، وبأربعة آلاف يستظهر بها، فأخذ عشرين ألفاً وانصرف.


وقال محمد بن مناذر الشاعر: حج هارون الرشيد ومعه ابناه الأمين محمد والمأمون عبد الله، وحج معه يحيى بن خالد وابناه الفضل وجعفر، فلما صاروا بالمدينة جلس الرشيد ومعه يحيى بن خالد، فأعطى الناس عطاءهم، ثم جلس الأمين ومعه الفضل فأعطاهم العطاء، ثم جلس المأمون ومعه جعفر بن يحيى فأعطاهم عطاياهم، ثم جلس المأمون ومعه جعفر بن يحيى فأعطاهم عطاياهم، وكان أهل المدينة يسمون ذاك العام عام الأعطية الثلاثة، ولم يروا مثل ذلك قط، فقلت في ذلك:

 

أتانا بنو الأملاك من آل بـرمـكٍ

 

فيا طيب أخبارٍ ويا حسن منظـر

لهم رحلة في كل عام إلى العدى

 

وأخرى إلى البيت العتيق المطهر

إذا نزلوا بطحاء مكة أشـرقـت              بيحيى وبالفضل بن يحيى وجعفر
فتظلم بغداد وتجلو لنـا الـدجـى          بمكة ما حجوا ثـلاثة أقـمـر
فما خلقت إلا لجـود أكـفـهـم              وأقدامهـم إلا لأعـواد مـنـير
إذا راض يحيى ذلت صعـابـه               فناهيك من راعٍ لـه ومـدبـر
ترى الناس إجلالاً له وكأنـهـم             غرانيق ماء تحت باز مصرصر

وذكر الخطيب في " تاريخ بغداد "، في ترجمة أبي عبد الله محمد بن عمر الواقدي أنه قال: كنت حناطاً بالمدينة في يدي مائة ألف درهم للناس أضارب بها، فتلفت الدراهم، فشخصت إلى العراق فقصدت يحيى بن خالد، فجلست في دهليزه وأنست بالخدم والحجاب وسألتهم أن يوصلوني إليه، فقالوا: إذا قدم الطعام إليه لم يحجب عنه أحد، ونحن ندخلك عليه ذلك الوقت، فلما حضر طعامه أدخلوني فأجلسوني على المائدة، فسألني: من أنت؛ وما قصتك؟ فأخبرته، فلما رفع الطعام وغسلنا أيدينا دنوت منه لأقبل رأسه، فاشمأز من ذلك، فلما صرت إلى الموضع الذي يركب منه لحقني خادم معه كيس فيه ألف دينار، فقال: الوزير يقرأ عليك السلام ويقول لك: استعن بهذا على أمرك وعد إلينا في اليوم الثاني، فأخذته وانصرفت، وعدت في اليوم الثاني فجلست معه على المائدة، فأنشأ يسألني كما يسألني في اليوم الأول، فلما رفع الطعام دنوت منه لأقبل رأسه فاشمأز مني، فلما صرت إلى الموضع الذي يركب منه لحقني خادم معه كيس فيه ألف دينار، فقال لي: الوزير يقرأ عليك السلام، ويقول لك: استعن بهذا على أمرك وعد إلينا في غد، فأخذته وانصرفت وعدت في اليوم الثالث كما أمر، فأعطيت مثل الذي أعطيت في اليوم الأول والثاني، فلما كان في اليوم الرابع أعطيت الكيس كما أعطيت قبل ذلك، وتركني بعد ذلك أقبل رأسه، وقال: إنما منعتك ذلك لأنه لم يكن وصل إليك من معروفي ما يوجب هذا، فالآن قد لحقك بعض النفع مني، يا غلام أعطه الدار الفلانية، يا غلام افرش له الفرش الفلاني، يا غلام أعطه مائتي ألف درهم يقضي دينه بمائة ألف ويصلح شأنه بمائة ألف، ثم قال لي: الزمني وكن في داري، فقلت: أعز الله الوزير، لو أذنت لي بالشخوص إلى المدينة لأقضي الناس أموالهم ثم أعود إلى حضرتك كان ذلك أرفق بي، قال: قد فعلت، وأمر بتجهيزي، فشخصت إلى المدينة، فقضيت ديني ثم رجعت إليه فلم أزل في ناحيته.

ودخل عليه يوماً أبو قابوس الحميري فأنشده:

 رأيت يحيى أتم الله نعـمـتـه               عليه يأتي الذي لم يأتـه أحـد
ينسى الذي كان من معروفه أبداً          إلى الرجال ولا ينسى الذي بعد

فقضى حوائجه ووصله بجملة من المال.

قلت: قد حل هذا البيت الثاني شرف الدولة مسلم بن قريش، وقد قال له رجل: لا تنس أيها الأمير حاجتي، فقال: إذا قضيتها أنسيتها.

ولمسلم بن الوليد الأنصاري في يحيى بن خالد:

أجدك هل تدرين إن رب ليلة        كأن دجاها من قرونك ينشر
صبرت لها حتى تجلت بغرةٍ         كفرة يحيى حين يذكر جعفر

وكان يحيى يقول: إذا أقبلت الدنيا فأنفق فغنها لا تفنى، وإذا أدبرت فأنفق فإنها لا تبقى، وقال: ذكر النعمة من المنعم تكدير، ونسيان المنعم عليه كفر وتقصير؛ وقال: النية الحسنة مع العذر الصادق يقومان مقام النجح؛ وقال: إذا أدبر الأمر كان العطب في الحيلة.
وقال الحسن بن سهل - المقدم ذكره: ومن غيرته الولاية لإخوانه علمنا أن الولاية أكبر منه، أخذنا ذلك عن صاحب ديوان المكارم أبي علي يحيى بن خالد بن برمك.

ولما عزم جعفر على بناء قصره شاور أباه يحيى بن خالد فيه فقال: هو قميصك إن شئت فوسعه وإن شئت فضيقه؛ وأتاه وهو يبني داره فإذا الصناع يبيضون حيطانها فقال: إنك تعطي بالفضة، فقال جعفر: ليس كل أوان يكون ظهور الذهب أصلح، ولكن هل ترى عيباً؟ قال: نعم، فخالطتها لدور السفل والسوقة.

وكان ليحيى كاتب يختص بخدمته ويقرب من حضرته، فعزم على ختان ولده، فاحتفل له الناس على طبقاتهم، وهاداه أعيان الدولة ووجوه الكتاب والرؤساء على اختلاف منازلهم، وكان له صديق قد اختلت أحواله وضاقت يده عما يريده مما دخل فيه غيره، فعمد إلى كيسين كبيرين نظيفين، فجعل في أحدهما ملحاً وفي الآخر أشناناً مكفراً، وكتب معهما رقعة نسختها: لو تمت الإرادة لأسعفت بالعادة، ولو ساعدت المكنة على بلوغ الهمة لاتبعت السابقين إلى برك وتقدمت المجتهدين في كرامتك، لكن قعدت القدرة عن البغية وقصرت الجدة عن مباراة أهل النعمة، وخفت أن تطوى صحائف البر وليس لي فيها ذكر، فأنفذت المبتدأ بيمنه وبركته والمختتم بطيبه ونظافته، صابراً على ألم التقصير، ومتجرعاً غصص الاقتصار على اليسير، فأما ما لم أجد إليه السبيل في قضاء حقك فالقائم فيه بعذري قول الله عز وجل "ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج" "التوبة: " والسلام. فلما حضر يحيى بن خالد الوليمة عرض عليه كاتبه الخدايا جميعها، حتى الكيسين والرقعة فاستظرفها، وأمر أن يملأ الكيسان مالاً ويردا عليه، فكان ذلك أربعة آلاف دينار.
وقال رجل ليحيى: والله لأنت أحلم من الأحنف بن قيس، فقال له: لا تقرب إلي من أعطاني فوق حقي.

ونادى إسحاق بن إبراهيم الموصلي أحد غلمانه فلم يجبه، فقال: سمعت يحيى بن خالد يقول: يدل على حلم الرجل سوء أدب غلمانه.

وكان يحيى يساير الرشيد يوماً فوقف له رجل فقال: يا أمير المؤمنين عطبت دابتي، فقال الرشيد: يعطى خمسمائة درهم، فغمزه يحيى، فلما نزلوا قال له الرشيد: يا أبت أومأت إلي بشيء ولو أعرفه، فقال: مثلك لا يجري هذا القدر على لسانه، إنما يذكر مثلك خمسة آلاف ألف، عشرة آلاف ألف، فقال: إذا سئلت مثل هذا كيف أقول؟ فقال: تقول: يشترى له دابة.

وبالجملة فإن أخبارهم كثيرة، ولا يحتمل هذا المختصر الإطالة أكثر من هذا.

ولما قتل هارون الرشيد جعفر بن يحيى البرمكي - كما ذكرناه في حرف الجيم من هذا الكتاب - نكب البرامكة وحبس يحيى وابنه الفضل - كما ذكرناه في حرف الفاء من هذا الكتاب - وكان حبسهما في الرافقة، وهي الرقة القديمة تجاور الرقة الجديدة، وهي البلد المشهور الآن على شاطئ الفرات، ويقال لهما الرقتان، تغليباً لأحد الاسمين على الآخر، كما قيل العمران والقمران وغير ذلك.
وحكى الجهشياري في كتاب " أخبار الوزراء " أن يحيى بن خالد اشتهى في وقت من الأوقات في محبسه وهو مضيق عليه سكباجة، فلم يطلق له اتخاذها إلا بمشقة، فلما فرغ من يد المتخذ لها فانكسرت، فأنشد يحيى أبياتاً يخاطب بها الدنيا، ومضمونها اليأس وقطع الأطماع.

ولم يزل يحيى في حبس الرافقة إلى أن مات في الثالث من المحرم سنة تسعين ومائة فجأة من غير علة، وهو ابن سبعين سنة، وقيل أربع وسبعين، وصلى عليه ابنه الفضل، ودفن في شاطئ الفرات في ربض هرثمة، ووجد في جيبه رقعة مكتوب فيها بخطه: قد تقدم الخصم، والمدعي عليه في الأثر، والقاضي هو الحكم العدل الذي لا يجور ولا يحتاج إلى بينة. فحملت الرقعة إلى الرشيد، فلم يزل يبكي يومه وبقي أياماً يتبين الأسى في وجهه، رحمهم الله تعالى.

وكان يحيى يجري على سفيان الثوري، رضي الله عنه، في كل شهر ألف درهم، وكان سفيان يقول في سجوده: اللهم إن يحيى كفاني أمر دنياي، فاكفه أمر آخرته، فلما مات يحيى رآه بعض إخوانه في النوم فقال له: ما صنع الله بك؟ قال: غفر لي بدعاء سفيان، وقيل إن صاحب هذه القضية هو سفيان بن عيينة لا سفيان الثوري، والله تعالى أعلم.

قال الجهشياري: ندم الرشيد على ما كان منه في أمر البرامكة وتحسر على ما فرط منه في أمرهم، وخاطب جماعة من إخوانه بأنه لو وثق منهم بصفاء النية منهم لأعادهم إلى حالهم. وكان الرشيد كثيراً ما يقول: حملونا على نصحائنا وكفاتنا، وأوهمونا أنهم يقومون مقامهم، فلما صرنا إلى ما أرادوا لم يغنوا عنا، وأنشد:

 أقلـوا عـلـينـا لا أبـا لأبـيكـم         من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا

قلت: هذا البيت للحطيئة الشاعر، وبعده:

أولئك قوم إن بنوا أحسنوا الـبـنـا    وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا

قلت: وذكر الزمخشري في كتاب " ربيع الأبرار " ما مثاله: إنه وجد تحت فراش يحيى بن خالد البرمكي رقعة فيها مكتوب:

وحق الله إن الظلم لـوم            وإن الظلم مرتعه وخـيم
إلى ديان يوم الدين نمضي       وعند الله تجتمع الخصوم