أبو الفتوح يحيى بن حبش بن أميرك، الملقب شهاب الدين، السهروردي الحكيم المقتول بحلب، وقيل اسمه أحمد، وقيل كنيته اسمه وهو أبو الفتوح، وذكر أبو العباس أحمد بن أبي أصيبعة الحزرجي الحكيم في كتاب " طبقات الأطباء " أن اسم السهروردي المذكور عمر، ولم يذكر اسم أبيه، والصحيح الذي ذكرته أولاً، فلهذا بنيت الترجمة عليه، فإني وجدته بخط جماعة من أهل المعرفة بهذا الفن وأخبرني به جماعة أخرى لا أشك في معرفتهم، فقوي عندي ذلك، فترجمت عليه، والله أعلم.
كان المذكور من علماء عصره، قرأ الحكمة وأصول الفقه على الشيخ مجد الدين الجيلي بمدينة المراغة من أعمال أذربيجان، إلى أن برع فيهما وهذا مجد الدين الجيلي هو شيخ فخر الدين الرازي، وعليه تخرج وبصحبته انتفع، وكان إماماً في فنونه.
وقال في " طبقات الأطباء ": كان السهروردي المذكور أوحد أهل زمانه في العلوم الحكمية، جامعاً للفنون الفلسفية بارعاً في الأصول الفقهية، مفرط الذكاء فصيح العبارة، وكان علمه أكثر من عقله، ثم ذكر أنه قتل في أواخر سنة ست وثمانين وخمسمائة، والصحيح ما سنذكره في أواخر هذه الترجمة إن شاء الله تعالى، وعمره نحو ست وثلاثين سنة، ثم قال: ويقال إنه كان يعرف علم السيمياء.
وحكى بعض فقهاء العجم: أنه كان في صحبته، وقد خرجوا من دمشق، قال: فلما وصلنا إلى القابون، القرية التي على باب دمشق في طريق من يتوجه إلى حلب، لقينا قطيع غنم مع تركماني، فقلنا للشيخ: يا مولانا نريد من هذه الغنم رأساً نأكله، فقال: معي عشرة دراهم، خذوها واشتروا بها رأس غنم، وكان هناك تركماني فاشترينا منه رأساً بها، ومشينا قليلاً فلحقنا رفيق له وقال: ردوا هذا الرأس، خذوا أصغر منه، فإن هذا ما عرف يبيعكم، يساوي هذا الرأس أكثر من ذلك، وتقاولنا نحن وإياه، فلما عرف الشيخ ذلك قال لنا: خذوا الرأس وامشوا وأنا أقف معه وأرضيه، فتقدمنا نحن، وبقي الشيخ يتحدث معه ويطيب قلبه، فلما أبعدنا قليلاً تركه وتبعنا، وبقي التركماني يمشي خلفه ويصيح به، وهو لا يلتفت إليه، فلما لم يكلمه لحقه بغيظ وجذب يده اليسرى، وقال: أين تروح وتخليني؟ وإذا بيد الشيخ قد انخلعت من عند كتفه وبقيت في يد التركماني ودمها يجري، فبهت التركماني وتحير في أمره، فرمى اليد وخاف، فرجع الشيخ وأخذ تلك اليد بيده اليمنى ولحقنا، وبقي التركماني راجعاً وهو يتلفت إليه حتى غاب عنه، ولما وصل الشيخ إلينا رأينا في يده اليمنى منديلاً لا غير.
قلت: ويحكى عنه مثل هذا أشياء كثيرة، والله أعلم بصحتها.
وله تصانيف، فمن ذلك كتاب " التنقيحات " في أصول الفقه، وكتاب " التلويحات "، وكتاب " الهياكل "، وكتاب " حكمة الإشراق "، وله الرسالة المعروفة " بالغربة الغريبة " على مثال " رسالة الطير "لأبي علي ابن سينا، ورسالة " حي بن يقظان " لابن سينا أيضاً، وفيها بلاغة تامة أشار فيها إلى حديث النفس وما يتعلق بها اصطلاح الحكماء.
ومن كلامه: الفكر في صورة قدسية، يتلطف بها طالب الأريحية، ونواحي القدس دار لا يطؤها القوم الجاهلون، وحرام على الأجساد المظلمة أن تلج ملكوت السموات، فوجد الله وأنت بتعظيمه ملآن، واذكره وأنت من ملابس الأكوان عريان، ولو كان في الوجود شمسان لانطمست الأركان، فأبى النظام أن يكون غير ما كان:
فخفيت حتى قلت لست بظاهـر |
|
وظهرت من سعتي على الأكوان |
آخر:
لو علمنا أننا ما نلتـقـي |
|
لقضينا من سليمى وطرا |
اللهم خلص لطيفي من هذا العالم الكثيف.
وتنسب إليه أشعار: فمن ذلك ما قاله في النفس على مثال أبيات ابن سينا العينية، وهي مذكورة في ترجمته في حرف الحاء، واسمه الحسين، فقال هذا الحكيم:
خلعت هياكلها بجرعاء الحـمـى |
|
وصبت لمغناها القديم تـشـوقـا |
وتلفتت نحو الديار فـشـاقـهـا |
|
ربع عفت أطلاله فـتـمـزقـا |
وقفت تسائلـه فـرد جـوابـهـا |
|
رجع الصدى أن لا سبيل إلى اللقا |
فكأنما برق تألـق بـالـحـمـى |
|
ثم انطوى فكأنـه مـا أبـرقـا |
ومن شعره المشهور:
أبـداً تـحـن إلـيكــم الأرواح |
|
ووصالكم ريحـانـهـا والـراح |
وقلوب أهل ودادكم تشـتـاقـكـم |
|
وإلى لـذيذ لـقـائكـم تـرتـاح |
وارحمة للعاشقـين تـكـلـفـوا |
|
ستر المحبة والهـوى فـضـاح |
بالسر إن باحوا تبـاح دمـاؤهـم |
|
وكذا دماء الـبـائحـين تـبـاح |
وإذا هم كتموا تحـدث عـنـهـم |
|
عند الوشاة المدمـع الـسـفـاح |
وبدت شواهد للسقـام عـلـيهـم |
|
فيها لمشكـل أمـرهـم إيضـاح |
خفض الجناح لكم وليس علـيكـم |
|
للصب في خفض الجناح جنـاح |
فإلى لقاكم نـفـسـه مـرتـاحة |
|
وإلى رضاكم طرفـه طـمـاح |
عودوا بنور الوصل من غسق الجفا |
|
فالهجر ليل والوصـال صـبـاح |
صافاهم فصفوا له فقـلـوبـهـم |
|
في نورها المشكاة والمصـبـاح |
وتمتعوا فالوقت طاب بقـربـكـم |
|
راق الشـراب ورقـت الأقـداح |
يا صاح ليس على المحب مـلامة |
|
إن لاح في أفقٍ الوصال صبـاح |
لا ذنب للعشاق إن غلب الـهـوى |
|
كتمانهم فنما الـغـرام وبـاحـوا |
سمحوا بأنفسهم وما بخلـوا بـهـا |
|
لما دروا أن الـسـمـاح ربـاح |
ودعاهم داعي الحـقـائق دعـوة |
|
فغدوا بها مستأنـسـين وراحـوا |
ركبوا على سنن الوفا فدموعـهـم |
|
بحر وشـدة شـوقـهـم مـلاح |
والله ما طلبوا الوقـوف بـبـابـه |
|
حتى دعوا وأتاهم الـمـفـتـاح |
لا يطربون بغير ذكر حبـيبـهـم |
|
أبداً فكـل زمـانـهـم أفـراح |
حضروا وقد غابت شواهد ذاتهـم |
|
فتهتكوا لـمـا رأوه وصـاحـوا |
أفناهم عنهم وقد كشـفـت لـهـم |
|
حجب البقا فـتـلاشـت الأرواح |
فتشبهوا إن لم تكونوا مـثـلـهـم |
|
إن التشبـه بـالـكـرام فـلاح |
قم يا نديم إلى المدام فـهـاتـهـا |
|
في كاسهـا قـد دارت الأقـداح |
من كـرم إكـرام بِـــدنّ ديانة |
|
لا خمرة قد داسـهـا الـفـلاح |
وله في النظم والنثر أشياء لطيفة لا حاجة إلى الإطالة بذكرها. وكان شافعي المذهب، ويلقب بالمؤيد بالملكوت، وكان يتهم بانحلال العقيدة والتعطيل ويعتقد مذهب الحكماء المتقدمين، واشتهر ذلك عنه، فلما وصل إلى حلب أفتى علماؤها بإباحة قتله بسبب اعتقاده وما ظهر لهم من سوء مذهبه، وكان أشد الجماعة عليه الشيخين: زين الدين ومجد الدين ابني جهبل.
وقال الشيخ سيف الدين الآمدي - المقدم ذكره في حرف العين: اجتمعت بالسهروردي في حلب، فقال لي: لا بد أن أملك الأرض، فقلت له: من أين لك هذا؟ قال: رأيت في المنام كأني شربت ماء البحر، فقلت: لعل هذا يكون اشتهار العلم وما يناسب هذا، فرأيته لا يرجع عنا وقع في نفسه، ورأيته كثير العلم قليل العقل، ويقال: إنه لما تحقق القتل كان كثيراً ما ينشد:
أرى قدمي أراق دمي |
|
وهان دمي فها ندمي |
والأول مأخوذ من قول أبي الفتح علي بن محمد السبتي - المقدم ذكره:
إلى حتفي مشى قدمي |
|
أرى قدمي أراق دمي |
فلم أنفـك مـن نـدم |
|
وليس بنافعي ندمـي |
وكان ذلك في دولة الملك الظاهر ابن السلطان صلاح الدين رحمه الله، فحبسه ثم خنقه بإشارة والده السلطان صلاح الدين، وكان ذلك في خامس رجب سنة سبع وثمانين وخمسمائة بقلعة حلب، وعمره ثمان وثلاثون سنة.
وذكره القاضي بهاء الدين المعروف بابن شداد قاضي حلب في أوائل سيرة صلاح الدين، وقد ذكر حسن عقيدته فقال: كان كثير التعظيم لشعائر الدين، وأطال الكلام في ذلك، ثم قال: ولقد أمر ولده صاحب حلب بقتل شاب نشأ يقال له " السهروردي " قيل عنه: إنه معاند للشرائع، وكان قد قبض عليه ولده المذكور لما بلغه خبره، وعرف السلطان به فأمر بقتله، فقتله وصلبه أياماً.
ونقل سبط ابن الجوزي في تاريخه عن ابن شداد المذكور أنه قال: لما كان يوم الجمعة بعد الصلاة سلخ ذي الحجة سنة سبع وثمانين وخمسمائة أخرج الشهاب السهروردي ميتاً من الحبس بحلب فتفرق عنه أصحابه.
قلت: وأقمت بحلب سنين للاشتغال بالعلم الشريف، ورأيت أهلها مختلفين في أمره، وكل واحد يتكلم على قدر هواه: فمنهم من ينسبه إلى الزندقة والإلحاد، ومنهم من يعتقد فيه الصلاح وأنه من أهل الكرامات، ويقولون: ظهر لهم بعد قتله ما يشهد له بذلك، وأكثر الناس على أنه كان ملحداً لا يعتقد شيئاً، نسأل الله تعالى العفو والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، وأن يتوفانا على مذهب أهل الحق والرشاد، وهذا الذي ذكرته في تاريخ قتله هو الصحيح، وهو خلاف ما نقلته في أول هذه الترجمة، وقد قيل إن ذلك كان في سنة ثمان وثمانين، وليس بشيء أيضاً.
وحبش: بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة وبالشين المعجمة.
وأميرك: بفتح الهمزة وبعدها ميم مكسورة ثم ياء مثناة من تحتها ساكنة وبعدها راء مفتوحة ثم كاف، وهو اسم أعجمي معناه أمير تصغير أمير، وهم يلحقون الكاف في آخر الاسم للتصغير.
وقد تقدم الكلام على سهرورد في ترجمة الشيخ أبي النجيب عبد القاهر السهروردي فليطلب منه، إن شاء الله تعالى.