جمال الدين ابن مطروح

أبو الحسن يحيى بن عيسى بن إبراهيم بن الحسين بن علي بن حمزة بن إبراهيم بن الحسين بن مطروح، الملقب جمال الدين، من أهل الصعيد مصر، ونشأ هناك وأقام بقوص مدة، وتنقلت به الأحوال في الخدم والولايات، ثم اتصل بخدمة السلطان الملك الصالح أبي الفتح أيوب الملقب نجم الدين ابن السلطان الملك الكامل ابن السلطان الملك العادل بن أيوب وكان إذ ذاك نائباً عن أبيه الملك الكامل بالديار المصرية، ولما اتسعت مملكة الكامل بالبلاد المصرية بل بالبلاد الشرقية، فصار له آمد وحصن كيفا وحران والرها والرقة ورأس عين وسروج وما انضم إلى ذلك، سير إليها ولده الملك الصالح المذكور نائباً عنه، وذلك في سنة تسع وعشرين وستمائة، فكان ابن مطروح المذكور في خدمته، ولم يزل يتنقل في تلك البلاد إلى أن وصل الملك الصالح إلى مصر مالكاً لها، وكان دخوله القاهرة يوم الأحد السابع والعشرين من ذي القعدة سنة سبع وثلاثين وستمائة، ثم وصل ابن مطروح بعد ذلك إلى الديار المصرية في أوائل سنة تسع وثلاثين وستمائة، فرتبه ناظراً في الخزانة، ولم يزل يقرب منه ويحظى عنده إلى أن ملك الملك الصالح دمشق في الدفعة الثانية، وكان ذلك في جمادى الأولى من سنة ثلاث وأربعين وستمائة.

ثم إن السلطان بعد ذلك رتب لدمشق نواباً، فكان ابن مطروح في صورة وزير لها، ومضى إليها وحسنت حالته وارتفعت منزلته.

ثم إن الملك الصالح توجه إلى دمشق فوصلها في شعبان سنة ست وأربعين، وجهز عسكراً إلى حمص لاستنقاذها من يدي نواب الملك الناصر أبي المظفر يوسف الملقب صلاح الدين بن الملك العزيز بن الملك الظاهر ابن السلطان صلاح الدين صاحب حلب، فإنه قد انتزعها من صاحبها الملك الأشرف مظفر الدين أبي الفتح موسى ابن الملك المنصور إبراهيم ابن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه عنوة، وكان منتمياً إلى الملك الصالح، فخرج من مصر لاسترداد حمص له، فعزل ابن مطروح عن ولايته بدمشق، وسيره مع العسكر المتوجه إلى حمص، وأقام الملك الصالح بدمشق إلى أن ينكشف له ما يكون من أمر حمص، فبلغه أن الفرنج قد اجتمعوا بجزيرة قبرص على عزم قصد الديار المصرية، فسير إلى عسكره المحاصرين بحمص وأمرهم أن يتركوا ذلك المقصد ويعودوا إلى لحفظ الديار المصرية، فعاد بالعسكر وابن مطروح في الخدمة، والملك الصالح متغير عليه متنكر له لأمور نقمها عليه، وطرق الفرنج البلاد في أوائل سنة سبع وأربعين، وملكوا دمياط يوم الأحد الثاني والعشرين من صفر من السنة، وخيم الملك الصالح بعسكره على المنصورة، وابن مطروح مواظب على الخدمة مع الإعراض عنه، ولما مات الملك الصالح ليلة النصف من شعبان سنة سبع وأربعين بالمنصورة وصل ابن مطروح إلى مصر وأقام في داره إلى أن مات.

هذه جملة حاله على الإجمال.

وكانت أدواته جميلة وخلاله حميدة، جمع بين الفضل والمروءة والأخلاق الرضية، وكان بيني وبينه مودة أكيدة ومكاتبات في الغيبة، ومجالس في الحضرة تجري فيها مذاكرات أدبية لطيفة، وله ديوان شعر أنشدني أكثره، فمن ذلك قوله في أول قصيدة طويلة:

هي رامة فخذوا يمين الـوادي

 

وذروا السيوف تقر في الأغماد

وحذار من لحظات أعين عينها

 

فلكم صرعن بها مـن الآسـاد

من كان منكم واثقـاً بـفـؤاده

 

فهناك ما أنا واثـق بـفـؤادي

يا صاحبي ولي بجرعاء الحمى

 

قل أسير ما لـه مـن فـادي

سلبته مني يوم بانـوا مـقـلة

 

مكحولة أجفانـهـا بـسـواد

وبحي من أنا في هـواه مـيت

 

عين على العشاق بالمرصـاد

وأغن مسكي اللمى معسـولـه

 

لولا الرقيب بلغت منه مرادي

كيف السبيل إلى وصال محجبٍ

 

ما بين بيض ظباً وسمر صعاد

في بيت شعرٍ نازل من شعـره

 

فالحسن منه عاكف في بـادي

حرسوا مهفهف قده بمثـقـف

 

فتشابه الـمـياس بـالـمـياد

قالت لنا ألف الـعـار بـخـده

 

في ميم مبسمه شفاء الصـادي

 

وهي طويلة اقتصرت منها على هذا القدر للاختصار.


ومن ذلك قوله:

علقته من آل يعرب لـحـظـه

 

أمضى وأفتك من سيوف عريبه

أسكنته في المنحنى من أضلعي

 

شوقاً لبارق ثغـره وعـذيبـه

يا عائبي ذاك الفتور بطـرفـه

 

خلوه ليه أنا قد رضيت بعيبـه

لدن وما مر النسيم بعـطـفـه

 

أرج وما نفح العبير بـجـيبـه

 

وكان في بعض أسفاره قد نزل في طريقه بمسجد وهو مريض فقال:

يا رب إن عجز الطبيب فداونـي

 

بلطيف صنعك واشفني يا شافي

أنا من ضيوفك قد حسبت وإن من

 

شيم الكرام البـر بـالأضـياف

 

ووجدت بعد موته رقعة فيها مكتوب هذان البيتان.


وأخبرني أنه جرى بينه وبين أبي الفضل جعفر بن شمس الخلافة الشاعر - المقدم ذكره - منازعة في بيت هو من جملة قصيدته التي أولها:

من لي بغصنٍ باللحاظ ممنطـق

 

حلو الشمائل واللمى والمنطـق

مثري الروادف مملق من خصره

 

أسمعت في الدنيا بمثر ممـلـق

 

والبيت الذي قد وقع فيه النزاع قوله:

وأقول يا أخت الغزال مـلاحةً

 

فتقول لا عاش الغزال ولا بقي

فزعم ابن شمس الخلافة أن هذا البيت له من جملة قصيدة هي في ديوانه، وعمل كل واحد منهما محضراً شهد فيه جماعة بأن البيت له، وحلف لي ابن مطروح أن البيت له، وكان محترزاً في أقواله، ولم تعرف منه الدعوى بما ليس له، والله المطلع على السرائر.

وأنشدني له بعض أصحابنا قال: أنشدني لنفسه:

يا من لبست عليه أثواب الضنى

 

صفراً موشعةً بحمر الأدمـع

أدرك بقية مهجة لو لـم تـذب

 

أسفاً عليك نفيتها عن أضلعي

 

وكان في مدة انقطاعه في داره وضيق صدره بسبب عطلته وكثرة كلفه قد حدث في عينيه ألم انتهى به إلى مقاربة العمى، وكنت أجتمع به في كل وقت، فتأخرت عنه مديدة لعذر أوجب ذلك، وكنت في ذلك الوقت أنوب في الحكم بالقاهرة المحروسة عن قاضي القضاة بدر الدين أبي المحاسن يوسف بن الحسن بن علي الحاكم بالديار المصرية المعروف بقاضي سنجار، فكتب إلي ابن مطروح يقول:

يا من إذا استوحش طرفي له

 

لم يخل قلبي منه مـن أنـس

والطرف والقلب، على ما هما

 

عليه، مأوى البدر والشمـس

 

وله من جملة قصيدة طويلة:

ملك الملاح ترى العيو

 

ن عليه دائرة يطـق

ومخيم بين الضـلـو

 

ع وفي الفؤاد له سبق

 

والبيت الأول مأخوذ من قول المتنبي:

وخصر تثبت الأبصار فيه

 

كأن عليه من حدقٍ نطاقا

واليطق: بفتح الياء المثناة من تحتها والطاء المهملة وبعدها قاف، وهو عبارة عن جماعة من الجند يبيتون كل ليلة حول خيمة الملك محيطين به يحرسونه إذا كان مسافراً، وهو لفظ تركي والسبق: بفتح السين المهملة والباء الموحدة وبعدها قاف، وهي خيمة الملك إذا كان مسافراً، فإنه تقدم له خيمة إلى المنزلة التي يتوجه إليها، حتى إذا جاءها له ينزل فيها، ولا يتوقف على انتظار وصول الخيمة التي كان بها في تلك المنزلة التي رحل منها.


وله بيتان ضمنهما بيت المتنبي وأحسن فيهما، وهما:

إذا ما سقاني ريقه وهو بـاسـم

 

" تذكرت ما بين العذيب وبارق "

ويذكرني من قده ومـدامـعـي

 

" مجر عوالينا ومجرى السوابق "

 

وهذا المعنى للمتنبي في أول قصيدة بديعة طويلة، وهي:

تذكرت ما بين العذيب وبارق

 

مجر عوالينا ومجرى السوابق

 

وكانت بينه وبين بهاء الدين زهير - المقدم ذكره في حرف الزاي - صحبة قديمة من زمن الصبا، وإقامتهما ببلاد الصعيد، حتى كانا كالأخوين، وليس بينهما فرق في أمور الدنيا، ثم اتصلا بخدمة الملك الصالح وهما على تلك المودة، وبينهما مكاتبات بالأشعار فيما يجري لهما، فأخبرني بهاء الدين زهير أن جمال الدين ابن مطروح كتب إليه بعض الأيام يطلب منه درج ورق، وكان قد ضاق به الوقت، وأظنهما كانا ببلاد الشرق معاً:

أفلست يا سيدي من الورق

 

فجد بدرج كعرضك اليقق

وإن أتى بالمداد مقتـرنـاً

 

فمرحباً بالخدود والحـدق

 

قال بهاء الدين زهير، وقد فتح الراء من " الورق " وكسرها تنبيهاً على حاله، فكتبت إليه:

مولاي سيرت ما رسمت به

 

وهو يسير المداد والورق

وعز عندي تسيير ذاك وقد

 

شبهته بالخدود والـحـدق

 

وقد سبق في ترجمة بهاء الدين ذكر بيتين كتبهما ابن مطروح إلى بهاء الدين وذكرت السبب في نظم ذينك البيتين على ما حكاه لي بهاء الدين، ثم بعد ذلك وصل إلى الديار المصرية من الموصل بعض الأدباء وجرى حديث ما ذكره لي بهاء الدين زهير وأنه أنشدني بيت ابن الحلاوي وهو قوله:

تجيزها وتجيز المادحين بها

 

فقل لنا أزهير أنت أم هرم

 

فقال ذلك الأديب: هذه القصيدة أنشدنيها ناظمها ابن الحلاوي ونحن بالموصل، وأروي عنه هذا البيت على خلاف هذه الرواية فإنه أنشدني:

تجيدها ثم تجدو من أتاك بها

 

فقل لنا أزهير أنت أم هرم

فما أدري: هل ابن الحلاوي أنشدها أولاً كما رواه بهاء الدين زهير ثم غير البيت كما رواه هذا الأديب أم حصل الغلط لأحدهما؟ والله تعالى أعلم، مع أن كل واحد من الطريقين حسن.


وقصة زهير بن أبي سلمى المزني الشاعر الجاهلي المشهور معلومة فلا حاجة إلى شرحها والخروج عما نحن بصدده، فإنه كان يمدح هرم بن سنان المري أحد أمراء العرب في الجاهلية، وكان هرم كثير العطاء له، حتى آلى على نفسه أنه لا يسلم عليه زهير إلا أعطاه غرة من ماله فرساً أو بعيراً أو عبداً أو أمة، فأجحف ذلك بهرم، فجعل زهير يمر بالجماعة فيهم هرم فيقول: عموا صباحاً خلا هرماً، وخيركم تركت.


ونعود إلى ما كنا فيه من حديث ابن مطروح:  بلغني أنه كتب قبل ارتفاع درجته رقعة تتضمن شفاعة في قضاء شغل بعض أصحابه، أرسلها إلى بعض الرؤساء، فكتب ذلك الرئيس في جوابه " هذا الأمر فيه علي مشقة " فكتب جوابه ثانية " لولا المشقة " فلما وقف عليها ذلك الرئيس قضى شغله وفهم قصده، وهو قول المتنبي:

لولا المشقة ساد الناس كلهم

 

الجود يفقر والإقدام قتـال

 

وهذا من لطيف الإشارات.


وأنشدني الأديب الفاضل جمال الدين أبو الحسين يحيى بن عبد العظيم بن يحيى بن محمد بن علي المعروف بالجزار المصري قصيدة بديعة مدح بها جمال الدين ابن مطروح المذكور، وهي بديعة فاقتصرت منها على ذكر غزلها، وهو هذا:

هو ذا الربيع ولي نفس مشـوقـه

 

فاحبس الركب عسى أقضي حقوقه

فقبيح بـي فـي شـرع الـهـوى

 

بعد ذلك البر أن أرضى عقـوقـه

لست أنسى فيه لـيلاتٍ مـضـت

 

مع من أهوى وساعـاتٍ أنـيقـه

ولئن أضحى مـجـازاً بـعـدهـم

 

فغرامي فيه مـا زال حـقـيقـه

يا صديقي والكـريم الـحـر فـي

 

مثل هذا الوقت لا ينسى صـديقـه

ضع يداً منك على قلبـي عـسـى

 

أن تهدي بين جنبـي خـفـوقـه

فاض دمعي مذ رأى ربع الهـوى

 

ولكم فاض وقـد شـام بـروقـه

نفـد الـلـؤلـؤ مـن أدمـعــه

 

فغدا ينثر في التـرب عـقـيقـه

قف معي واستوقف الركـب فـإن

 

لم يقف فاتركه يمضي وطـريقـه

فهي أرض قلـمـا يلـحـقـهـا

 

آمل والركب لم أعدم لـحـوقـه

طالما استجلـيت فـي أرجـائهـا

 

من يتيه البدر إذ يدعى شـقـيقـه

يفضـح الـورد احـمـراراً خـده

 

وتود الخمر لـو تـشـبـه ريقـه

فبه الـحـسـن خـلـيق لـم يزل

 

والمعالي بابن مطروح خـلـيقـه

 

وكانت ولادته يوم الاثنين ثامن رجب سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة بأسيوط، وتوفي ليلة الأربعاء مستهل شعبان سنة تسع وأربعين وستمائة بمصر، ودفن بسفح الجبل المقطم، وحضرت الصلاة عليه ودفنه، وأوصى أن يكتب عند رأسه دوبيت نظمه في مرضه، وهو:

أصبحت بقعر حفرةٍ مرتهنـاً

 

لا أملك من دنياي إلا كفنـا

يا من وسعت عبادة رحمتـه

 

من بعض عبادك المسيئين أنا

ومما ذكر أنه وجد في رقعة مكتوبة تحت رأسه بعد موته:

أتجزع مِ الموت هذا الجزع

 

ورحمة ربك فيها الطمع

ولو بذنوب الورى جـئتـه

 

فرحمته كل شيء تسـع

رحمه الله تعالى.

وتوفي قاضي القضاة بدر الدين يوسف المذكور يوم السبت رابع عشر رجب سنة ثلاث وستين وستمائة بالقاهرة، ودفن في تربته المجاورة لمدرسته بالقرافة الصغرى. وأخبرني مراراً عديدة أنه ولد في شهر ربيع الأول سنة ثمان وخمسمائة في جبال إربل، وهو زرزاري النسب، رحمه الله تعالى.

وأسيوط: بضم الهمزة وسكون السين المهملة وضم الياء المثناة من تحتها وبعدها واو ساكنة ثم طاء مهملة، وهي بليدة بالصعيد الأعلى من ديار مصر ومنهم من يسقط الهمزة ويضم السين فيقول: سيوط، والله تعالى أعلم.